بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
كان المسلمون -علماء وعامة- ولا يزالون يأخذون بما صح لديهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من أحاديث وسنن، ويعدونها من الدين الذي شرعه الله تعالى لهم؛ فيمتثلون لها ويسلمون لما جاء فيها ويأخذون به تصديقاً وإيماناً وعملاً.
ولم يكن المسلمون يفعلون ذلك في يومٍ من الأيام هوىً أو تقليداً أعمى بغير بينة! بل كانو ولايزالوا ينطلقون في ذلك من أصل الاتباع الذي أمرهم الله تعالى به لرسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إنهم كانوا ينطلقون في أخذهم بما صح من أخباره صلى الله عليه وسلم من قواعد علمية وأصولٍ ثابتة منضبطة، وهذا ما سنتحدث عنه إن شاء الله تعالى:
سوف نعرض هنا حجة المسلمين في أخذهم بما صح من الأحاديث التي رويها الثقات والتي اصطلح على تسميتها (أحاديث الآحاد).
وسوف نبين فيها منهج الآخذين بهذه الأحاديث في أمور الدين كافة؛ سواءً في أمور الإيمان أو في في أمور العمل والأحكام.
تمهيد:
وغني عن البيان أن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنته هما حجة لازمة واجبة الاتباع على كل مسلم لا يعذر أحد في ترك اتباعها لعموم أمر الله تعالى باتباع نبيه صلى الله عليه وسلم والتأسي به وطاعته مطلقاً، كما : (قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم). وقال سبحانه: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)، وقال سبحانه: (وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون).
ثم إن من حديثه وسنته صلى الله عليه وسلم ما تناقله المسلمون كافة -علماؤهم وعامتهم- بعينه مجمعين على الإخبار به والعمل به كالصلوات الخمس وأعمالها وألفاظ الأذان وقيام رمضان والاحتفاء بالعيدين والعلم بتحريم الرشوة وكالقراءات والمعرفة بمواقيت الحج الزمانية والمكانية وغير ذلك مما تناقله أهل الاختصاص من علماء المسلمين كالقراء والقضاة والفقهاء وأهل الحديث وغيرهم.
كما أن من حديثه صلى الله عليه وسلم وسنته ما انفرد بعض أهل العلم بتناقله دون بعض، ومنها ما انفرد بنقله بعض الرواة دون بعض وقد قام أهل العلم بجمع هذه الروايات في كتب خاصة؛ وهذه الأحاديث والسنن هي محور حديثنا هنا.
ولقد رأينا أهل العلم كافة -على مر العصور وتعاقب الأجيال- يأخذون بما صح لديهم من هذه الروايات المنفردة ويفتون بها وينشرونها في كتبهم ومقالاتهم ورسائلهم.
فهل كان أهل العلم يفعلون ذلك هوى بغير بينة؟!
وما هي حجة هؤلاء العلماء ون سار على نهجهم في قبول الأخبار المنفردة (أخبار الآحاد) والأخذ بها؟ هذا ما سنبينه هنا إن شاء الله.
لقد تواترت لدينا الخبار بنقل ألوف مؤلفة من رواة المسلمين بوجود أخبار ينسبها هؤلاء الرواة جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تتضمن أقوالاً وأفعالاً وأحوالاً له صلى الله عليه وسلم.
وقد تلقينا هذه الأخبار عن هؤلاء الرواة بعضهم عن بعض مدونة في كتب الحديث من مسانيد وسنن وأجزاء وغيرها والتي تلقيناها بدورها عن مؤلفيها متواترة أو مشتهرة عنهم -بالإضافة إلى روايتنا ورواية غيرنا أجزاء من هذه الكتب عنهم-.
وهنا لا بد من ورود هذا التساؤل:
فما هو موقفنا من الأخبار التي وصلت إلينا؟ وكيف نتعامل معها؟
هل نتعامل مع هذه الأخبار وكأنها لم تكن فنتوقف في قبولها أو ردها؟ ولماذا؟ وما المانع من قبولها؟
أم نرد هذه الأخبار جميعاً؟ فعلى أي أساس نفعل ذلك، وليس لدينا ما يكذب هذه الأخبار أو يكذب ناقليها أصلاً؟! بل إن لدينا ما يضطرنا اضطراراً لقبول ما جاؤوا به عموماً والجزم واليقين التام بأن في رواياتهم ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم أو فعله! إذ لا يعقل أن يتفق كل هؤلاء الألوف من الرواة على الجرأة على نسبة أي خبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم ويتفقوا على الكذب عليه جميعاً!
فنحن إذن لا نستطيع رد كل هذه الأخبار برمتها بل إننا لا نستطيع التوقف فيها لعدم وجود ما يمنع من قبولها البتة لا من جهة الشرع ولا من جهة الواقع وهذا من جهة، ومن جهة أخرى فإننا لا نستطيع تكذيب كل هؤلاء الرواة الذين رووا لنا هذه الأحاديث ونقلوها لنا عن بعضهم وهم ألوف مؤلفة.
فإن من المحال أن يتواطأ هؤلاء الألوف المؤلفة فينسبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقله فتكون كل هذه الأحاديث مكذوبة كلها إن هذا هو عين المحال!
وهذا ما يضطرنا اضطراراً للتسليم بأن في هذه الأخبار ما هو ثابت قطعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ لا يمكن أن تكون جميع هذه الأخبار مكذوبة.
ولذلك فقد اضطررنا للنظر في هذه الأخبار.
ومع ذلك كله فإننا لم نأخذ بكل هذه الأخبار برمتها ولم نقبل منها أي خبر كيفما اتفق!
فنحن لم نأخذ من هذه الأخبار إلا بما اطمأننا إلى ثبوته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم- والاطمئنان هنا هو اطمئنان علمي منهجي منضبط مبني على قواعد وأصول وليس حسب الهوى أو الذوق أو غيرهما!).
فنحن لا نأخذ من هذه الأخبار جميعاً إلا بالصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره.
والخبر الصحيح -باختصار- هو: الخبر الذي رواه لنا من تحققنا من معرفتهم بأعيانهم وعرفنا عدالتهم وأمانتهم وضبطهم عن بعضهم ثم لم يكن في روايتهم ما يمنع من الأخذ بها.
أي أن تصديقنا للخبر الصحيح وقبولنا له ليس لمجرد أنه مروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وحسب بل هو مبني على أمرين سوى ذلك:
أولهما: معرفتنا برواته وثقتنا بهم وبضبطهم وذلك من خلال معرفتنا بسيرهم وتتبعنا أخبارهم وأحوالهم وما يتعلق بذلك كله.
وثانيهما: عدم وجود ما يمنع من قبول خبر هؤلاء الثقات، ونعني بما يمنع من قبوله هنا: هو مخالفته للحقائق المتحققة المقطوع بها المتفق على كونها حقائق.
وأما ما عدا الحقائق فلا اعتبار له عندنا جملة وتفصيلاً.
فلا يهمنا -بعد تحققنا من الأمرين السابقين- أن يكون الحديث موافقاً لأهوائنا وأذواقنا أو عواطفنا وأن يكون مخالفاً لها؛ فموافقة الخبر للأهواء والعواطف وما يشبهها أو مخالفته لها ليس دليلاً على صحة الخبر أو عدم صحته، فالأهواء والأذواق وما شابهها ليست مقياساً بأي شكل من الأشكال.
كما أننا لا ننظر بعد ذلك إلى موافقة ما يحمله الخبر لما ألفناه أو اعتدنا عليه أو عدم موافقته.
فسواءً كان الخبر موافقاً لما ألفناه أو غير موافق وسواءً كان أمراً عادياً أو خارقاً للعادة وسواءً استغرب الناس ما جاء في الحديث أو استبعدوه أو أو استنكروه أو استهجنوه أو استشنعوه فكل ذلك لا يقدم ولا يؤخر في حقيقة الأمر شيئاً وكل ذلك لا يعد دليلاً على صحة الخبر أو عدم صحته كذلك؛ فالاعتبار عندنا للحقائق لا سواها.
وبعد: فإذا جاءنا خبر صحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم يحمله ثقة معروف بعدالته وأمانته عن مثله عن مثله...إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال كذا أو فعل كذا أو أمر بكذا أو نهى عن كذا... ولم يكن لدينا ما يمنع من قبول هذا الخبر؛ فما هو موقفنا تجاه هذا الخبر؟ وهل نملك إلا أن نقبل هذا الخبر؟
لنضرب مثلاً على ما نقول:
فقد قال الإمام المبجل أحمد بن حنبل -رحمه الله- في "المسند" (25709): "حدثنا عبد الرزاق؛ أخبرنا معمر؛ عن الزهري؛ عن عروة؛ عن عائشة؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خلقت الملائكة من نور، وخلق الجان من مارج من نار، وخلق آدم -عليه السلام- مما وصف لكم"
فها هو الإمام أحمد يروي لنا حديثاً في "مسنده" عن أمناء عظام عن بعظهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلقت الملائكة من نور...".
وكل من له معرفة بارواة ويعلم شيئاً عن الرواية يعلم أن هؤلاء الرواة جميعاً هم من عظماء الأمة وكلهم ممن أجمعت الأمة على تعريفهم وتقديمهم وتوثيقهم وتعديلهم.
وإلا فمن الذي لا يعرف إمام أهل السنة أحمد بن حنبل؟
ومن الذي لا يعرف شيخه عبد الرزاق الصنعاني العلم وصاحب "المصنف"؟
ومن الذي لا يعرف مَعْمَر بن راشد أحد أئمة الحديث الذين تعقد بهم الخناصر؟
ومن الذي لا يعرف محمد بن مسلم الزهر وزير الصدق؟
ومن الذي لا يعرف التابعي الجليل عروة بن الزبير أحد أجلة التابعين؟
ومن الذي يعرف أمنا عائشة الصديقة بنت الصديق؟
فكما ترى فكل هؤلاء الرواة ممن أجمعت الأمة على أنهم الثقات الأمناء وكل واحد منهم معروف بجلالة قدره ورفعة مكانته وقد تواترت أخبارهم لدى الأمة وكلهم تلقوا عن بعضهم وجلسوا إلى بعضهم وسمع كل منهم صاحبه وكلهم في مكان من الضبط والحفظ والإتقان.
ثم إننا تلقينا خبر هؤلاء الثقات متواتراً عن أحمد بإسناده مدوناً في "المسند" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فماذا نفعل تجاه هذا الخبر أيها الناس؟ وماذا سيكون موقفنا ونحن نرى هؤلاء الثقات يخبروننا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا؟ هل نملك إلا أن نصدقهم وأن نتلقى ما أخبرونا به بالقبول؟
وإلا فما عساه يكون موقفنا تجاه هذا الحديث؟
هل نكذب هذا الخبر؟ فعلى أي أساس نكذبه؟ أو على أي أساس نشك فيه؟ وما هو الفرق بين أخبار الثقات وأخبار الكذابين الدجالين إذن؟ وكيف نكذب بشيء ليس لدينا سبب لتكذيبه؟ بل إن لدينا السبب القوي لتصديقه والاطمئنان إليه وهو ثقتنا برواته واطمئناننا إلى أمانتهم!
وإذا كان الخبر المجرد الذي لا يعرف راويه أو يرويه الناس بغير إسناد -كالحواث السابقة للرسالة وسير السابقين- لا يستطيع أحد من الناس دفعه أو تكذيبه إلا إذا كان لديه سبب كاف يمنع من قبوله يبينه هذا الذي يكذب الخبر؛ فإذا لم يجد ما يمنع من قبوله فإنه لا يستطيع تكذيبه أو إنكاره كما أنه لا يستطيع الإنكار على من يصدقه أو يقبله؛ أقول: إذا كان هذا في الخبر العادي -أي خبر مطلقاً- فكيف إذا كان الخبر مروياً بنقل بنقل أمناء ثقات عدول معروفين عن بعضهم؟ أفلا يزيد هذا الخبر قبولاً؟!
ثم هل يستطيع أحد أن ينكر على من يأخذ بمثل هذا الخبر؟!
إنه ليس غريباً أن نأخذ بخبر الواحد الصحيح وليس عيباً أن نصدق الثقة الأمين!
إن الغريب والعجيب حقاً هو أن نرد خبراً -أي خبر- دونما سبب وأغرب من ذلك وأعجب أن نرد خبر ثقة صادق مأمون تعرف أمانته ويعرف ورعه لغير سبب.
أم أنه يطلب منا أن نتوقف في قبول هذا الخبر؟! ولماذا؟ وما الفرق عندئذ بين خبر الثقة المعروف وبين خبر النكرة المجهول؟
ليس أمامنا كما هو واضح إلا قبول الخبر وتصديقه وهذا هو موقفنا من الأحاديث الصحيحة.
إن خبر الثقة يدفعنا دفعاً لتصديقه وقبوله ومن هنا كان تصديقنا لأحاديث الآحاد وتلقينا لها بالقبول.
ما هي الثمرة؟:
وبعد: فما هي ثمرة تصديقنا للرواة الثقات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال ما قال؟ أليست الثمرة هي الأخذ بما جاء في الخبر من قول أو فعل أو أمر أو نهي والتسليم له؟ فإذا كان خبراً صدقناه وإذا كان أمراً ائتمرنا به وإذا كان نهياً انتهينا عنه وإذا كان فعلاً تأسينا به؟ أليست هذه الثمرة؟ وإلا فما هي فائدة تصديقنا للخبر إذن؛ إن كنا نزعم أنا صدقناه؟
وإذا لم نعمل بما جاء في هذا الخبر فهل يصدق من يعقل أننا صدقنا ما جاء فيه؟
إن عملنا بالحديث الصحيح الذي يرويه الثقة وأخذنا به مطلقاً هو الثمرة الطبيعية لتصديقنا له.
فخبر الثقة يدفعنا دفعاً لتصديقه وتصديقه يدفعنا دفعاً للأخذ بما يمليه علينا.
فإذا أخبرنا الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خلقت الملائكة من نور" وصدقناهم فيما أخبرونا به فهذ يعني أننا سنؤمن بما صدقنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله -أي أننا سنؤمن بأن الملائكة خلقت من نور-وهذه بدهية! ثم إننا نتبع هذا التصديق والإيمان بما يمليه علينا.
فإذا سئلنا مثلاً: مم خلقت الملائكة؟ فإننا سنجيب: خلقت الملائكة من نور.
وإذا كنت ألقي درساً على الناس وكان الدرس عن الملائكة وتحدثت عن صفتهم وعن خلقهم ومما خلقوا فإنني سأعرج على هذا الحديث وأخبر الناس بأن الملائكة خلقت من نور بناءً عليه، وهكذا.
ومثل ذلك إذا أخبرنا الثقات بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لا تلبسوا الحرير والديباج ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة ولا تأكلوا في صحافهما"، وصدقت هؤلاء الثقات فيما أخبروني به؛ فإن ثمرة هذا التصديق أن أمتنع عن لبس الحرير والديباج والشرب في آنية الذهب والفضة والأكل في صحافهم، ثم أحذر الناس من ذلك.
وإذا سألني سائل عن حكم الشرب في إناء الفضة مثلاً استذكرت هذا الحديث وحذرته من ذلك وأخبرته بنهي النبي صلى الله عليه وسلمالذي رواه لنا الثقات وحذرته من معصية النبي صلى الله عليه وسلم.
وهكذا في كل خبر يرويه الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم فإننا نصدقه ولا بد ثم إننا نعمل بما يمليه علينا هذا التصديق على النحو الذي بيناه.
وبعد: فإن أخذنا بخبر الآحاد الصحيح إنما بني على منهجية صحيحة واضحة منضبطة ولم تقم على هوى أو ظن أو ما يشبههما.
والحمد لله رب العالمين.
كتبه: خالد بن عبد الرحمنp[jkh td hgHo` fHofhv hgNph]
المفضلات