وقفات مع قصة آدم عليه السلام
كتب:
13/رمضان/1430 الموافق 02/09/2009
للشهيد / سيد قطب
يرد القصص في القرآن في مواضع ومناسبات ، وهذه المناسبات التي يساق القصص من أجلها هي التي تحدد مساق القصة ، والحلقة التي تعرض منها ، والصورة التي تأتي عليها ، والطريقة التي تؤدى بها ؛ تنسيقا للجو الروحي والفكري والفني الذي تعرض فيه ، وبذلك تؤدي دورها الموضوعي ، وتحقق غايتها النفسية ، وتلقي إيقاعها المطلوب .
ويحسب أناس أن هنالك تكرارا في القصص القرآني ؛ لأن القصة الواحدة قد يتكرر عرضها في سور شتى ، ولكن النظرة الفاحصة تؤكد أنه ما من قصة ، أو حلقة من قصة قد تكررت في صورة واحدة ، من ناحية القدر الذي يساق ، وطريقة الأداء في السياق ، وأنه حيثما تكررت حلقة كان هنالك جديد تؤديه ، ينفي حقيقة التكرار
ويزيغ أناس فيزعمون أن هنالك خلقا للحوادث أو تصرفا فيها ، يقصد به إلى مجرد الفن - بمعنى التزويق الذي لا يتقيد بواقع - ولكن الحق الذي يلمسه كل من ينظر في هذا القرآن ، وهو مستقيم الفطرة ، مفتوح البصيرة ، هو أن المناسبة الموضوعية هي التي تحدد القدر الذي يعرض من القصة في كل موضع ، كما تحدد طريقة العرض وخصائص الأداء .
والقرآن كتاب دعوة ، ودستور نظام ، ومنهج حياة ، لا كتاب رواية ولا تسلية ولا تاريخ ، وفي سياق الدعوة يجيء القصص المختار ، بالقدر وبالطريقة التي تناسب الجو والسياق ، وتحقق الجمال الفني الصادق ، الذي لا يعتمد على الخلق والتزويق ، ولكن يعتمد على إبداع العرض ، وقوة الحق ، وجمال الأداء .
وقصص الأنبياء في القرآن يمثل موكب الإيمان في طريقه الممتد الواصل الطويل ، ويعرض قصة الدعوة إلى الله واستجابة البشرية لها جيلا بعد جيل ؛ كما يعرض طبيعة الإيمان في نفوس هذه النخبة المختارة من البشر ، وطبيعة تصورهم للعلاقة بينهم وبين ربهم الذي خصهم بهذا الفضل العظيم . . وتتبع هذا الموكب الكريم في طريقه اللاحب يفيض على القلب رضا ونورا وشفافية ؛ ويشعره بنفاسة هذا العنصر العزيز - عنصر الإيمان - وأصالته في الوجود ، كذلك يكشف عن حقيقة التصور الإيماني ، ويميزه في الحس من سائر التصورات الدخيلة . . ومن ثم كان القصص شطرا كبيرا من كتاب الدعوة الكريم
فلنعش لحظات مع قصة البشرية الأولى وما وراءها من إيحاءات أصيلة:
الدرس الأول : استخلاف آدم في الأرض على عهد من الله وشرط .
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - في ساحة الملأ الأعلى ؛ وها نحن أولاء نسمع ونرى قصة البشرية الأولى: " وإذ قال ربك للملائكة:إني جاعل في الأرض خليفة " وإذن فهي المشيئة العليا تريد أن تسلم لهذا الكائن الجديد في الوجود ، زمام هذه الأرض ، وتطلق فيها يده ، وتكل إليه إبراز مشيئة الخالق في الإبداع والتكوين ، والتحليل والتركيب ، والتحوير والتبديل ؛ وكشف ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ، وتسخير هذاكله - بإذن الله - في المهمة الضخمة التي وكلها الله إليه .
وإذن فقد وهب هذا الكائن الجديد من الطاقات الكامنة ، والاستعدادات المذخورة كفاء ما في هذه الأرض من قوى وطاقات ، وكنوز وخامات ؛ ووهب من القوى الخفية ما يحقق المشيئة الإلهية .
وإذن فهنالك وحدة أو تناسق بين النواميس التي تحكم الأرض - وتحكم الكون كله - والنواميس التي تحكم هذا المخلوق وقواه وطاقاته ، كي لا يقع التصادم بين هذه النواميس وتلك ؛ وكي لا تتحطم طاقة الإنسان على صخرة الكون الضخمة !
وإذن فهي منزلة عظيمة ، منزلة هذا الإنسان ، في نظام الوجود على هذه الأرض الفسيحة . وهو التكريم الذي شاءه له خالقه الكريم .
هذا كله بعض إيحاء التعبير العلوي الجليل: " إني جاعل في الأرض خليفة . . " حين نتملاه اليوم بالحس اليقظ والبصيرة المفتوحة ، ورؤية ما تم في الأرض على يد هذا الكائن المستخلف في هذا الملك العريض ! " قالوا:أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ، ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ؟ " .
ويوحي قول الملائكة هذا بأنه كان لديهم من شواهد الحال ، أو من تجارب سابقة في الأرض ، أو من إلهام البصيرة ، ما يكشف لهم عن شيء من فطرة هذا المخلوق ، أو من مقتضيات حياته على الأرض ؛ وما يجعلهم يعرفون أو يتوقعون أنه سيفسد في الأرض ، وأنه سيسفك الدماء . . ثم هم - بفطرة الملائكة البريئة التي لا تتصور إلا الخير المطلق ، وإلا السلام الشامل - يرون التسبيح بحمد الله والتقديس له ، هو وحده الغاية المطلقة للوجود ، وهو وحده العلة الأولى للخلق . . وهو متحقق بوجودهم هم ، يسبحون بحمد الله ويقدسون له ، ويعبدونه ولا يفترون عن عبادته ! .
لقد خفيت عليهم حكمة المشيئة العليا في بناء هذه الأرض وعمارتها ، وفي تنمية الحياة وتنويعها ، وفي تحقيق إرادة الخالق وناموس الوجود في تطويرها وترقيتها وتعديلها ، على يد خليفة الله في أرضه ، هذا الذي قد يفسد أحيانا ، وقد يسفك الدماء أحيانا ، ليتم من وراء هذا الشر الجزئي الظاهر خير أكبر وأشمل ، خير النمو الدائم ، والرقي الدائم ، خير الحركة الهادمة البانية . خير المحاولة التي لا تكف ، والتطلع الذي لا يقف ، والتغيير والتطوير في هذا الملك الكبير .
عندئذ جاءهم القرار من العليم بكل شيء ، والخبير بمصائر الأمور: " قال:إني أعلم ما لا تعلمون، وعلم آدم الأسماء كلها ، ثم عرضهم على الملائكة ، فقال:أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين ، قالوا: سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا . إنك أنت العليم الحكيم . قال:يا آدم أنبئهم بأسمائهم . فلما أنبأهم بأسمائهم ، قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السموات والأرض ،وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون"
ها نحن أولاء - بعين البصيرة في ومضات الاستشراف - نشهد ما شهده الملائكة في الملأ الأعلى . . ها نحن أولاء نشهد طرفا من ذلك السر الإلهي العظيم الذي أودعه الله هذا الكائن البشري ، وهو يسلمه مقاليد الخلافة ، سر القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، سر القدرة على تسمية الأشخاص والأشياء بأسماء يجعلها - وهي ألفاظ منطوقة - رموزا لتلك الأشخاص والأشياء المحسوسة .
وهي قدرة ذات قيمة كبرى في حياة الإنسان على الأرض ، ندرك قيمتها حين نتصور الصعوبة الكبرى ، لو لم يوهب الإنسان القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات ، والمشقة في التفاهم والتعامل ، حين يحتاج كل فرد لكي يتفاهم مع الآخرين على شيء أن يستحضر هذا الشيء بذاته أمامهم ليتفاهموا بشأنه . . الشأن شأن نخلة فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا باستحضار جسم النخلة ! الشأن شأن جبل . فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بالذهاب إلى الجبل ! الشأن شأن فرد من الناس فلا سبيل إلى التفاهم عليه إلا بتحضير هذا الفرد من الناس . . . إنها مشقة هائلة لا تتصور معها حياة ! وإن الحياة ما كانت لتمضي في طريقها لو لم يودع الله هذا الكائن القدرة على الرمز بالأسماء للمسميات .
فأما الملائكة فلا حاجة لهم بهذه الخاصية ، لأنها لا ضرورة لها في وظيفتهم ، ومن ثم لم توهب لهم ، فلما علم الله آدم هذا السر ، وعرض عليهم ما عرض لم يعرفوا الأسماء ، لم يعرفوا كيف يضعون الرموز اللفظية للأشياء والشخوص . . وجهروا أمام هذا العجز بتسبيح ربهم ، والاعتراف بعجزهم ، والإقرار بحدود علمهم ، وهو ما علمهم . . وعرف آدم . . ثم كان هذا التعقيب الذي يردهم إلى إدراك حكمة العليم الحكيم: " قال:ألم أقل لكم:إني أعلم غيب السموات والأرض ، وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون ؟" .
" وإذ قلنا للملائكة:اسجدوا لآدم . فسجدوا ..."إنه التكريم في أعلى صوره ، لهذا المخلوق الذي يفسد في الأرض ، ويسفك الدماء ، ولكنه وهب من الأسرار ما يرفعه على الملائكة ، لقد وهب سر المعرفة ، كما وهب سر الإرادة المستقلة التي تختار الطريق . . إن ازدواج طبيعته ، وقدرته على تحكيم إرادته في شق طريقه ، واضطلاعهبأمانة الهداية إلى الله بمحاولته الخاصة . . إن هذا كله بعض أسرار تكريمه .
ولقد سجد الملائكة امتثالا للأمر العلوي الجليل. ". إلا إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين "وهنا تتبدى خليقة الشر مجسمة:عصيان الجليل سبحانه ! والاستكبار عن معرفة الفضل لأهله ، والعزة بالإثم ، والاستغلاق عن الفهم .
ويوحي السياق أن إبليس لم يكن من جنس الملائكة ، إنما كان معهم . فلو كان منهم ما عصى . وصفتهم الأولى أنهم "لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . ." والاستثناء هنا لا يدل على أنه من جنسهم ، فكونه معهم يجيز هذا الاستثناء ، كما تقول:جاء بنو فلان إلا أحمد ، وليس منهم إنما هو عشيرهم ، وإبليس من الجن بنص القرآن ، والله خلق الجان من مارج من نار . وهذا يقطع بأنه ليس من الملائكة .
والآن . لقد انكشف ميدان المعركة الخالدة ، المعركة بين خليقة الشر في إبليس ، وخليفة الله في الأرض ، المعركة الخالدة في ضمير الإنسان ، المعركة التي ينتصر فيها الخير بمقدار ما يستعصم الإنسان بإرادته وعهده مع ربه ، وينتصر فيها الشر بمقدار ما يستسلم الإنسان لشهوته ، ويبعد عن ربه: " وقلنا:يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة ، وكلا منها رغدا حيث شئتما ، ولا تقربا هذه الشجرة ، فتكونا من الظالمين ."
لقد أبيحت لهما كل ثمار الجنة . . إلا شجرة . . شجرة واحدة ، ربما كانت ترمز للمحظور الذي لا بد منه في حياة الأرض . فبغير محظور لا تنبت الإرادة ، ولا يتميز الإنسان المريد من الحيوان المسوق ، ولا يمتحن صبر الإنسان على الوفاء بالعهد والتقيد بالشرط ، فالإرادة هي مفرق الطريق ، والذين يستمتعون بلا إرادة هم من عالم البهيمة ، ولو بدوا في شكل الآدميين ! " فأزلهما الشيطان عنها ، فأخرجهما مما كانا فيه" .
ويا للتعبير المصور: أزلهما . . إنه لفظ يرسم صورة الحركة التي يعبر عنها . وإنك لتكاد تلمح الشيطان وهو يزحزحهما عن الجنة ، ويدفع بأقدامهما فتزل وتهوي ! عندئذ تمت التجربة:نسي آدم عهده ، وضعف أمام الغواية ، وعندئذ حقت كلمة الله ، وصرح قضاؤه: "وقلنا:اهبطوا . . بعضكم لبعض عدو ، ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين ." وكان هذا إيذانا بانطلاق المعركة في مجالها المقدر لها ، بين الشيطان والإنسان إلى آخر الزمان .
ونهض آدم من عثرته بما ركب في فطرته ، وأدركته رحمة ربه التي تدركه دائما عندما يثوب إليها ويلوذ بها" فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه ، إنه هو التواب الرحيم" وتمت كلمة الله الأخيرة ، وعهده الدائم مع آدم وذريته ، عهد الاستخلاف في هذه الأرض ، وشرط الفلاح فيها أو البوار " قلنا:اهبطوا منها جميعا ، فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، والذين كفروا وكذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
وانتقلت المعركة الخالدة إلى ميدانها الأصيل ، وانطلقت من عقالها ما تهدأ لحظة وما تفتر ، وعرف الإنسان في فجر البشرية كيف ينتصر إذا شاء الانتصار ، وكيف ينكسر إذا اختار لنفسه الخسار . . .
دروس واستنباطات من قصة آدم :
وبعد فلا بد من عودة إلى مطالع القصة . قصة البشرية الأولى ،لقد قال الله تعالى للملائكة: "إني جاعل في الأرض خليفة . ." وإذن فآدم مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ، ففيم إذن كانت تلك الشجرة المحرمة ؟ وفيم إذن كان بلاء آدم ؟ وفيم إذن كان الهبوط إلى الأرض ، وهو مخلوق لهذه الأرض منذ اللحظة الأولى ؟
لعلني ألمح أن هذه التجربة كانت تربية لهذا الخليفة وإعدادا ، كانت إيقاظا للقوى المذخورة في كيانه ، كانت تدريبا له على تلقي الغواية ، وتذوق العاقبة ، وتجرع الندامة ، ومعرفة العدو ، والالتجاء بعد ذلك إلى الملاذ الأمين .
إن قصة الشجرة المحرمة ، ووسوسة الشيطان باللذة ، ونسيان العهد بالمعصية ، والصحوة من بعد السكرة ، والندم وطلب المغفرة . . إنها هي هي تجربة البشرية المتجددة المكررة ! .
لقد اقتضت رحمة الله بهذا المخلوق أن يهبط إلى مقر خلافته ، مزودا بهذه التجربة التي سيتعرض لمثلها طويلا ، استعدادا للمعركة الدائبة ، وموعظة وتحذيرا . .
وبعد . . مرة أخرى . . فأين كان هذا الذي كان ؟ وما الجنة التي عاش فيها آدم وزوجه حينا من الزمان ؟ ومن هم الملائكة ؟ ومن هو إبليس ؟ . . كيف قال الله تعالى لهم ؟ وكيف أجابوه ؟ . . .
هذا وأمثاله في القرآن الكريم غيب من الغيب الذي استأثر الله تعالى بعلمه ؛ وعلم بحكمته أن لا جدوى للبشر في معرفة كنهه وطبيعته ، فلم يهب لهم القدرة على إدراكه والإحاطة به ، بالأداة التي وهبهم إياها لخلافة الأرض ، وليس من مستلزمات الخلافة أن نطلع على هذا الغيب ، وبقدر ما سخر الله للإنسان من النواميس الكونية وعرفه بأسرارها ، بقدر ما حجب عنه أسرار الغيب ، فيما لا جدوى له في معرفته .
وما يزال الإنسان مثلا على الرغم من كل ما فتح له من الأسرار الكونية يجهل ما وراء اللحظة الحاضرة جهلا مطلقا ، ولا يملك بأي أداة من أدوات المعرفة المتاحة له أن يعرف ماذا سيحدث له بعد لحظة ، وهل النفس الذي خرج من فمه عائد أم هو آخر أنفاسه ؟ وهذا مثل من الغيب المحجوب عن البشر ؛ لأنه لا يدخل في مقتضيات الخلافة ، بل ربما كان معوقا لها لو كشف للإنسان عنه ! وهنالك ألوان من مثل هذه الأسرار المحجوبة عن الإنسان ، في طي الغيب الذي لا يعلمه إلا الله .
ومن ثم لم يعد للعقل البشري أن يخوض فيه ، لأنه لا يملك الوسيلة للوصول إلى شيء من أمره ، وكل جهد يبذل في هذه المحاولة هو جهد ضائع ، ذاهب سدى ، بلا ثمرة ولا جدوى.
وإذا كان العقل البشري لم يوهب الوسيلة للاطلاع على هذا الغيب المحجوب ؛ فليس سبيله إذن أن يتبجح فينكر . . فالإنكار حكم يحتاج إلى المعرفة ، والمعرفة هنا ليست من طبيعة العقل ، وليست في طوق وسائله ، ولا هي ضرورية له في وظيفته !
إن الاستسلام للوهم والخرافة شديد الضرر بالغ الخطورة ، ولكن أضر منه وأخطر التنكر للمجهول كله وإنكاره ، واستبعاد الغيب لمجرد عدم القدرة على الإحاطة به . . إنها تكون نكسة إلى عالم الحيوان الذي يعيش في المحسوس وحده ، ولا ينفذ من أسواره إلى الوجود الطليق .
فلندع هذا الغيب إذن لصاحبه ، وحسبنا ما يقص لنا عنه ، بالقدر الذي يصلح لنا في حياتنا ، ويصلح سرائرنا ومعاشنا ، ولنأخذ من القصة ما تشير إليه من حقائق كونية وإنسانية ، ومن تصور للوجود وارتباطاته ، ومن إيحاء بطبيعة الإنسان وقيمه وموازينه . . فذلك وحده أنفع للبشرية وأهدى .
وفي اختصار يناسب ظلال القرآن سنحاول أن نمر بهذه الإيحاءات والتصورات والحقائق مرورا مجملا سريعا .
إن أبرز إيحاءات قصة آدم - كما وردت في هذا الموضع - هو القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان ولدوره في الأرض ، ولمكانه في نظام الوجود ، وللقيم التي يوزن بها ، ثم لحقيقة ارتباطه بعهد الله ، وحقيقة هذا العهد الذي قامت خلافته على أساسه . .
وتتبدى تلك القيمة الكبرى التي يعطيها التصور الإسلامي للإنسان في الإعلان العلوي الجليل في الملأ الأعلى الكريم ، أنه مخلوق ليكون خليفة في الأرض ؛ كما تتبدى في أمر الملائكة بالسجود له، وفي طرد إبليس الذي استكبر وأبى ، وفي رعاية الله له أولا وأخيرا .
ومن هذه النظرة للإنسان تنبثق جملة اعتبارات ذات قيمة كبيرة في عالم التصور ، وفي عالم الواقع على السواء .
وأول اعتبار من هذه الاعتبارات هو أن الإنسان سيد هذه الأرض ، ومن أجله خلق كل شيء فيها - كما تقدم ذلك نصا - فهو إذن أعز وأكرم وأغلى من كل شيء مادي ، ومن كل قيمة مادية في هذه الأرض جميعا ، ولا يجوز إذن أن يستعبد أو يستذل لقاء توفير قيمة مادية أو شيء مادي . .لا يجوز أن يعتدي على أي مقوم من مقومات إنسانيته الكريمة ، ولا أن تهدر أية قيمة من قيمه لقاء تحقيق أي كسب مادي ، أو إنتاج أي شيء مادي ، أو تكثير أي عنصر مادي . . فهذه الماديات كلها مخلوقة - أو مصنوعة - من أجله ، من أجل تحقيق إنسانيته ، من أجل تقرير وجوده الإنساني ، فلا يجوز إذن أن يكون ثمنها هو سلب قيمة من قيمه الإنسانية ، أو نقص مقوم من مقومات كرامته .
والاعتبار الثاني هو أن دور الإنسان في الأرض هو الدور الأول ، فهو الذي يغير ويبدل في أشكالها وفي ارتباطاتها ؛ وهو الذي يقود اتجاهاتها ورحلاتها . وليست وسائل الإنتاج، ولا توزيع الإنتاج ، هي التي تقود الإنسان وراءها ذليلا سلبيا كما تصوره المذاهب المادية التي تحقر من دور الإنسان وتصغر ، بقدر ما تعظم في دور الآلة وتكبر ! .
إن النظرة القرآنية تجعل هذا الإنسان بخلافته في الأرض ، عاملا مهما في نظام الكون ، ملحوظا في هذا النظام ، فخلافته في الأرض تتعلق بارتباطات شتى مع السموات ، ومع الرياح ، ومع الأمطار ، ومع الشموس والكواكب . . وكلها ملحوظ في تصميمها وهندستها إمكان قيام الحياة على الأرض ، وإمكان قيام هذا الإنسان بالخلافة . . فأين هذا المكان الملحوظ من ذلك الدور الذليل الصغير الذي تخصصه له المذاهب المادية ، ولا تسمح له أن يتعداه ؟ !
وما من شك أن كلا من نظرة الإسلام هذه ونظرة المادية للإنسان تؤثر في طبيعة النظام الذي تقيمه هذه وتلك للإنسان ؛ وطبيعة احترام المقومات الإنسانية أو إهدارها ؛ وطبيعة تكريم هذا الإنسان أو تحقيره . . وليس ما نراه في العالم المادي من إهدار كل حريات الإنسان وحرماته ومقوماته في سبيل توفير الإنتاج المادي وتكثيره إلا أثرا من آثار تلك النظرة إلى حقيقة الإنسان ، وحقيقة دوره في هذه الأرض ! .
كذلك ينشأ عن نظرة الإسلام الرفيعة إلى حقيقة الإنسان ووظيفته إعلاء القيم الأدبية في وزنه وتقديره ، وإعلاء قيمة الفضائل الخلقية ، وتكبير قيم الإيمان والصلاح والإخلاص في حياته ، فهذه هي القيم التي يقوم عليها عهد استخلافه: " فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون . . ." وهذه القيم أعلى وأكرم من جميع القيم المادية - هذا مع إن من مفهوم الخلافة تحقيق هذه القيم المادية ، ولكن بحيث لا تصبح هي الأصل ، ولا تطغى على تلك القيم العليا - ولهذا وزنه في توجيه القلب البشري إلى الطهارة والارتفاع والنظافة في حياته ، بخلاف ما توحيه المذاهب المادية من استهزاء بكل القيم الروحية ، وإهدار لكل القيم الأدبية ، في سبيل الاهتمام المجرد بالإنتاج والسلع ومطالبالبطون كالحيوان ! .
وفي التصور الإسلامي إعلاء من شأن الإرادة في الإنسان فهي مناط العهد مع الله ، وهي مناط التكليف والجزاء . . إنه يملك الارتفاع على مقام الملائكة بحفظ عهده مع ربه عن طريق تحكيم إرادته ، وعدم الخضوع لشهواته ، والاستعلاء على الغواية التي توجه إليه . بينما يملك أن يشقي نفسه ويهبط من عليائه ، بتغليب الشهوة على الإرادة ، والغواية على الهداية ، ونسيان العهد الذي يرفعه إلى مولاه ، وفي هذا مظهر من مظاهر التكريم لا شك فيه ، يضاف إلى عناصر التكريم الأخرى ، كما أن فيه تذكيرا دائما بمفرق الطريق بين السعادة والشقاوة ، والرفعة والهبوط ، ومقام الإنسان المريد ودرك الحيوان المسوق !
وفي أحداث المعركة التي تصورها القصة بين الإنسان والشيطان ذكر دائم بطبيعة المعركة ، إنها بين عهد الله وغواية الشيطان بين الإيمان والكفر ، بين الحق والباطل ، بين الهدى والضلال . . والإنسان هو نفسه ميدان المعركة ، وهو نفسه الكاسب أو الخاسر فيها ، وفي هذا إيحاء دائم له باليقظة ؛ وتوجيه دائم له بأنه جندي في ميدان ؛ وأنه هو صاحب الغنيمة أو السلب في هذا الميدان ! .
وأخيرا تجيء فكرة الإسلام عن الخطيئة والتوبة . . إن الخطيئة فردية والتوبة فردية ، في تصور واضح بسيط لا تعقيد فيه ولا غموض . . ليست هنالك خطيئة مفروضة على الإنسان قبل مولده - كما تقول نظرية الكنيسة - وليس هنالك تكفير لاهوتي ، كالذي تقول الكنيسة إن عيسى - عليه السلام - [ ابن الله بزعمهم ] قام به بصلبه ، تخليصا لبني آدم من خطيئة آدم ! . . كلا ! خطيئة آدم كانت خطيئته الشخصية ، والخلاص منها كان بالتوبة المباشرة في يسر وبساطة ، وخطيئة كل ولد من أولاده خطيئة كذلك شخصية ، والطريق مفتوح للتوبة في يسر وبساطة . . تصور مريح صريح ، يحمل كل إنسان وزره ، ويوحي إلى كل إنسان بالجهد والمحاولة وعدم اليأس والقنوط . . إن الله تواب رحيم . .
هذا طرف من إيحاءات قصة آدم - في هذا الموضع - نكتفي به .. . وهو وحده ثروة من الحقائق والتصورات القويمة ؛ وثروة من الإيحاءات والتوجيهات الكريمة ؛ وثروة من الأسس التي يقوم عليها تصور اجتماعي وأوضاع اجتماعية ، يحكمها الخلق والخير والفضيلة ، ومن هذا الطرف نستطيع أن ندرك أهمية القصص القرآني في تركيز قواعد التصور الإسلامي ؛ وإيضاح القيم التي يرتكز عليها ، وهي القيم التي تليق بعالم صادر عن الله ، متجه إلى الله ، صائر إلى الله في نهاية المطاف . . عقد الاستخلاف فيه قائم على تلقي الهدى من الله ، والتقيد بمنهجه في الحياة ، ومفرق الطريق فيه أن يسمع الإنسان ويطيع لما يتلقاه من الله ، أو أن يسمع الإنسان ويطيع لما يمليه عليه الشيطان ، وليس هناك طريق ثالث . . إما الله وإما الشيطان ، إما الهدى وإما الضلال ، إما الحق وإما الباطل ، إما الفلاح وإما الخسران . . وهذه الحقيقة هي التي يعبر عنها القرآن كله ، بوصفها الحقيقة الأولى ، التي تقوم عليها سائر التصورات ، وسائر الأوضاع في عالم الإنسان . .
المصدر : في ظلال القرآن
,rthj lu rwm N]l ugdi hgsghl
المفضلات