الحمد لله رب العالمين , والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين وبعدبســـم الله الرحمن الرحيم
فهذا بحث مختصر في تحقيق موقف ابن تيمية من الرافضة , وهل كان يحكم بكفرهم أم لا ؟ , والسبب الذي أوجب هذا البحث هو : أن كثيرا من المعاصرين قد اختلفوا في تحديد موفق ابن تيمية من الرافضة , فمنهم من فهم من كلامه أنه يكفر الرافضة بأعيانهم , ومنهم من فهم من كلامه أنه كان لا يكفرهم بأعيانهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وزاد الخلاف بين الفريقين وتوسع , خاصة مع هذه الظروف المعاصرة , هذا كله مع أن كلام ابن تيمية موجود بين أيدينا , في كتبه ورسائله .
فالبحث العلمي يتطلب الرجوع إلى كلامه هو نفسه , وجمع متفرقه , ومراعاة أصول فكره وقواعده التي اعتمد عليها , ومنطلقاته , ومن ثم تحصيل رأيه في المسألة , وهذا ما أرجو أن يكون البحث قد حققه .
فالبحث في تحرير موفق ابن تيمية فقط , وليس في بحث المسألة ومناقشة تفاصيلها , وذكر أقوال العلماء فيها , وذكر ما استدلوا به في شأنها , بل في تحرير موفق ابن تيمية فقط .
وقد تكون هذا البحث من مسألتين :
المسألة الأولى : ذكر ما يدل من كلام ابن تيمية على عدم كفر الرافضة .
المسألة الثانية : الجواب على ما يشكل من كلام ابن تيمية في هذه المسألة .
مما لا شك فيه إن فرقة الشيعة الإثني عشرية ( الرافضة ) من أشهر الفرق التي رد عليها ابن تيمية - رحمه الله - , ونقض أقوالها , وبين ما عندهم من خطأ في المسائل العلمية , أو في الأصول المنهجية في الاستدلال , وحرص على تتبع كل هذا في كثير من كتبه .المسألة الأولى :
كلام ابن تيمية الذي يدل على عدم كفر الرافضة
بل إن ابن تيمية لم يغلظ على فرقة من الفرق كما أغلظ على الرافضة , فقد وصفهم بقلة العلم والعقل , والتناقض والاضطراب , والعداء للمسلمين , والتعاون مع الأعداء ضد المسلمين , وأنهم من أكذب الطوائف , وأنهم من أبعد الطوائف عن الدين , ونص على أن معتقدهم من أخبث المعتقدات , وذكر أنهم من أحقد الفرق على المسلمين , وأشدهم خطرا عليهم([1]) , ومن كلامه في هذا قوله :"والرافضة أشد بدعة من الخوارج , وهم يكفرون من لم تكن الخوارج تكفره , كأبي بكر وعمر , ويكذبون على النبي صلى الله عليه وسلم , والصحابة كذبا ما كذب أحد مثله , والخوارج لا يكذبون , لكن الخوارج كانوا أصدق وأشجع منهم , وأوفى بالعهد منهم , فكانوا أكثر قتالا منهم , وهؤلاء أكذب وأجبن وأغدر وأذل , وهم يستعينون بالكفار على المسلمين , فقد رأينا ورأى المسلمون أنه إذا ابتلي المسلمون بعدو كافر كانوا معه على المسلمين , كما جرى لجنكزخان ملك التتر الكفار , فإن الرافضة أعانته على المسلمين .
وأما إعانتهم لهولاكو ابن ابنه لما جاء إلى خراسان والعراق والشام فهذا أظهر وأشهر من أن يخفى على أحد , فكانوا بالعراق وخراسان من أعظم أنصاره ظاهرا وباطنا , وكان وزير الخليفة ببغداد الذي يقال له ابن العلقمي منهم , فلم يزل يمكر بالخليفة والمسلمين ويسعى في قطع أرزاق عسكر المسلمين وضعفهم وينهى العامة عن قتالهم ويكيد أنواعا من الكيد حتى دخلوا فقتلوا من المسلمين , ما يقال إنه بضعة عشر ألف ألف إنسان , أو أكثر أو أقل , ولم ير في الإسلام ملحمة مثل ملحمة الترك الكفار المسمين بالتتر , وقتلوا الهاشميين وسبوا نساءهم من العباسيين وغير العباسيين , فهل يكون مواليا لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم من يسلط الكفار على قتلهم , وسبيهم وعلى سائر المسلمين "([2]) .
ومن أقواله أيضا :" الرافضة , إنما نقابلهم ببعض ما فعلوه بأمة محمد صلى الله عليه وسلم سلفها وخلفها , فإنهم عمدوا إلى خيار أهل الأرض من الأولين والآخرين بعد النبيين والمرسلين , وإلى خيار أمة أخرجت للناس , فجعلوهم شرار الناس , وافتروا عليهم العظائم , وجعلوا حسناتهم سيئات , وجاءوا إلى شر من انتسب إلى الإسلام من أهل الأهواء , وهم الرافضة بأصنافها غاليها وإماميها وزيديها , والله يعلم وكفى بالله عليما ليس في جميع الطوائف المنتسبة إلى الإسلام مع بدعة وضلالة شر منهم , لا أجهل ولا أكذب ولا أظلم ولا أقرب إلى الكفر والفسوق والعصيان وأبعد عن حقائق الإيمان منهم "([3]), وكلام ابن تيمية في ذم الرافضة , وبيان ما عندهم كثير جدا , فهو من أشهر العلماء الذين ذموا الرافضة .
ومع هذا كله فإنه رحمه الله لم يحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام , بل اعتبرهم من الداخلين في دائرة الإسلام , وتعامل معهم بناءا على المقتضى .
ومما ينبغي أن يعلم في هذا المقام : أن الشيعة ليسوا على مرتبة واحدة في دينهم , ولهذا السبب تعددت الأحكام الصادرة عليهم من العلماء والأئمة , وحاصل ما ينتهي إليه الحكم على الشيعة هو أن يقال : إن الشيعة على ثلاثة أقسام : قسم كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة الإسماعيلية والنصيرية والقرامطة , والغلاة في علي رضي الله عنه - المؤلهين له- , وقسم غير كافر بالإجماع , ومن هؤلاء : الشيعة المفضلة , وقسم وقع فيه خلاف بين العلماء , ومن هؤلاء : الرافضة .
وهذا التقسيم هو الذي يدل عليه كلام ابن تيمية رحمه الله , فإنه لما ذكر الفرق التي أجمع الأئمة على عدم كفرهم ذكر منهم الشيعة المفضلة([4]) , وكذلك كرر كثيرا أن الإسماعلية النصيرية والقرامطة , وغيرهم من غلاة الشيعة كفار بالإجماع([5]) , وذكر في مواطن من كتبه أن العلماء لهم في الرافضة قولان , هما روايتان عن الإمام أحمد([6]) , وهذا التقسيم الثلاثي استعمله ابن تيمية في بيانه لحكم الفرق المنتسبة للإسلام , فالفرق عنده لا تخرج عن هذه الأقسام الثلاثة.
وعلى هذا فإنه لا يصح أن يقال : إن ابن تيمية لا يكفر الشيعة بإطلاق , ولا إنه يكفرهم بإطلاق , بل حكمهم عنده على التفصيل الذي سبق ذكره .
وهنا تبنيه مهم في تحرير محل البحث , وهو : أن محل البحث في حكم الرافضة أنفسهم لا في حكم ما عندهم من معتقدات , فمما لا شك فيه أن عندهم كثير من المعتقدات الكفرية , ولكن هناك فرق بين الكلام في معتقداتهم , بين الكلام في حكم أعيانهم , والبحث في الأمر الثاني لا في الأمر الأول .
والمقصود هنا : تحقيق مذهب ابن تيمية في حكم الرافضة , وأنه لم يكن مكفرا لهم . فالبحث هنا في حكم الرافضة الإثني عشرية فقط , وليس في مطلق الشيعة , بل في الرافضة فقط , فابن تيمية لم يكن مكفرا لهؤلاء الطائفة من الشيعة .
ومما يدل على هذا من كلامه عدة أمور منها :
الأمر الأول : أنه نص على وصفهم بالإسلام , وفي هذا يقول :" وقد ذهب كثير من مبتدعة المسلمين من الرافضة والجهمية وغيرهم إلى بلاد الكفار فأسلم على يديه خلق كثير , وانتفعوا بذلك , وصاروا مسلمين مبتدعين , وهو خير من أن يكونوا كفارا "([7]), فهذا الكلام من ابن تيمية يدل على أن وصف الإسلام ثابت لهم , وأن دخول الكافر في الإسلام على مذهب الرافضة خير له من بقائه على كفره .
وقال أيضا لما ذكر قول الرافضة في عصمة الأئمة :" فهذه خاصة الرافضة الإمامية التي لم يشركهم فيها أحد لا الزيدية الشيعة , ولا سائر طوائف المسلمين , إلا من هو شر منهم كالإسماعيلية الذين يقولون بعصمة بني عبيد , المنتسبين إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر , القائلين : بأن الإمامة بعد جعفر في محمد بن إسماعيل دون موسى بن جعفر , وأولئك ملاحدة منافقون .
والإمامية الاثنا عشرية خير منهم بكثير , فإن الإمامية مع فرط جهلهم وضلالهم فيهم خلق مسلمون باطنا وظاهرا , ليسوا زنادقة منافقين , لكنهم جهلوا وضلوا واتبعوا أهواءهم , وأما أولئك فأئمتهم الكبار العارفون بحقيقة دعوتهم الباطنية زنادقة منافقون , وأما عوامهم الذين لم يعرفوا أمرهم فقد يكونون مسلمين "([8]) ,فقد نص ابن تيمية هنا -كما هو ظاهر- على أن الرافضة فيهم خلق مسلمون ظاهرا وباطنا , فلو كان يكفرهم بأعيانهم لمجرد كونهم رافضة لما أثبت لحد منهم الإسلام الظاهر والباطن , فدل على أنه لا يكفرهم إلا إذا توفرت الشروط وانتفت الموانع , وهذا يوضحه الأمر الثاني .
الأمر الثاني : أنه نص على أنه لا يكفر المعين منهم إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع , وفي هذا المعنى يقول :" وأما تكفيرهم وتخليدهم ففيه أيضا للعلماء قولان مشهوران , وهما روايتان عن أحمد , والقولان في الخوارج والمارقين من الحرورية , والرافضة ونحوهم , والصحيح : أن هذه الأقوال التي يقولونها التي يعلم أنها مخالفة لما جاء به الرسول كفر , وكذلك أفعالهم التي هي من جنس أفعال الكفار بالمسلمين هي كفر أيضا , وقد ذكرت دلائل ذلك في غير هذا الموضع , لكن تكفير الواحد المعين منهم , والحكم بتخليده في النار , موقوف على ثبوت شروط التكفير وانتفاء موانعه , فإنا نطلق القول بنصوص الوعد والتكفير والتفسيق , ولا نحكم للمعين بدخوله في ذلك العام حتى يقوم فيه المقتضى الذي لا معارض له "([9]) , فهذا نص من ابن تيمية على ما يعتقده هو في الرافضة , وأنه لا يكفرهم بمجرد كونهم رافضة , بل لا بد من توفر شروط وانتفاء موانع , ولهذا قرر هنا أن أقوالهم كفر , وأما أعيانهم فليسوا كفارا , فقد فرق بين أقوالهم وبين حكمهم في أنفسهم .
وهذا من ابن تيمية تطبيق للقاعدة العظيمة في باب الوعد والوعيد , وهي التفريق بين الكلام في الوصف المطلق , والكلام في المعين , وهذه القاعدة من أهم القواعد التي طبقها ابن تيمية في حكمه على الفرق والمخالفين , وسيأتي مزيد كلام على هذه القاعدة إن شاء الله .
الأمر الثالث : أنه لما سئل عمن يفضل اليهود والنصارى على الرافضة , أنكر هذا وقال : " كل من كان مؤمنا بما جاء به محمد فهو خير من كل من كفر به , وإن كان في المؤمن بذلك نوع من البدعة , سواء كانت بدعة الخوارج والشيعة والمرجئة والقدرية أو غيرهم " ([10])
الأمر الرابع : أنه لما سئل عن حكم تزويج الرافضي , ذكر أن الأصل عدم تزويجه لأنه يخشى منه أن يؤثر على عقيدة زوجته , فلو كان الرافضي كافرا عنده لمنع من تزويجه لأجل كفره , فدل هذا على أنه لا يرى أن الرافضي خارج من الإسلام , في هذا يقول :" الرافضة المحضة هم أهل أهواء وبدع وضلال , ولا ينبغي للمسلم أن يزوج موليته من رافضي , وإن تزوج هو رافضية صح النكاح , إن كان يرجو أن تتوب , وإلا فترك نكاحها أفضل , لئلا تفسد عليه ولده"([11]) , فلو كانت الرافضية عنده كافرة لما صح نكاح غير الرافضي من أهل السنة أو غيرهم منها .
الأمر الخامس : أنه حكم بصحة الصلاة خلف الإمام الرافضي , فلو كان الرافضي كافرا عنده لقال ببطلان الصلاة خلفه , لأن الصلاة خلف الإمام الكافر لا تصح كما هو معلوم , وفي هذا يقول :" والفاسق والمبتدع صلاته في نفسه صحيحة , فإذا صلى المأموم خلفه لم تبطل صلاته , لكن إنما كره من كره الصلاة خلفه لأن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر واجب , ومن ذلك أن من أظهر بدعة أو فجورا لا يرتب إماما للمسلمين , فانه يستحق التعزيز حتى يتوب , فإذا أمكن هجره حتى يتوب كان حسنا , وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره آثر ذلك حتى يتوب , أو يعزل , أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه , فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان فيه مصلحة , ولم يفت المأموم جمعة ولا جماعة , وأما إذا كان ترك الصلاة يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفهم إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم.
وكذلك إذا كان الأمام قد رتبه ولاة الأمور , ولم يكن في ترك الصلاة خلفه مصلحة , فهنا ليس عليه ترك الصلاة خلفه , بل الصلاة خلف الإمام الأفضل أفضل , وهذا كله يكون فيمن ظهر منه فسق أو بدعة تظهر مخالفتها للكتاب والسنة ,كبدعة الرافضة والجهمية "([12]) , فقد ذكر أن هذا التفصيل والخلاف إنما هو في أصحاب البدع الظاهرة كبدعة الرافضة ونحوها , ومع هذا قرر أن الصلاة تصح خلفهم .
الأمر السادس : موقفه من شهادة الرافضي وروايته , فإنه وإن رد شهادة الرافضي وروايته , فإنما ردها لأجل أنهم عرفوا بالكذب , واشتهروا به([13]) , فلو كان مناط الرد عنده غير ذلك , كالكفر ونحوه , لذكره , لأن هذا المناط أشد مدعاة للرد .
فهذه بعض الأوجه من كلام ابن تيمية التي تدل على أنه لم يكن يكفر الرافضة , ولهذا لم يتعامل معهم على أنهم كفار, وكلام ابن تيمية الذي يدل على معنى هذه الأوجه كثير , وإن كان هناك بعض الأوجه الأخرى التي تدل على عدم كفر الرافضة مما لم يذكره ابن تيمية , ولكن المقصود هنا تحقيق مذهب ابن تيمية فقط .
وهذا القول وهو عدم تكفير الرافضة لم يتفرد به ابن تيمية , بل قال به جماعة من الأئمة قبله , ولا شك أن هذا القول هو القول الصحيح المنسجم مع قواعد أهل السنة وأصولهم .
قد أشكل على بعض الباحثين بعض كلام ابن تيمية في حكم الرافضة , وفهم منه إن ابن تيمية يكفر الرافضة على سبيل التعيين , ومن ذلك قوله عن الرافضة : أنهم قد ارتدوا عن الدين أو عن بعض الدين , ومن ذلك أيضا قوله : أن أصل دين الرافضة من اليهود , لأن أول من قال به هو ابن سبأ , وهو من اليهود , ومن ذلك قوله : أن الزندقة كثرة في الرافضة , وأن أصل دينهم الكفر والزندقة , ومن ذلك حديثه عن خبث الرافضة , ومعاداتهم المسلمين , وموالاة الكفار عليهم , وقولهم : بتحريف القرآن , وارتداد الصحابة , واتهامهم لأزواج النبي صلى الله عيه وسلم , وبناته ما عدا فاطمة , وغير ذلك من الكفريات التي عندهم([14]) .المسألة الثانية :
الجواب على ما أشكل من كلام ابن تيمية في حكم الرافضة
ومن كلامه الذي فهم منه أنه يكفر الرافضة بأعيانهم قوله :"أما من اقترن بسبه دعوى أن عليا إله أو انه كان هو النبي وإنما غلط جبريل في الرسالة فهذا لاشك في كفره. بل لا شك في كفر من توقف في تكفيره، و كذلك من زعم منهم أن القران نقص منه آيات وكتمت , أو زعم أن له تأويلات باطنية تسقط الأعمال المشروعة , ونحو ذلك , وهؤلاء يسمون القرامطة والباطنية , ومنهم التناسخية , و هؤلاء لا خلاف في كفرهم. وأما من سبهم سبا لا يقدح في عدالتهم و لا في دينهم , مثل وصف بعضهم بالبخل أو الجبن أو قلة العلم أو عدم الزهد ونحو ذلك، فهذا هو الذي يستحق التأديب والتعزير ولا يحكم بكفره بمجرد ذلك. وعلى هذا يحمل كلام من لم يكفرهم من العلماء. وأما من لعن وقبح مطلقا , فهذا محل الخلاف فيهم , لتردد الأمر بين لعن الغيظ ولعن الاعتقاد. وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره، فانه مكذب لما نصه القران في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم. بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين فان مضمون هذه المقالة أن نقلة الكتاب والسنة كفار أو فساق وان هذه الأمة التي هي: ( كنتم خير امة أخرجت للناس ) وخيرها هو القرن الأول، كان عامتهم كفارا أو فساقا، ومضمونها أن هذه الأمة شر الأمم و أن سابقي هذه الأمة هم شرارها. وكفر هذا مما يعلم بالاضطرار من دين الإسلام. ولهذا تجد عامة من ظهر عنه شيء من هذه الأقوال فانه يتبين انه زنديق. وعامة الزنادقة إنما يستترون بمذهبهم. وقد ظهرت لله فيهم مثلات وتواتر النقل بان وجوههم تمسخ خنازير في المحيا والممات. وجمع العلماء ما بلغهم في ذلك وممن صنف فيه الحافظ الصالح أبو عبد الله محمد بن عبد الواحد المقدسي كتابه في النهي عن سب الأصحاب وما جاء فيه من الإثم والعقاب"([15]), هذا النص بين فيه ابن تيمية حكم أصناف الشيعة , وأطلق فيه الكفر على الرافضة كما هو ظاهر في قوله :" وأما من جاوز ذلك إلى أن زعم أنهم ارتدوا بعد رسول الله إلا نفرا قليلا لا يبلغون بضعة عشر نفسا أو أنهم فسقوا عامتهم فهذا لا ريب أيضا في كفره، فانه مكذب لما نصه القران في غير موضع من الرضى عنهم والثناء عليهم. بل من يشك في كفر مثل هذا فان كفره متعين " إلى آخر كلامه .
ومن كلامه أيضا قوله :" وهؤلاء الرافضة : إما منافق وإما جاهل فلا يكون رافضي ولا جهمي إلا منافقا أو جاهلا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لا يكون فيهم أحد عالما بما جاء به الرسول مع الإيمان به فإن مخالفتهم لما جاء به الرسول وكذبهم عليه لا يخفى قط إلا على مفرط في الجهل والهوى "([16]) .
ومن ذلك قوله : بجواز قتل الرافضي المعين إذا كان داعية , فإنه قال :" فأما قتل الواحد المقدور عليه من الخوارج , كالحرورية والرافضة ونحوهم , فهذا فيه قولان للفقهاء , هما روايتان عن الإمام أحمد , والصحيح : أنه يجوز قتل الواحد منهم , كالداعية إلى مذهبه , ونحو ذلك ممن فيه فساد "([17]) .
فهذه الأقوال وغيرها من كلام ابن تيمية قد فهم منها بعض الناظرين في كلامه أنه كان يكفر الرافضة بأعيانهم .
وفي الحقيقة : فإن هذا ونحوه لا يمكن أن يؤخذ منه أن ابن تيمية كان يكفر الرافضة بأعيانهم , ولا ينبغي في البحث العلمي أن يترك مثل كلامه السابق الصريح والواضح , الذي نص فيه أنه لا يكفر الرافضي بمجرد كونه رافضي , وإنما لا بد من توفر شروط معينة , فلا يحق لنا أن نترك هذا الكلام الصريح الذي ذكره هو بنفسه , ونأخذ بمثل هذا الكلام العام والمجمل .
ومع هذا فما ذكر هنا يمكن أن يجاب عنه بعدة أجوبة كلية منها:
الأول : التذكير بقاعدة أهل السنة في التكفير ونحوه , وهي التفريق بين الكلام في الوصف المطلق وبين الكلام في المعين , فقد يكون القول كفرا ولا يلزم بالضرورة أن يكون القائل كافرا , وهذه القاعدة مشهورة طبقها الأئمة , ومنهم ابن تيمية كثيرا , وقد طبقها مع الرافضة أنفسهم كما سبق نقل كلامه .
وأكثر ما وقع من الإشكال في حكم الرافضة عند كثير من الدارسين هو بسبب الغفلة عن حقيقة هذه القاعدة .
وبيان حقيقتها هو أن يقال : إن الحكم على الفعل المعين بكونه كفرا لا يلزم منه أن كل من فعله فهو كافر , وعدم تكفير المعين الذي وقع في الفعل المكفر لا يلزم منه أن ما وقع فيه ليس كفرا , فانطباق حكم الفعل المعين على فاعله لا بد فيه من توفر شروط معينة , وانتفاء موانع معينة , فإذا لم تتوفر الشروط وتنتفي الموانع , فإنه لا يحكم بانطباق حكم هذا الفعل المعين على فاعله , وإذا لم ننزل حكم الفعل على فاعله , فإن هذا لا يلزم منه أن حكم الفعل في نفسه قد ارتفع , فتحصل من هذا : أن هناك فرقا بين حكم الفعل في نفسه , وبين تحقق حكم هذا الفعل في فاعله , فرفع الحكم الثاني لا يلزم منه رفع الحكم الأول , فإذا قلنا : إن فاعل هذا الفعل ليس كافرا لا يعني هذا أن الفعل لا يمكن أن يكفر به أحد , بل قد يفعله رجل آخر فنحكم بكفره , لأنه قد توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع . فالمعتبر في انطباق حكم الفعل على فاعله ليس حكم الفعل فقط , بل لا بد مع حكم الفعل من توفر شروط أخرى وانتفاء موانع , وعلى فإذا حكمنا على فعل ما بأنه كفر , لا يلزم منه أن يكون هذا حكم منا على كل فاعل له بأنه كافر .
إذا تقرر هذا فإن ابن تيمية قد أطلق الكفر على كثير من معتقدات الرافضة , بل وأطلق وصف الكفر على الرافضة , ومع هذا لم ينزل حكم هذه المعتقدات - الذي هو التكفير - على أعيانهم , وهذا منه تطبيق للقاعدة التي سبق شرحها .
وعلى هذا فلا يصح لنا أن نأخذ من مثل هذه الإطلاقات عند ابن تيمية أنه كان يكفر الرافضة بأعيانهم -كما فهمه بعض من نظر في كلامه - , ومن فهم هذا عن ابن تيمية فقد أخطأ من جهتين : الأولى : أنه خالف صريح كلامه في عدم تكفير الرافضة , كما سبق نقله , والثانية : أنه خالف مقتضى القاعدة التي طبقها ابن تيمية في عامة كلامه .
والملاحظ : أن من نقل عن ابن تيمية تكفير الرافضة إنما يذكر نصوصا من هذا القبيل , أعني نصوصا يحكم فيها ابن تيمية بالكفر على أفعال الرافضة , أو يحكم على مطلق الرافضة بأنهم كفار , ولم يذكروا نصا صريحا فيه تكفير ابن تيمية لأعيان الرافضة , كالنص الذي ذكر فيه ابن تيمية نفسه أنه لا يكفر أعيان الرافضة إلا بتوفر شروط وانتفاء موانع .
فمن أبى إلا أن يفهم من مثل الكلام عن ابن تيمية أنه يكفر الرافضة بأعيانهم فكيف عن قول ابن تيمية نفسه : أن الرافضة فيهم المسلم ظاهرا وباطنا؟! , وكيف يكون موفقه من قول ابن تيمية نفسه من انه لا يكفر الرافضة بأعيانهم إلا مع توفر الشروط وانتفاء الموانع ؟!!.
الثاني : أنه لا يلزم من كون أصل القول قال به يهودي أو نصراني أن يكون كل من قال به كافرا خارجا عن الإسلام , لأنه قد يقوله المسلم وهو جاهل بأول من أحدثه , أو يقوله وهو متأول , وإن كان يلزم منه ذم هذا القول وبطلانه , والكلام ليس في حكم القول , إنما في حكم القائل به .
الثالث :أن كون الأصل في الرافضة ألا يكفروا على التعيين , لا يلزم منه ألا يحكم على أحد منهم بالكفر والزندقة والنفاق , وذلك : أنا قد نحكم على بعض أفراد الرافضة بالكفر , لأنه قد توفرت فيه الشروط وانتفت الموانع , وكون بعض الرافضة كافر لا يلزم منه أن كل من تسمى باسم الرافضة كذلك , وكذلك لا يلزم من كون بعض الرافضة ليس كافرا , أن يكون كل رافضي كذلك أيضا , وهذا التقرير يحمل عليه كلام ابن تيمية في كون الرافضة فيهم كفر وزندقة , فمعنى كلامه هذا هو : أن الرافضة كثر في أعيانهم ورؤسائهم الكفر والنفاق والزندقة , وحكمه على مثل هؤلاء بهذا الحكم لأجل أنهم قد توفرت فيهم شروط التكفير وانتفيت موانعه , لا لأجل أنهم رافضة فقط , والبحث ليس في كون بعض الرافضة هل كفر أم لا ؟ , وإنما في الأصل فيهم هل هم كفار بأعيانهم أم لا ؟ .
الرابع :أنه لا يلزم من الحكم بجواز قتل المعين أن يكون كافرا , بل قد يقتل المسلم المعين إذا وجد ما يبيح قتله , مع الحكم بإسلامه , وأسباب إباحة دم المسلم مذكورة في كتب الفقه .
والمقصود هنا : بيان انفصال التلازم بين إباحة الدم وبين الحكم بالكفر , وإلا لزم الحكم بكفر القاتل والزاني وغيرهما .
الخامس : هناك فرق بين ذم الرافضة , وبيان خطرهم على الأمة والمسلمين , وبيان خبثهم , ونحو ذلك من الكلام , وبين الحكم بكفرهم , فإن الحكم بكفرهم توقيع عن رب العالمين , وبيان لحكم الله فيهم , وهذا يحتاج إلى أدلة من الشرع تثبته , وأما الأحكام الأخرى كالعداء والخبث الخطورة ونحو ذلك , فهي أحكام راجعة تجارب الناس وتعايشهم فيما بينهم , ولا شك أن التجارب أثبتت أن الرافضة من أشد الناس عداءا للمسلمين , وأن خطرهم عظيم جدا , ولكن لا يلزم من هذا أن يحكم بكفرهم , لأن إثبات هذا الأمر له طريق آخر .
فالحكم بكفر الرافضة له طريق , والحكم عليهم بالأحكام الأخرى له طريق أخر , فقتلهم للمسلمين , وبغضهم لهم , وخبث طويتهم , وأفعالهم الشنيعة , لا تصلح أن تكون دليلا على كفرهم , وإلا لحكمنا بالكفر على كل من فعل كفعلهم من باقي المسلمين , لأن الدليل يجب طرده , فنحكم على من قتل عددا من المسلمين بأنه كافر , وأن من أبغض طائفة من المسلمين بأنه كافر , وهكذا , وسنخرج عددا كبيرا من المسلمين من دائرة الإسلام بهذه الطريقة , ولا شك في بطلان هذا الحال .
وكذلك لا يلزم من عدم تكفير الرافضة تزكيتهم , ونسيان شنائعهم , وتبرئة تاريخهم المظلم .
والمقصود هنا : أنا لا بد أن نفرق بين طبيعة كل حكم , وطريق إثبات صحته .
وابن تيمية مدرك لهذا الأمر تماما , فإنه وصف الرافضة بما يستحقونه من الأوصاف , حتى ذكر أنهم أخطر على الأمة من اليهود والنصارى , وهذه الأمور إنما عرفها بالتجربة والمعاشرة , ولكنه لما وصل إلى الحكم بالكفر الذي هو تعبير عن مراد الله لم يستعمل طريق التجربة في إطلاق هذا الحكم , بل رجع إلى النصوص لأنها هي الطريق الوحيد في إصدار هذه الأحكام فلم يجد أن الرافضة كفار بأعيانهم . ومن تأمل كلامه يدرك هذا تماما .
والحاصل : أن التحذير من الرافضة له طريق , والحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام له طريق آخر , فلا ينبغي الخلط بينهما , بل إن الخلط بينهما يؤدي إلى إشكالات كثيرة .
السادس : أن الشيعة متفاوتون في معتقدهم , فمنهم الغالي ومنهم من ليس كذلك , فلا يلزم من الحكم على طائفة منهم بالكفر , أن هذا الحكم منطبق على كل طوائف الشيعة , فكون بعض طوائف الشيعة كافر لا يلزم منه أن كل الشيعة كافر , وكذلك العكس , وهذا الكلام سبق له ذكر .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد , وعلى آله وصحبه أجمعين
([1]) انظر : مجموع الفتاوى (3/356) ومنهاج السنة البنوية ( 7/220 )و(2/46)و(5/160)و(3/377) .
([2]) منهاج السنة (5/154) .
([3]) منهاج السنة (5/160) .
([4]) انظر : مجموع الفتاوى (3/351) .
([5]) انظر : منهاج السنة (3/452)و(5/12,337) وغيرها من المواطن .
([6])انظر : مجموع الفتاوى (3/56) والصارم المسلول (567ـ571)
([7]) مجموع الفتاوى (13/96).
([8]) منهاج السنة (2/452) .
([9]) مجموع الفتاوى (28/500).
([10]) مجموع الفتاوى (35/201).
([11]) مجموع الفتاوى (32/61) .
([12]) مجموع الفتاوى (23/354) .
(2) انظر : منهاج السنة (1/452)و(5/87) .
([14]) قد سبق توثيق كلام ابن تيمية في هذا الكلام في أول البحث .
([15]) الصارم المسلول (1108-1112) .
([16]) منهاج السنة (5/161) .
([17]) مجموع الفتاوى (28/499) .ig hgadum ;thv ?fpe
المفضلات