ومن أضل ممن اتبع هواه
الهوى هو ما يهواه الإنسان ويميل إليه، وقد حكم الله -تعالى- بضلال من اتبع هواه وترك هدى الله، بل جعله أضل الناس، قال الله -عزَّ وجل-: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ} [القصص: 50].
والمعرض عن هدي النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن طاعته إنَّما هو متبع لهواه، قد قاده الهوى إلى الضلال، والله -عزَّ وجل- يقول: {فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ} [القصص: 50].
كذلك فإنَّ اتباع الهوى يؤدِّي إلى الفساد العظيم، يقول تعالى: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ} [المؤمنون: 71]، وأيُّ خروج عن الحق؛ فهو سبيل إلى الفساد ولا محالة.
والاستقامة على أمر الله والدعوة إليه لا تكون باتباع الهوى، فهي في مخالفة الهوى، كما قال الله -عزَّ وجل-: {فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} [الشورى: 15].
والله -سبحانه- شبَّه من يتبع الهوى بأخس الحيوانات وهو الكلب، قال الله -عزَّ وجل-: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف: 176،175].
هذه الآيات تفيد أنَّ بعض من آتاهم الله علمًا وعلَّمهم آياته قد ينكرون الهدى، ويعرضون عن الآيات البينات؛ اتباعًا للهوى، فشبَّههم بهذا التشبيه الشنيع، نسأل الله العافية والسلامة.
واتباع الهوى هو أحد المهلكات التي تؤدي بالمرء إلى طريق الهلاك، ففي الحديث عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: (ثلاث مهلكات: هوى متبع، وشحٌّ مطاع، وإعجاب كلِّ ذي رأي برأيه)[1].
وإنَّما يجاهد الكفار ويقدر على جهادهم وجهاد المنافقين من جاهد هواه، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "وجهاد النفس أصل جهاد الكفار والمنافقين، وإنَّه لا يقدر على جهادهم حتى يجاهد نفسه أولًا ثم يخرج إليهم".
صاحب الهوى يُحْرَم التوفيق، ويُحْرَم إصابة الحق والهداية للخير، أمَّا المجاهد لهواه؛ فهو الموفق المهدي بإذن الله، قال -عزَّ وجل-: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69]، قال الفُضَيل بن عياض -رحمه الله تعالى-: "من استولى عليه الهوى واتباع الشهوات؛ انقطعت عنه موارد التوفيق".
أيضًا فإنَّ في اتباع الحق والتمسك بالدين ما يكون سببًا في دفع الهوى، فلا يجتمع اتباع الهوى والتمسك بالدين والحق، ذُكِر أنَّ رجلًا كان يطوف بالبيت، فنظر إلى امرأة جميلة، فمشى إلى جانبها، ثم قال:
أهوى هوى الدِّين واللذات تعجبني فكيف لي بهوى اللذات والدين
فقالت المرأة: دع أحدهما؛ تنل الآخر".
فإنَّ هوى النفس يناقض اتباع الحق والتمسك به، فإذا تركت هوى نفسك، وألزمتها بالحق؛ فأنت المهتدي، وبمخالفة الهوى يتبيَّن المؤمن الصادق في إيمانه ممن هو دون ذلك، يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "تأملت أمرًا عجيبًا وهو انهيال الابتلاء على المؤمن، وعرض صور اللذات عليه مع قدرته على فعلها، فقلت: سبحان الله ها هنا يَبِين أثر الإيمان لا في صلاة ركعتين"
ومعنى كلامه -رحمه الله-: أنَّ المرء إذا وقف أمام ما تهواه نفسه من المعاصي، فزجرها وردعها عن اتباع الهوى؛ فهذا هو الدليل والمقياس على إيمانه.
ثم قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "والله ما صعد يوسف -عليه السلام- ولا سَعُدَ إلَّا في مثل ذلك المقام، تأمَّلوا حاله لو وقف مع هواه فمن كان يكون؟!"
يقول الشاطبي -رحمه الله تعالى-: "مخالفة ما تهوى الأنفس شاق عليها وصعب خروجها عنه، ولذلك بلغ الهوى بأهله مبلغًا لا يبلغه غيرهم، وكفى شاهد على ذلك حال المحبين وحال من بُعِث إليهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأصرُّوا على ما هم عليه حتى رضوا بهلاك النفوس والأموال".
ويقول ابن القيم -رحمه الله- مبيِّنًا أهمية تخليص الأعمال من الهوى، ومبيِّنًا شأن القلب وسلامته وصلاحه: "ولا تتم سلامة القلب مُطْلَقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: شرك يناقض التوحيد، وبدعة تناقض السُّنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجريد للإخلاص"، فلابد من تجريد القلب من اتباع الهوى؛ ليسلم الإخلاص لله تعالى.
والإنسان مع هواه على ثلاثة أحوال:
الحالة الأولى:أن يغلبه الهوى ويملكه، فلا يستطيع له خلافًا ولا عنه فِكاكًا، فهو حال أكثر الخلق نسأل الله السلامة، وهذا الذي قال الله فيه: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الجاثية: 23].
الحالة الثانية:أن تكون الحرب بين المرء وهواه سِجالًا، تارة يغلب الهوى، وتارة يغلب المرء هواه، وينتصر لإيمانه، فهذا بحسب الغالب عليه.
والحالة الثالثة:أن يغلب المرء هواه، فيصير مستوليًا على هواه، فهذا هو المفلح الذي ينال النعيم في الدنيا، وينال نعيم الآخرة.
ثم إنَّه لا بد في علاج الهوى من الرجوع إلى منهج الكتاب والسنة، لا إلى ما أحدثه المضلون من أصحاب الفِرَق الضالة، كالصوفية وغيرهم، فإنَّ هؤلاء لهم طرق مخالفة للمنهج المستقيم.
ثم ننبِّه إلى أمور منها: أنَّ من الأمور المهمة في علاج الهوى:
* دعاء الله-سبحانه وتعالى- والاستعانة به والنجوى إليه؛ لأنَّ الهوى بلاء وابتلاء مسلَّط على ابن آدم، فكان لزامًا أن يستعين بربه ويدعوه، لذلك كان من دعاء النبي-صلى الله عليه وسلم- كما في الترمذي ومستدرك الحاكم: (اللهم إني أعوذ بك من منكرات الأخلاق والأعمال والأهواء والأدواء)، فإذا كان -عليه الصلاة السلام- يستعيذ من الهوى؛ فما بالنا لا نستعيذ منه ونحن أحوج لذلك؟!
* ربط القلب بالله رغبة ورهبة وطمعًا وخشية واستعانة، فهذا من أكبر الأشياء المعينة على التغلُّب على الهوى، : {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} [النازعات: 40]، قال مجاهد: "العبد يهوى المعصية، فيذكر مقام ربه؛ لعلمه به في الدنيا ومقامه بين يديه في الآخرة، فيتركها لله –تعالى-".
فترك الهوى إنَّما يكون بالخوف من الله وخشيته، فالهوى أساس البلوى وينبوع الشر، وقَلَّ أن يُؤتَى المرء إلَّا من قِبَل الهوى، فخوف المؤمن من الله هو الحقيق بأن يمنعه من اتباع هواه.
* العزيمة القوية في السير إلى الله والدار الآخرة، فلا بد لعلاج الهوى من عزيمة حُرٍّ يغار لنفسه، ويغار عليها، فالعزيمة التي تملأ النفس صمودًا وثباتًا ومفارقة للأهواء والشبهات هي الكفيلة بذلك.
* لا بد من جرعة صبر، فترك المعاصي أمرٌ شاق على النفس يحتاج إلى صبر، لكن الله –تعالى- يعوِّض الصابر، وتارك الهوى يعوِّضه الله -عزَّ وجل- بحلاوة الإيمان وصلابة الطاعة.
* لا بد من ملاحظة حسن العاقبة، فمخالفة الهوى من العاقبة الحسنة في الدنيا وحلاوة الإيمان فيها، والعاقبة الحسنة في الآخرة من النعيم والجنة.
* ولا بد أيضًا من ملاحظة أنَّ الإنسان لم يُخْلَق لاتباع الهوى، وإنَّما هو لأمرٍ عظيم لا يحصل إلَّا بمخالفة الهوى.
* أن يعرف المرء أنَّه باتباعه لهواه فهو مشابه للبهائم التي تنساق مع شهواتها وهواها حتى تجرُّها إلى هلاكها.
* أن يفكِّر في ساعة قضاء وطره وما يعقبها من الحسرات التي سيقضيها بقية عمره، والتي هي من آثار تلك الساعة، وكم من معصية مضت في ساعتها وكأنَّها لم تكن، ثم بقيت آثارها وأوزارها في القلب مثبَّتة في كتاب لا يدع صغيرة ولا كبيرة إلَّا أحصاها، فكم فوَّت اتباع الهوى من فضيلة، وأوقع في رذيلة، وأعقب ذلًّا، وألزم عارًا لا يغسله الماء؛ كلُّ ذلك بسبب اتباع الهوى؟!
تفريغ مادة صوتية للشيخ: عبد الرحمن بن عبد الكريم الزيد -حفظه الله-
(بتصرف)
شبكة مسلمات,lk Hqg llk hjfu i,hi
المفضلات