المحبة وأنواعها وبعض آثارها الجليلة (1)
«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا».
المحبة: ينبئك عنها قلبك أكثر مما تنبئك عنها الحدود والرسوم؛ والشيء إنما يُحدُّ لخفائه واستتاره كي يظهر ويتبين؛ فإذا كان الشيء ظاهرًا جليًّا يعرفه جميع العقلاء لم يحتج إلى حدٍّ. المحبة: سِرُّ الله المخزون الذي تشفى به جميع الأدواء القومية، والترياق الذي تذهب به سموم الأمراض الاجتماعية. المحبة: هي أنجع وسيلة لاقتلاع الشرور من النفوس، وإبادة أنواع التفنن فيها من العالم البشري. وإذا تأكدتْ بين قوم أحلَّتهم محل الصفاء، وسارت بهم أسرع ما يكون في طريق الارتقاء، ونقلتهم إلى دائرة الأسرة الواحدة، فكانوا كالجسم الواحد إذا تألم منه عضو تألم له سائر الجسد.
لو تـمَّت المحبة بين الناس لما رأيت دما يسفك، ولا عِرضًا يهتك، ولا مالا يُسرق؛ ولما رأيت المحاكم الأهلية كالأسواق مزدحمة بكل أنواع القضايا، ولا وجدت المحاكم الشرعية مكتظة بدعاوى الأقارب لميراثهم والزوجات لنفقاتهن.
لو تمت المحبة بين الناس لبات كل إنسان بين أسرته على أتم ما يكون من الصفاء وأكبر ما يتصور من النعيم؛ ولكان عيش الناس في الدنيا أشبه شيء بعيش أهل الجنة في الجنة.
وأظنك كثيرًا ما تحركت منك الغبطة عندما ترى ما بين الأسرة الفقيرة من المحبة التي جعلتهم يتقلبون في الهناء، ولا يحسون بالشقاء.
لو تمت المحبة بين الناس لتمت بينهم الرحمة: فانتفع الضعيف بالقوي، والفقير بالغني، والصغير بالكبير، والصعلوك بالأمير، وامتلأت الأرض خيرًا وبركة.
وإجمال القول في المحبة بعد ذلك كله أنه لولا الحب لم يتم نعيم لمتنعم. وكيف ينعم الإنسان بغير ما يحب؟! ولهذا ترى المغنين لا يكادون يغنون إلا بما يكون فيه ذكر الحب والمحبين؛ ولا يجد الإنسان سلوة لنفسه ولا نعيمًا بقلبه إلا بتلك الذكريات اللذيذة والأوقات السالفة التي قضاها فيما يحب ومع من يحب.
وبالجملة فراحة الإنسان وسرور نفسه وبهجة روحه لا تكون إلا لذكر الحب، وشرح الكامن في الفؤاد المثير للعواطف، مما له سلطان فوق العقل وسر يدق عن التعبير.
لهذا كله لم يرد في الكتاب والسنة من الحثِّ على شيء مثل ما ورد في المحبة، عِلمًا منه صلى الله عليه وسلم بأنها أساس الخير وجماع الفضائل حتى جعلها شرطًا في الإيمان، قال: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا». رواه مسلم.
فانظر كيف جعلها شرطًا في الإيمان؟!
ولم يكتف بذلك حتى أقسم عليه صلى الله عليه وسلم. وقد ورد في الحثِّ على المحبة والتحذير من التشاحن والتفرق ما لا يكاد يُحصى -وستسمع شيئًا من ذلك- وكأنه مرمى الدِّين الذي لا يريد غيره.
وقد جاء في الصحيح: «لا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانًا».
و:{إِنَّمَا المُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}[الحجرات: ١٠]. وقال:{وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا}[آل عمران: ١٠٣]. وقال مُخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم مذكرًا إياه تلك المنة الكبرى:{وَإِن يُرِيدُوا أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ* وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مَّا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 62 ، 63].
وقد أثنى على قومٍ بقوله عز وجل:{وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}[الحشر:10].
وقال: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء:114].
وقد أُمِرْنا بلين الكلام وإفشاء السلام، ونهينا عن الخصام فوق ثلاثة أيام.
وقد جاء كل ذلك طلبًا للمحبة ومحافظة على مباديها، رجاء أن تنتهي بالناس إلى غايتها فيزول عنهم الشقاء وتتم لهم السعادة. فإن استطعت أن تبيت وليس في قلبك بغض لأحد فافعل.
أزل ما في قلبك من الحقد للناس كافة، وتودد إليهم ليصفو عيشك وتطيب حياتك.وقد قال صلى الله عليه وسلم : «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه». أخرجه البخاري ومسلم.
«والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن. قيل: من يا رسول الله؟! قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه». رواه البخاري ومسلم.
صالح أعداءك، وأرح نفسك من عناء الفكر، وقلبك من تدبير السوء، واربأ بعمرك العزيز أن تصرفه في طرق العناد وأسباب الفساد،وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أربعٌ من كُنَّ فيه كان منافقًا خالصًا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» رواه البخاري ومسلم
hglpfm ,Hk,huih ,fuq Nehvih hg[gdgm
المفضلات