السلام عليكم.
مجلة البيان.
وصفي عاشور أبو زيد
الخطابة إحدى الركائز الأساسية والوسائل المهمة في الدعوة إلى الله تعالى؛ فهي اللقاء الأسبوعي الذي يحتشد فيه المسلمون في مسجد جامع ليسمعوا الخطيب يذكِّرهم ربهم ويعلمهم دينهم.
فالخطابة في الإسلام تمثل مظهر الحياة التي تجعل القيم النبيلة، والمثل الرفيعة، والأخلاق الفاضلة تصل من قلب إلى قلب، وتثب من فكر إلى فكر، فتنعش الروح ويتجدد الإيمان؛ فلا غرو أن تكون بذلك من شعائر الإسلام.
ومن المؤسف حقّاً ـ في عصرنا الحاضر ـ أن كثيراً المنابر أصبحت تحمل فوقها ساعة الجمعة أشباه الخطباء الذين فرَّغوا الخطابة من محتواها، وأخرجوها عن إطارها الصحيح، وأبعدوها عن أداء أماناتها وإبلاغ رسالتها.
فلا يرقى أكثرهم أن يقرأ آية من كتاب الله ويعطيها حقها، أو يروي حديثاً صحيحاً بنصه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، أو يصوغ عبارة صحيحة من ناحية اللغة، فما أصدق ما قال أديب العربية والإسلام مصطفى صادق الرافعي: «ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجالٌ بمعنى الكلمة، لا رجالٌ في أيديهم سيوف من خشب»(1).
وإني لأعرف أناساً من المصلين يتأخرون عن الخطبة ـ بصرف النظر عن الحكم الشرعي لذلك ـ ويحضرون قبيل إقامة الصلاة حتى يعفوا آذانهم من سماع الكلام المكرر الذي يخدش روعة الجمعة، ويُذهِب جلال اليوم وبهاءه.
وهذا الحديث ليس موجهاً لهؤلاء الذين اتخذوا من الخطابة مهنة يتكسبون من ورائها، إنما هو موجه إلى دعاة على درجة معينة من الثقافة، يفقهون دور الخطابة، مدركين أثرها وتأثيرها في المجتمع.
أما أولئك فساحة المسجد أوْلى بهم من منبر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
بين أيدينا حديثٌ من جوامع الكلم، وخطبة تُعدُّ وثيقة من وثائق الإسلام، ومثلاً أعلى لكل داعية، ونموذجاً للخطبة الناجحة يحتذيه الخطيب الناجح.
إنها خطبة حجة الوداع التي ألقاها أفصح العرب طُرّاً محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - في جموع بلغت عشرات الآلاف.
بعد أن حمد الله وأثنى عليه قال - صلى الله عليه وسلم - (2): «أيها الناس! اسمعوا قولي؛ فإني لا أدري لعلّي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً. أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرامٌ إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت. فمن كانت عنده أمانة فلْيؤدِّها إلى من ائتمنه عليها، وإن كل رِبا موضوعٌ، ولكن لكم رؤوس أموالكم لا تَظلمون ولا تُظلمون. قضى الله أنه لا ربا، وإن ربا عباس ابن عبد المطلب موضوعٌ كله، وإن كل دمٍ كان في الجاهلية موضوع، وإن أول دمائكم أضع دم ابن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وكان مسترضعاً في بني ليث فقتلته هذيل؛ فهو أول ما أبدأ به من دماء الجاهلية.
أما بعد: أيها الناس! فإن الشيطان قد يئس من أن يُعبَد بأرضكم هذه أبداً، ولكنه إن يُطَعْ فيما سوى ذلك فقد رضي به مما تحقرون من أعمالكم، فاحذروه على دينكم!
أيها الناس! {إنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِّيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} [التوبة: 37]، ويحرموا ما أحل الله، وإن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً، منها أربعة حرم، ثلاثة متوالية، ورجب مضر(1)، الذي بين جمادى وشعبان.
أما بعد: أيها الناس! فإن لكم على نسائكم حقّاً، ولهن عليكم حقّاً، لكم عليهن ألا يُوطئن فُرُشكم أحداً تكرهونه، وعليهن ألا يأتين بفاحشة مبينة، فإن فعلن فإن الله قد أذن لكم أن تهجروهن في المضاجع وتضربوهن ضرباً غير مبرِّح، فإن انتهين فلهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف، واستوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوانٍ(2)، لا يملكن لأنفسهن شيئاً، وإنكم إنما أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمات الله، فاعقلوا أيها الناس قولي! فإني قد بلَّغت، وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا بعدي أبداً، أمراً بيناً: كتاب الله، وسنة نبيه.
أيها الناس! اسمعوا قولي واعقلوه! تعلمُنَّ أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمُن أنفسكم، اللهم هل بلَّغت؟».
فذُكر لي أن الناس قالوا: اللهم نعم! فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : اللهم اشهد.
قال ابن إسحاق: «... كان الرجل الذي يصرخ في الناس بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يعرفه ربيعة بن أمية بن خلف...».tri hgo'hfm lk oghg o'fm hg,]hu
المفضلات