بسم الله الرحمن الرحيم
منى
ـ كما أن أجسامنا تحتاج يوميا إلى غذاء مادي ، فهكذا الروح والقلب يحتاجان
إلى غذاء يومي فغذاء الروح الخشوع في القرآن و الصلاة والدعاء والتوحيد ، وغذاء القلب القرآن والذكر لما جاء به من تعظيم :" لقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر" (القمر).
و:"ص والقرآن ذي الذكر" (ص:1).
وقوله جلا وعلا:" والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما"
(الأحزاب:35).
ويليها طاعة الله ورسوله ، والإيمان والإخلاص والصدق ، :
" إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا". (الإسراء:9).
لينعموا بالراحة والطمأنينة ولذة الإيمان :" الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ".
وقوله جلا وعلا:" إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا وعلى ربهم يتوكلون" (الأنفال:2).
بل وهو شفاء لهم ويكشف عنهم الغم والهم : "
وننزل من القرآن ما هو شفاء ورحمة للمؤمنين ولا يزيد الظالمين إلا خسارا".
(الإسراء:82).
و:" أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلا ما تذكرون ". (النمل:62).
ولا ننسى العلم والحكمة قال فتح الموصلي رحمه الله: أليس المريض إذا منع الطعام والشراب والدواء يموت؟ بلى ، قال: كذلك القلب إذا منع عنه العلم والحكمة ثلاثة أيام يموت. ولقد صدق فإن غذاء القلب أيضا العلم والحكمة
و بهما حياته ، ومن فقد العلم فقلبه مريض وموته لازم ولاكنه لا يشعر إذ حب الدنيا وشغله بها أبطل إحساسه.
يقولون الموسيقى غذاء الروح ومن أين للموسيقي أن تعرف الروح ، ومن أين للروح أن تعرفها ، بل هي غذاء فقط لملذاتهم بل هم يعيشون في أوهام بإتباعهم الهوى والشيطان ، ويصير على القلب غشاء لا يرى به ولا يفقه وأنا أتحدى كل من يقول هذا الكلام ، فا الذي خلق الروح هو الله
فلن تستجيب الروح إلا لخالقها ، :" إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد قل ربي أعلم من جاء بالهدى ومن هو في ضلال مبين"
.(القصص:85).
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
حب الكتاب وحب الحان الغناء *** في قلب عبد ليس يجتمعان
فإن امتنعت قراءة القرآن وتخل الإنسان عن الذكر وكل الطاعات وعدم تزكية النفس فيجد الشيطان سلاحه فيتغلغل إلى مكامنه ويوسوس إلى عقله فيصبح جاسوسا في قلبه :" الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا والله واسع عليم" (البقرة:268).
وعندما يتمكن الشيطان من الإنسان تبدأ الروح في العذاب ويبدأ القلب في المرض والفساد : " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون" (البقرة:10).
وهناك من تصبح قلوبهم قاسية كالحجارة وأكثر ، قال الله تعالى:" ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشد قسوة وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار
وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء وإن منها لما يهبط من خشية الله وما الله بغافل عما تعملون" (البقرة:74 ).
و:" ولكن قست قلوبهم وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون"
(الأنعام:43).
وبإتباع الشيطان فإنه يهيج النفس إلى شهوات الغي ،فيثير كامنها ويزعج قاطنها ويحركها إلى كل قبيح ويطلع على سرائر الأفئدة فيقع فيما لا يحمد عقباه ،
: " استحوذ عليهم السيطان فأنساهم ذكر الله أولئك حزب الشيطان ألا
إن حزب الشيطان هم الخاسرون" (المجادلة:19).
و:" يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا" (النساء:120).
لذا يجب أن نرجع إلى منهج القرآن وألا نتركه أبدا فإن القرآن ينهى عن إتباع الهوى
ويأمر بالعفة ، واجتناب شهوات النفوس ، وأسباب الغي وينهى عن إتباع خطوات الشيطان لأنه خطير جدا فهو هدفه فقط إضلال بني آدم والبقاء ورائه مدى حياته
إلى أن يقع في شباكه والقيام بأعماله بخطابه هذا في كتاب الله " قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين" (ص:82).
فنهان الله جلاوعلا عنه أشد النهي وحذرنا من هذا العدو الغرور الخداع وآيات الكتاب المبين مليئة بالآيات التي تحذرنا من الشيطان ومن وسوسته وتزينه للفواحش والمعاصي ومع ذلك ما أكثر ما يخدعنا وما أكثر ما ننجرف في طريقه
وهذه بعض الآيات التي تحذرنا من إبليس بقوله تعالى:
" ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله
ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا" (النساء:119).
" يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما إنه يراكم هو وقبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون" (الأعراف:27).
" إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم" (الأعراف:200).
" ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين" (يس:60).
"وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان
كان للإنسان عدوا مبينا"(الإسراء:53).
وغيرها كثير ولا كن سوف نقف كلنا مع هذه الآية بتصريح من الشيطان فماد يكون موقفنا ارجوا أن نتمعن فيها وأن نفهمها جيدا
يقول الله تعالى:" وقال الشيطان لما قضى الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما انتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل إن الظالمين لهم عذاب أليم " (إبراهيم:22).
هذه الآية تسمى خطبة إبليس ذكر الحسن كما في القرطبي: أن إبليس يقف يوم القيامة وقيل أنه يخطب خطبته هذه .خطيبا في جهنم على منبر من نار يسمعه الخلائق جميعا بعدما يسمع أهل النار يلومونه ويقرعونه على أن أغواهم حتى دخلوا النار . فيقول لهم: إن الله وعدكم وعد الحق أي وعدكم وعدا حقا بأن يثيب المطيع ويعاقب العاصي فوفى لكم وعده ، ووعدتكم فأخلفتكم أي وعدتكم ألا بعث ولا ثواب ولا عقاب فكذبتكم وأخلفتكم الوعد ، وما كان لي عليكم من سلطان أي لم يكن لي قدرة وتسلط عليكم إلا أن دعوتكم فا ستجبتم لي أي بالوسوسة والتزين فا ستجبتم لي باختياركم فلا تلوموني ولوموا أنفسكم أي لا ترجعوا باللوم علي اليوم ولكن لوموا أنفسكم فالذنب ذنبكم ، ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي أي ما أنا بمغيثكم ولا أنتم بمغيثي من عذاب الله ، إني كفرت بما أشركتمون من قبل أي كفرت بإشراككم لي مع الله في الطاعة ، إن الظالمين لهم عذاب أليم أي أن المشركين لهم عذاب مؤلم.
هكذا يكشف إبليس عن عداوته لأبن آدم و يعترف بخذلانه له ليزيده حسرة وندما
ألا يستحق هذا العدو اللدود أن يحارب حق محاربة فكما هو عدو لنا فيجب أن نكون أعداء له وأكثر لقوله جلا وعلا:" إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير" (فاطر:6).
فهلا اتعظنا عباد الله بواعظ القرآن ونذير الرحمن ، إنه كلام علام الغيوب ، الله رب العالمين ، وليس على كلام الله مزيد بيان ، قبل فوات الأوان والندم ولكي لا نصل إلا هذا الموقف المؤلم الحرج ، اللهم إنا نعوذ بك أن نظل أو نظل أو نزل أو نزل ، اللهم
إنا نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن همزات الشيطان ، اللهم اعصمنا من الشيطان ومن
وسوسته وهمزه ولمزه.
* " ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثيرا منهم فاسقون " * صدق الله العظيم*(الحديد:16).
تزكية النفس
هي بإتباع الكتاب والسنة بالعمل الصالح وإيتاء الزكاة والصوم وإعطاء الصدقات ولا ننسى تقوى الله خير تزكية للنفس لقوله تعالى: " وتزودوا فإن خير الزاد التقوى".
و نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وصى أمته في العديد من الأحاديث ويكفينا
هنا وصية لأمـة في شخص معاذ بن جبل رضي الله عنه حين قال له:
" اتق الله حيث ما كنت ......" الحديث.
والنفس توسوس للإنسان وتحرضه على فعل السوء
" إن النفس لأمارة بسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم " (يوسف: 53).
فلهذا يجب ترويضها إلى الحق وعدم الإصغاء لها إذا أمرت بسوء ، وإن النفس أصعب من علاج البدن فيجب مجاهدتها وإلزامها وتهذيبها ، ومجاهدة النفس هي الهداية إلى طريق الخير، كما : " واللذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين " (العنكبوت:69 ).
وخير المجتهدين هو خير المرسلين صلى الله عليه وسلم فعن عائشة رضي الله عنها أنه كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه ، فقلت له: لم تصنع هذا يا رسول الله وقد غفر الله لك ما تقدما من ذنبك وما تأخر قال: " أفلا أحب أن أكون عبدا شكورا".
(متفق عليه).
"وكان صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر، أي الأواخر من رمضان أحيا الليل وأيقظ أهله وجد وشد المئزر". (متفق عليه).
مما يساعدنا أيضا على المجاهدة الدعاء ، فكان من دعاء النبي صلى الله عليه
وسلم:" الله أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك " (رواه أبو داود ، وصححه الألباني ، صحيح سنن أبي داود ، 1522) ، وقال الله تعالى:" وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ".
( غافر:60).
وكلما تقرب العبد من الله تقرب إليه له أكثر وأكثر، فعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم :" فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: " إذا تقرب العبد إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، وإذا تقرب إلي ذراعا تقربت إليه باعا وإذا أتاني بمشي أتيته هرولة ".( رواه البخاري،7536) ، وقوله تعالى:" وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان ".
إن التقرب إلى الله يحتاج إلى مجاهدة النفس وتدرجها في الطاعة ، بل وإكراهها على الطاعة كرها لتتعود على فعل الخيرات ، كما ورد عن عمر أنه فاتته صلاة في جماعة فأحيى الليل كله تلك الليلة ، وإذا لم تطاوعه نفسه على الأوراد ، فإنه يجاهدها ويكرهها ما استطاع ، قال الله تعالى:" لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ".
قال بن المبارك: إن الصالحين كانت أنفسهم تواتيهم على الخير عفوا ، وإن أنفسنا
لا تواتيها إلا كرها.(مختصر منهاج القاصدين ، بن قدامه المقدسي ص 427).
والنفس كالطفل تتعود على الأفعال كما قال الشاعر:
* النفس كالطفل يشب على حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم*
وقال المتنبي
* وإذا كانت النفوس كبارا تعبت في مرادها الأجسام
فلإنسان بطبيعته في صراع مع نفسه حتى ينتصر عليها ، أو تنتصر عليه ويبقى
هذا الصراع قائما إلى أن يدركه الموت ، : " ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها " (الشمس).
و:" وأن اتلوا القرآن فمن اهتدى فإنما يهتدي إلى نفسه ومن ضل فقل إنما أنا من المنذرين". (النمل:92).
خلق الإنسان وقد ركبت فيه نية ودوافع الخير والشر وجعل أمامه طريقين طريق
عباد الرحمن ، وطريق إتباع الشيطان ، طريق يؤدي إلى الخير وطريق شائك يؤدي إلى الهلاك ، فالعبد له كسب واختيار ولآكن كسبه واختياره لا يكون إلا بإرادة الله جلا وعلا ومشيئته ، ولا يزكو قلبه ، ولا يتطهر ولا تكون نفسه ملهمة للتقوى إلا إذا أراد الله جلا وعلا لأن ذالك بيده ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم كما ثبت في الصحيح من دعائه: " اللهم آتي نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ".
ولا ننسى الاستغفار قال الرسول صلى الله عليه وسلم:" من لزم الاستغفار جعل الله
له من كل هم فرجا ، ومن كل ضيق مخرجا ، ورزقه من حيث لا يحتسب"
وقال عز وجل: " قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله
إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم "
صفات النفس في القرآن الكريم
مع الشيخ: محمد حسان
أحبتي الكرام: فقد وصف الله تعالى النفس في القرآن الكريم بثلاث صفات.
النفس المطمئنة:
: يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً[الفجر:27-28]. فما هي النفس المطمئنة؟ النفس المطمئنة: هي النفس التي اطمأنت إلى الرضا بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً ونبياً. هي النفس التي اطمأنت إلى أمر الله ونهيه، هي النفس التي اطمأنت إلى وعد الله ووعيده، هي النفس التي اطمأنت واشتاقت إلى لقاء الله عز وجل. قال أحد السلف: [مساكين والله أهل الغفلة خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا أطيب ما فيها، قيل: وما أطيب ما فيها؟ قال: ذكر الله والأنس به. فلا يتذوق المؤمن طعم الأنس ولا حلاوة القرب إلا في طاعة الله جل وعلا، ولا تشعر بلذة الطمأنينة وحلاوتها إلا مع الله جل وعلا. فالنفس المطمئنة: هي النفس الراضية عن الله عز وجل وعن شرعه وعن نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. (ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نبياً ورسولاً) والحديث في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة .
النفس اللوامة:
النفس اللوامة هي: نفس أبية كريمة هي الأخرى. قال ميمون بن مهران : [لا يبلغ المؤمن درجة التقى إلا إذا حاسب نفسه محاسبة الشريك الشحيح]. فهي نفس كريمة تلوم صاحبها على الخير والشر معاً، تلوم صاحبها على الخير لماذا لم تكثر منه؟ لماذا لم تداوم على فعل الخيرات؟ وتلوم صاحبها على الشر والمعاصي: لماذا فعلت الشر؟ لماذا ارتكبت المعصية؟ لماذا وقعت في الذنب؟ فهي نفس كريمة، أقسم الله عز وجل بها في قرآنه، قال سبحانه: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ [القيامة:1-2]. فالنفس اللوامة هي التي تلوم صاحبها على الخير والشر، على الخير لماذا لم يكثر منه، وعلى الشر لماذا وقع فيه.
النفس الأمارة:
أما النفس الأمارة -أسأل الله أن يعيذني وإياكم من شرها- فهي النفس التي تدفع صاحبها دفعاً إلى المعصية، وتحاول تلك النفس الخبيثة أن تخرج صاحبها من طريق الهداية إلى طريق الغواية، والطاعة إلى المعصية، والخير إلى الشر. لو أتيت الليلة إلى مثل هذا المسجد المبارك لتقضي وقتاً مع الله جل وعلا في صلاة القيام الذي قال في حقه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: (من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه) وقفت النفس الأمارة لك بالمرصاد، تريد أن تحول بينك وبين هذا الخير. والناس صنفان: صنف انتصر على نفسه وقهرها وغلبها، وفطمها عن المعصية، وألجمها بلجام التقوى، وجعلها مطية إلى كل خير وطاعة، أسأل الله أن يجعلني وإياكم من هذا الصنف الكريم، : وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا[الشمس:7-10]. صنف أفلح في تزكية نفسه، زكاها بالطاعة وبالبعد عن المعصية والشهوات والشبهات، زكاها عن كل ما يغضب الله عز وجل. وصنف قهرته نفسه، وغلبته نفسه، وجعلته -النفس- مطية إلى كل هوى وشهوة ومعصية وذنب، : فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى[النازعات:37-41]. فالنفس أمارة بالسوء، قال الله تعالى في حق هذه النفس حكاية عن امرأة العزيز: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ[يوسف:53]. هذه النفس الأمارة تستوجب من المسلم التقي الذكي أن يكون منتبهاً مستيقظاً فطناً، فقد تزين لك المعصية والتسويف في آن، فينبغي أن يكون المؤمن حذراً من هذه النفس الأمارة، وأن ينتبه إليها، وأن يقف معها لا أقول في كل ليلة، بل مع كل كلمة وعمل، بل قبل القول، وبعد القول، وقبل العمل، وبعد العمل، ليحاسبها محاسبة الشريك الشحيح لشريكه في التجارة، وإلا لهلك الإنسان من حيث لا يدري ولن ينتبه إلا وهو في عسكر الموتى بين الأموات. قال سليمان بن عبد الملك لـأبي حازم الزاهد العابد العالم: [يا أبا حازم ! ما لنا نحب الدنيا ونكره الموت؟ فقال أبو حازم : لأنكم عمرتم دنياكم وخربتم أخراكم، وأنت تكرهون أن تنقلوا من العمران إلى الخراب] من الذي يحب أن يترك العمران ويترك حياة الرفاهية ليذهب إلى الصحراء والخراب؟. فقال سليمان : [يا أبا حازم ! فما لنا عند الله جل وعلا؟ فقال أبو حازم : اعرض نفسك على كتاب الله لتعلم أين مكانتك عند الله جل وعلا، فقال: وأين أجد ذلك؟ فقال أبو حازم : في قوله تعالى: إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ[الانفطار:13-14] فقال سليمان : فأين رحمة الله يا أبا حازم ؟! فقال أبو حازم : إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ [الأعراف:56] فقال سليمان : فكيف القدوم على الله غداً؟ فقال أبو حازم : أما المحسن فكالغائب يرجع إلى أهله، وأما المسيء فكالآبق يرجع إلى سيده ومولاه].
عدم ارتباط المحاسبة بوقت
المؤمن هو الذي يقف مع نفسه ليذكرها بحقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة، وهذا هو عنصرنا الثاني بإيجاز: محاسبة النفس، والمحاسبة نوعان: ......
المحاسبة قبل القول والعمل
لمن أتكلم؟ لمن أعمل؟ لماذا أحب؟ لماذا أبغض؟ لماذا أوالي؟ لماذا أعادي؟ لماذا أعطي؟ لماذا أمنع؟ لماذا جئت؟ لماذا لم آت؟ سؤال عن الإخلاص لمن تعمل: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً [الكهف:110]. إخوتي الكرام! لو وقف أحدنا وحاسب نفسه قبل أن يتكلم وقبل أن يعمل لتغير حالنا تماماً، بل لفكر أحدنا بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة؛ لأنه سوف يسأل نفسه: لماذا أتكلم؟ فهل أبتغي بعملي هذا وجه الله، أم أبتغي السمعة والشهرة والرياء؟ حساب للنفس قبل القول والعمل يجعل الإنسان يفكر بدل المرة ألف مرة قبل أن ينطق مرة، وقبل أن يعمل مرة، واللهجل وعلا لا يقبل من الأعمال إلا ما كان خالصاً لوجهه، وما كان موافقاً لهدي نبيه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ثراه: وجماع الدين أصلان: الأصل الأول: أن نعبد الله وحده لا شريك له، والأصل الثاني: أن نعبده بما شرعه على لسان رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وهذان الأصلان هما حقيقة قولنا: لا إله إلا اللهمحمد رسول الله، فبالشهادة الأولى يُعرف المعبود عز وجل، وبالشهادة الثانية: يعرف كيف يُتوصل إلى المعبود عز وجل، إذ أن الطرق كلها مسدودة إلى الله عز وجل إلا من طريق المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وفي الصحيحين من حديث عائشة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد).
المحاسبة بعد القول والعمل
إذاً: محاسبة قبل القول والعمل، ومحاسبة بعد القول والعمل، أحاسب نفسي بعد كل كلمة وحركة: هل ابتغيت بها وجه الله؟ ثم هل كان العمل موافقاً لهدي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فإن وجد المؤمن نقصاً أكمله، وإن وجد خللاً سده، وإن وجد تقصيراً اتهم نفسه. وأؤكد لكم بأن المؤمن دائماً يتهم نفسه بالتقصير، ولا يرى لنفسه أبداً فضلاً ولا شرفاً ولا كرامة، فإن أطعت الله فمن الذي وفقك للطاعة؟ وإن صبرت من بعد صلاة العشاء إلى وقت القيام في بيت رب الأرض والسماء فمن الذي وفقك لهذا؟ غيرك الآن يجلس أمام التلفاز وأنت الآن في بيت الله بغير حول منك ولا طول. بل إن الحول والطول والمدد والقوة من الله عز وجل وحده: يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[الحجرات:17].. ويقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه، أو ينصرانه، أو يمجسانه) ينشأ في بيت يهودي على اليهودية، وآخر ينشأ في بيت نصراني على النصرانية، وآخر ينشأ في بيت مجوسي على المجوسية، ونحن نشأنا في بيوت توحد رب البرية، فوحدنا الله جل وعلا من غير رغبة منا ولا اختيار: ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ [الجمعة:4]. فيا إخوتي الكرام! والله إن لله عز وجل علينا نعماً لا تعد ولا تحصى، وإن أجل وأكرم نعمة قد أنعم الله بها علينا هي نعمة الإيمان والتوحيد، ولله در القائل:
ومما زادني فخراً وتيهاً وكدت بأخمصي أطأ الثريا
دخولي تحت قولك: يا عبادي وأن أرسلت أحمد لي نبياً
فالمؤمن دوماً يحاسب نفسه ويتهم نفسه بالتقصير: وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ[المؤمنون:60]. قالت عائشة رضوان الله عليها: (يا رسول الله! أهو الرجل يزني ويسرق ويشرب الخمر؟! قال: لا يا بنت الصديق، إنه الرجل يصلي ويصوم ويتصدق ويخشى ألا يتقبل الله منه). ولذلك جاء رجل إلى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، فقال: [يا أم المؤمنين ! ما تقولين في قوله تعالى: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ[فاطر:32] فقالت عائشة : يا بني! أما السابق بالخيرات: فقوم سبقوا مع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وشهد لهم بالجنة، وأما المقتصد: فقوم ساروا على هديه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى ماتوا على ذلك، وأما الظالم لنفسه: فمثلي ومثلك]. أم المؤمنين عائشة جعلت نفسها معنا وهي من؟ هي المبرأة من فوق سبع سماوات، هي زوج النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المبشرة بالجنة، هي أحب نساء النبي إلى قلبه بعد خديجة ، كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله بن عمرو : (يا رسول الله! أي الناس أحب إليك؟ قال: عائشة ، قال: من الرجال؟ قال: أبوها، قال: ثم من، قال: ثم عمر). وهاهو سفيان الثوري إمام الدنيا في الزهد والعلم والورع ينام على فراش الموت فيدخل عليه حماد بن سلمة ، فيقول له حماد : [أبشر يا أبا عبد الله إنك مقبل على من كنت ترجوه وهو أرحم الراحمين، فقال له سفيان : أسألك بالله يا حماد ! أتظن أن مثلي ينجو من النار؟!].
دعوة إلى محاسبة النفس
فالمسلم دوماً يحاسب نفسه ويتهمها بالتقصير، فقف أيها الحبيب مع نفسك الليلة وقفة صدق وقل لها: يا نفس! ليس لي بضاعة إلا العمر، فإن ضاعت بضاعتي ضاع رأس مالي، توهمي يا نفس أنك قد متي وطلبتي من الله الرجعة، وهاأنت قد عدتي إلى الدنيا فاعملي قبل أن تتمني الرجعة يوماً فلا يستجاب لك: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ[المؤمنون:99-100] فيكون الجواب: كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ[المؤمنون:100]. يا نفس! إن كنت تجترئين على معصية الله وأنتِ تظنين بأن الله لا يراك فما أعظم كفرك بالله جل وعلا! وإن كنت تعلمين بأن الله يراك وأنت مصّرة على معصيته فما أشد جرأتك على الله، وما أعظم وقاحتك مع الله عز وجل. يا نفس! إلى متى تعصين وعلى الله تجترئين؟! ومتى ستعيشين بالإسلام وللإسلام؟! يا نفس! متى ستحافظين على قراءة القرآن، وعلى هدي النبي عليه الصلاة والسلام، وعلى تحقيق التوحيد لله، وعلى بر الوالدين، وعلى الإحسان للجيران؟! ومتى ستبذلين المال للفقراء؟! ومتى ستحسنين العمل؟! متى متى متى ...؟! يا نفس! أما لك بأهل القبور عبرة؟! أما لك إليهم نظرة؟! كانوا كثيراً، وجمعوا كثيراً، فأصبح بنيانهم قبوراً، وأصبح جمعهم بوراً. يا نفس! ألا تفكرين في القبر وضمته؟! ألا تفكرين بالصراط ووحدته؟! ألا تفكرين في النار والأهوال والأغلال؟! أما تخشين من الحجاب عن النظر إلى وجه الكبير المتعال؟! ويحك يا نفس!
يا نفس قـد أزف الرحـيل وأظلك الخطب الجليل
فتأهبي يا نفس لا يلعب بك الأمل الطـويل
فلتنـزلن بمنـزل ينــسى الخليل به الخليل
وليركبن عليك فيه من الثرى حمل ثقيل
قرن الفناء بنا جميعـاً فما يبقى العزيز ولا الذليل
أيها الأخ الحبيب: قف مع نفسك الليلة وقفة صدق، وحاسبها محاسبة شديدة، واعلم أن النفس كالطفل إن فطمتها عن المعصية انفطمت، وإن ألجمتها بلجام التقوى ألجمت، وإن عودتها على الطاعة اعتادت، فالنفس كالطفل، إن فطمت الطفل عن ثدي أمه بكى يوماً أو يومين ثم اعتاد بعد ذلك، كذلك النفس. فيظن كثير منا أن إجبار النفس على الطاعة وإبعادها عن المعصية أمر عسير، وهو كذلك إلا لمن يسر الله عز وجل له ذلك. أسأل الله أن ييسر لنا ولكم الطاعات.
مشقة الحساب يوم القيامة
اعلم بأن النفس جموح، وأن النفس أمارة، وأنه لن يخف الحساب يوم القيامة إلا على من حاسب نفسه في الدنيا. قال عمر بن الخطاب : [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا تخفى منكم خافية، فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا]. أيها الحبيب: هل دعيت يوماً لحضور محاكمة في قاعة محكمة من محاكم الدنيا؟ انتقل معي على جناح السرعة إلى قاعة محكمة وتصور أنك جالس في هذه القاعة، وهاهو القاضي يدخل إلى قاعة المحكمة، وبين يديه الحاجب ليصرخ في الحضور: محكمة.. انظر إلى وجوه الناس وتفرس، انظر إلى الصدور ربما تعلو وتهبط وهي تنتظر أن تسمع الحكم من القضاء؛ بل ربما ترى العيون وقد انهمرت منها الدموع مدراراً على الوجوه، والآذان صاغية، والأبصار مشدودة، والكل منتظر، المتهم في قفص الاتهام وأهله ينتظرون، يا ترى بأي حكم سينطق القاضي في هذه اللحظات؟! تصور هذه اللحظات لتقف على حجم الهول الذي يعيش فيه الناس، ولله المثل الأعلى، فأرجو أن تنتقل من هذه الجلسة إلى لحظات يقف فيها العبد على بساط العدل بين يدي الله جل وعلا، وقد دنت الشمس من الرءوس مقدار ميل وغرق الناس في عرقهم كل على قدر عمله، وأتي بجهنم ولها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها، فإذا رأت جهنم الخلائق زفرت وزمجرت، فتجثوا كل الأمم على الركب من هول الموقف.
تذكر وقوفك يوم العرض عرياناً متوحشا قلق الأحشاء حيرانا
والنار تلهب من غيظ ومن حنق على العصاة ورب العرش غضبانا
اقرأ كتابك يا عبدي على مهل فهل ترى فيه حرفاً غير ما كانا
لما قرأت ولم تنكر قراءته إقرار من عرف الأشياء عرفانا
نادى الجليل خذوه يا ملائكتي وامضوا بعبدٍ عصى للنار عطشانا
المشركون غداً في النار مسكنهم والمؤمنون بدار الخلد سكانا
مثل لنفسك أيها المغرور يوم القيامة والسماء تمور
إذ كورت شمس النهار وأدنيت حتى على رأس العباد تسير
وإذا النجوم تساقطت وتناثرت وتبدلت بعد الضياء كدور
وإذا الجبال تقلعت بأصولـها فرأيتها مثل السحاب تسير
وإذا العشار تعطلـت وتخربت خلت الديار فما بها معمور
وإذا الوحوش لدى القيامة أحشرت وتقول للأملاك أين نسير
وإذا الجليل طوى السماء بيمينه طي السجل كتابه المنشور
وإذا الصحائف نشرت وتطايرت وتهتكت للعالمين ستور
وإذا الوليد بأمه متعلق يخشى القصاص وقلبه مذعور
هذا بلا ذنب يخاف جناية كيف المصر على الذنوب دهور
وإذا الجحيم تعسرت نيرانـها ولها على أهل الذنوب زفيـر
وإذا الجنان تزخرفت وتطيبت لفتىً على طول البلاء صبور
وصدق ربي حيث يقول: وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلا أَمْتاً * يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً * يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً * وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً[طه:105-111]. (( وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ))[طه:111] تذكر هذه اللحظات لتقف على مشقة الحساب بين يدي رب الأرض والسماوات، ففي الصحيح من حديث عائشة أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (من نوقش الحساب يوم القيامة عذب، قالت عائشة: يا رسول الله! أليس الله يقول: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً[الانشقاق:7-8]؟! قال: ليس ذلك الحساب ياعائشة ! إنما ذلك العرض، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب). والعرض: هو أن يعرض الله على العبد أعماله، كما في الصحيحين من حديث عدي بن حاتم أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ما منكم من أحد إلا وسيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر العبد أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة) . وفي الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (يدنى المؤمن من ربه يوم القيامة حتى يضع رب العزة عليه كنفه، ويقرره بذنوبه) أي: يقول الرب سبحانه: عبدي لقد عملت كذا وكذا أي: من الذنوب والمعاصي، يوم كذا وكذا، وعملت كذا وكذا يوم كذا وكذا (فيقول المؤمن: رب أعرف، فيقول الله عز وجل: ولكن سترتها عليك في الدنيا وأغفرها لك اليوم). انظروا إلى فضل الله عز وجل، فمن نوقش الحساب يوم القيامة عذب، فإن الهول شديد، وإن الكرب والله عظيم، ولن تخف مشقة الحساب على العبد يوم القيامة إلا إن حاسب نفسه، وشق على نفسه في الحساب في الدنيا، قال عمر : [حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، وتزينوا للعرض الأكبر يوم لا يخفى منكم خافية فإنما يخف الحساب يوم القيامة عمن حاسب نفسه في الدنيا]. ......
أفق يا سابحاً في بحار الغمرات
أفق يا سابحاً في بحار الغمرات. أيها اللاهي! أيها الساهي:
دع عنك ما قد فات في زمن الصبا واذكر ذنوبك وابكها يا مذنب
لم ينسه الملكان حين نسيته بل أثبتاه وأنت لاه تلعـب
والروح منك وديعة أودعتـها ستردها بالرغم منك وتسلب
وغرور دنياك التي تسعى لـها دار حقيقتها متاع يذهب
الليل فاعلم والنهار كليهمـا أنفاسنا فيها تعد وتحسب
......
أهمية المسارعة في التوبة
عد إلى الله جل وعلا، واعلم بأن الدنيا -أخي الحبيب- مهما طالت فهي قصيرة، ومهما عظمت فهي حقيرة؛ لأن الليل مهما طال لا بد من طلوع الفجر، ولأن العمر مهما طال لابد من دخول القبر، فالدنيا دار ممر، والآخرة هي دار المقر، فخذوا من ممركم لمقركم ولا تفضحوا أستاركم عند من يعلم أسراركم. : اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ[الحديد:20]. ولله در القائل:
إنللهعباداً فطنا طلقوا الدنيا وخافوا الفتنا
نظروا فيها فلما علموا أنها ليست لحي وطناً
جعلوها لجة واتخـذوا صالح الأعمال فيها سفناً
فالدنيا مزرعة -أيها الأحبة- أنا لا أريد أن أيئسك من الدنيا، أو أن أقنطك من الحياة، كلا. وإنما أقول لك ما قاله علي رضوان الله عليه بهذا الفهم العالي لحقيقة الدنيا حيث قال: [الدنيا دار صدق لمن صدقها، ودار نجاة لمن تزود منها، فالدنيا مصلى أنبياء الله، ومتجر أولياء الله، ومهبط رحمة الله، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة]. ازرع في هذه الدنيا واستعد، وأقبل إلى اللهجل وعلا، وأفق وانتبه، واعلم أن العمر قصير، وبأن الدنيا إلى زوال، وأن الآخرة هي دار القرار، أقبل على الله وأنت على يقين بأن الله عز وجل سيفرح بتوبتك وهو الغني عنك، كما ذكرت إخوانكم قبل الآن فالله تبارك وتعالى يقول: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر:53].
فرحة الله بتوبة العبد
يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما في الصحيحين من حديث أنس : (لله أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته في أرض فلاة، فانفلتت منه راحلته وعليها طعامه وشرابه فيأس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد يأس من راحلته، فبينما هو كذلك إذا به يرى راحلته قائمةً عند رأسه، فأخذ بخطامها وقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك -يقول المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: أخطأ من شدة الفرح). أيها الحبيب: فرح الله بتوبتك إليه أفرح من هذا العبد بعودة راحلته إليه . وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (ينزل الله عز وجل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يمضي ثلث الليل الأول -يتنـزل ربنا نـزولاً يليق بكماله وجلاله- ثم ينادي رب العزة ويقول: أنا الملك من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك حتى يضيء الفجر). وأختم بهذا الحديث الذي رواه البخاري من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى يوماً امرأة في السبي تبحث عن ولدها، فلما وجدته ألزقته ببطنها فأرضعته، فالتفت النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى هذا المشهد الحاني وقال لأصحابه: أترون هذه الأم طارحة ولدها في النار؟! قالوا: لا يا رسول الله، فقال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لله أرحم بعباده من رحمة هذه الأم بولدها). قال أحد أهل العلم: اللهم إنك تعلم أن أمي هي أرحم الناس بي، وأنا أعلم أنك أرحم بي من أمي، وأمي لا ترضى لي الهلاك والعذاب، افترضاه لي أنت وأنت أرحم الراحمين؟! اللهم ارحمنا فإنك بنا راحم، ولا تعذبنا فإنك علينا قادر. اللهم اغفر لنا الذنوب، واستر لنا العيوب، وفرج عنا الكروب، وتقبل منا صالح الأعمال، برحمتك يا أرحم الراحمين. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، وجزأكم الله خيراً، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
تقبلالله منك ومن جميع المسلمين.*y]hx hgv,p ,j.;dm hgkts*
المفضلات