أولا ً: فضل العشر عموما:
1 ـ قال الله تعالى: {وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1، 2].
قال ابن جرير رحمه الله: "والصواب من القول في ذلك عندنا أنها عشر الأضحى لإجماع الحجة من أهل التأويل عليه"([1]) .
وقال القرطبي رحمه الله: "وإنما نكرت ولم تعرّف لفضيلتها على غيرها، فلو عُرِّفت لم تستقل([2]) بمعنى الفضيلة الذي في التنكير، فنكرت من بين ما أقسم به للفضيلة التي ليست لغيرها"([3]) .
وقال ابن القيم رحمه الله: "فالزمان المتضمن لمثل هذه الأعمال أهل أن يقسم الرب عز وجل به"([4]) .
وقال ابن كثير رحمه الله: "والليالي العشر: المراد بها عشر ذي الحجة كما قاله ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف"([5]) .
وقال ابن رجب رحمه الله: "ولعشر ذي الحجة فضائل أخر غيرها تقدم، فمن فضائله: أن الله تعالى أقسم به جملة، وببعضه خصوصًا. : {وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ}... وأما الليالي العشر فهي عشر ذي الحجة، هذا الصحيح الذي عليه جمهور المفسرين من السّلف وغيرهم، وهو الصحيح عن ابن عباس، روي عنه من غير وجه"([6]).
وقال الشوكاني رحمه الله: "هي عشر ذي الحجة في قول جمهور المفسرين"([7]).
وقال ابن سعدي رحمه الله: "وهي على الصحيح ليالي عشر رمضان، أو عشر ذي الحجة؛ فإنها ليال مشتملة على أيام فاضلة، ويقع فيها من العبادات والقربات ما لا يقع بغيرها، ... وفي أيام عشر ذي الحجة الوقوف بعرفة الذي يغفر الله فيه لعباده مغفرة يحزن لها الشيطان، فإنه ما رُئيَ الشيطان أحقر ولا أدحر منه في يوم عرفة؛ لما يرى من تنزُّل الأملاك والرحمة من الله على عباده، ويقع فيها كثير من أفعال الحج والعمرة، وهذه أشياء معظمة مستحقة أن يقسم الله بها"([8]) .
2 ـ عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما من أيام العمل الصالح فيهن أحب إلى الله من هذه الأيام العشر)) فقالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ فقال: ((ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله فلم يرجع من ذلك بشيء)) ([9]) .
قال ابن رجب رحمه الله: "دل هذا الحديث على أن العمل في أيامه أحب إلى الله من العمل في أيام الدنيا من غير استثناء شيء منها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده"([10]).
قوله صلى الله عليه وسلم: ((إلا رجل خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء)) "فهذا الجهاد بخصوصه يفضل على العمل في العشر، وأما بقية أنواع الجهاد فإن العمل في عشر ذي الحجة أفضل وأحب إلى الله عز وجل منهما، وكذلك سائل الأعمال.
وهذا يدل على أن العمل المفضول في الوقت الفاضل يلتحق بالعمل الفاضل في غيره، ويزيد عليه لمضاعفة ثوابه وأجره"([11]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "وفي الحديث تفضيل بعض الأزمنة على بعض كالأمكنة، وفضل عشر ذي الحجة على غيرها من أيام السنة"([12]) .
3 ـ و: {وَأَذّن فِى ٱلنَّاسِ بِٱلْحَجّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَىٰ كُلّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلّ فَجّ عَميِقٍ * لّيَشْهَدُواْ مَنَـٰفِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ فِى أَيَّامٍ مَّعْلُومَـٰتٍ عَلَىٰ مَا رَزَقَهُمْ مّن بَهِيمَةِ ٱلاْنْعَامِ} [الحج: 27، 28].
قال ابن عباس عن الأيام المعلومات: (أيام العشر)([13]).
قال ابن جرير رحمه الله: "يقول تعالى ذكره: كي يذكروا اسم الله على ما رزقهم من الهدايا والبدن التي أهدوها من الإبل والبقر والغنم، في أيام معلومات، وهن أيام التشريق في قول بعض أهل التأويل، وفي قول بعضهم: أيام العشر، وفي قول بعضهم: يوم النحر وأيام التشريق"([14]).
قال ابن رجب رحمه الله: "وجمهور العلماء على أن هذه الأيام المعلومات هي عشر ذي الحجة، منهم ابن عمر وابن عباس والحسن وعطاء ومجاهد وعكرمة وقتادة والنخعي، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور عنه"([15]).
الأعمال التي تستحب فيها:
أ ـ الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد:
عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من أيام أعظم عند الله، ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد)) ([16]).
قال الإمام البخاري رحمه الله: "كان ابن عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما يخرجان إلى السوق في أيام العشر يكبران، ويكبر الناس بتكبيرهما"([17]).
وعن يزيد بن أبي زياد قال: رأيت سعيد بن جبير وعبد الرحمن بن أبي ليلى ومجاهدًا ـ أو اثنين من هؤلاء الثلاثة ـ ومن رأينا من فقهاء الناس يقولون في أيام العشر: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد([18]).
وعن ميمون بن مهران قال: أدركت الناس وإنهم ليكبرون في العشر حتى كنت أشبهه بالأمواج من كثرتها، ويقول: إن الناس قد نقصوا في تركهم التكبير([19]).
قال ابن القيم رحمه الله: "وهي الأيام العشر التي أقسم الله بها في كتابه بقوله: {وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ} ولهذا يستحب فيها الإكثار من التكبير والتهليل والتحميد"([20]).
ب ـ الاجتهاد في سائر الطاعات:
كان سعيد بن جبير رحمه الله إذا دخلت العشر اجتهد اجتهادًا حتى ما يكاد يقدر عليه([21]).
وروي عنه أنه قال: (لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر) ([22]) كناية عن القراءة والقيام.
قال ابن رجب رحمه الله: "لما كان الله سبحانه وتعالى قد وضع في نفوس المؤمنين حنينًا إلى مشاهدة بيته الحرام، وليس كل أحد قادرًا على مشاهدته كل عام، فرض على المستطيع الحج مرة واحدة في عمره، وجعل موسم العشر مشتركًا بين السائرين والقاعدين، فمن عجز عن الحج في عام قدر في العشر على عمل يعمله في بيته، يكون أفضل من الجهاد الذي هو أفضل من الحج"([23]).
وقال ابن حجر رحمه الله: "والذي يظهر أن السبب في امتياز عشر ذي الحجة لمكان اجتماع أمهات العبادة فيه، وهي: الصلاة، والصيام، والصدقة، والحج، ولا يأتي ذلك في غيره"([24]).
ثانيا ً: فضل يوم عرفة:
ليوم عرفة فضائل كثيرة ومحاسن جمة عفيرة منها:
1 ـ كثرة عتق الله لعباده من النار، وأنه سبحانه يباهي بالحاج فيه ملائكته ويعمهم بالغفران.
عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء؟))([1]) .
قال النووي: "هذا الحديث ظاهر الدلالة في فضل يوم عرفة"([2]).
2 ـ أنه اليوم الذي أكمل الله فيه للأمة دينها وأتم عليها نعمته:
عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً من اليهود قال له: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا. قال: أي آية؟ قال: {ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى وَرَضِيتُ لَكُمُ ٱلأسْلاَمَ دِيناً} [المائدة: 2] قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم وهو قائم بعرفة، يوم جمعة([3]) .
3 ـ أنه يوم عيد.
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق عِيدُنا أهلَ الإسلام، وهي أيام أكل وشرب))([4]) .
قال ابن القيم رحمه الله: "يوم عرفة يوم عيد لأهل عرفة، ولذلك كُره لمن بعرفه صومه"([5]).
4 ـ أن فيه يقع أعظم الأركان الذي به يدرك الحج ألا وهو الوقوف بعرفات.
عن عبد الرحمن بن يعمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))([6]).
قال الترمذي: "والعمل على حديث عبد الرحمن بن يعمر عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم، أنه من لم يقف بعرفات قبل طلوع الفجر، فقد فاته الحج، ولا يجزئ عنه إن جاء بعد طلوع الفجر، ويجعلها عمرة، وعليه الحج من قابل، وهو قول الثوري والشافعي وأحمد وإسحاق".
وقال النووي: "أي: عماده ومعظمه عرفة"([7]).
وقال المناوي: "أي: معظمه أو ملاكه الوقوف بها، لفوت الحج بفوته"([8]).
وقال السيوطي: "قال الشيخ عز الدين بن عبد السلام في أماليه... فإن قيل قوله صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة)) يدل على أفضلية عرفة؛ لأن التقدير: معظم الحج وقوف عرفة. فالجواب: أن لا نقدر ذلك، بل نقدر أمرًا مجمعًا عليه: وهو إدراك الحج وقوف عرفة، فمن أدرك ليلة عرفة قبل طلوع الفجر من ليلة جمع فقد تم حجه"([9]).
وقال السندي: "والمقصود: أن إدراك الحج يتوقف على إدراك الوقوف بعرفة"([10]).
وقال الشوكاني: "قوله: ((الحج عرفة)) أي: الحج الصحيح حج من أدرك عرفة"([11]).
ولله در ابن القيم حين يصور ذلك الموقف العظيم:
الأعمال المستحبة فيه:وراحوا إلى التعريف يرجون رحمةً ومغفــــرة ممن يجود ويُكرمفلله ذاك المـوقف الأعظم الذي كموقف يوم العرض بل ذاك أعظمويدنو به الجبـار جـل جـلاله يباهـي بهـم أملاكـه فهو أكرميقـول عبـادي قد أتـوني محبةً وإني بهـم بـرٌّ أجـود وأرحـمفأُشهدكم أني غفـرتُ ذنـوبهم وأعطيتُهـم ما أمَّلـوه وأنعــمفبشراكم يا أهل ذا الموقفِ الذي به يغفر الله الذنـوب ويرحــمفكم من عتيق فيه كمــل عتقه وآخـر يستسـعي وربك أرحموما رئي الشيطان أغيظَ في الورى وأحقـر منـه عنـدها وهو ألأموذاك لما قـد رآه فغاظــــه فأقبـل يحثـو الترب غيظًا ويلطموما عاينتْ عيناه من رحمةٍ أتـت ومغفرة من عند ذي العرش تقسـمبنى ما بنى حتى إذا ظــن أنـه تمكَّن مـن بنيانـه فهـو مُحكـمأتى الله بنيانا له من أساســه فخـر عليــه ساقطًا يتهــدموكم قدْر ما يعلو البناء وينتهي إذا كان يبنيه وذو العـرش يهـدم
1 ـ الصيام: عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟. .. وذكر الحديث بطوله، وفيه أنه صلى الله عليه وسلم قال: ((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله، والسـنة التي بعده...))([12]).
قال النووي: "((صيام يوم عرفة، أحتسب على الله أن يكفر السنة التي قبله والسنة التي بعده)) معناه: ذنوب صائمه في السنتين. قالوا: والمراد بها الصغائر، وسبق بيان مثل هذا في تكفير الخطايا بالوضوء, وذكرنا هناك أنه إن لم تكن صغائر، يُرجى التخفيف من الكبائر، فإن لم يكن رُفعت درجات"([13]).
قال ابن القيم رحمه الله: "فتفاضل الأعمال عند الله تعالى بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص والمحبة وتوابعها، وهذا العمل الكامل هو الذي يكفر الذنوب تكفيرًا كاملاً، والناقص بحسبه، وبهاتين القاعدتين تزول إشكالات كثيرة. وهما: تفاضل الأعمال بتفاضل ما في القلوب من حقائق الإيمان، وتكفير العمل للسيئات بحسب كماله ونقصانه. وبهذا يزول الإشكال الذي يورده من نقص حظه من هذا الباب على الحديث الذي فيه: ((إن صوم يوم عرفة يكفر سنتين، ويوم عاشوراء يكفر سنة))([14]) قالوا: فإذا كان دأبه دائمًا أنه يصوم يوم عرفة فصامه وصام يوم عاشوراء، فكيف يقع تكفير ثلاث سنين كل سنة؟ وأجاب بعضهم عن هذا بأن ما فضل عن التكفير ينال به الدرجات. ويا لله العجب. فليت العبد إذا أتى بهذه المكفرات كلها أن تكفر عنه سيئاته باجتماع بعضها إلى بعض، والتكفير بهذه مشروط بشروط، وموقوف على انتفاء موانع في العمل وخارجه.
فإن علم العبد أنه جاء بالشروط كلها، وانتفت عنه الموانع كلها فحينئذ يقع التكفير. وأما عمل شملته الغفلة أو لأكثره، وفقد الإخلاص الذي هو روحه. ولم يقدره حق قدره. فأي شيء يكفر هذا؟!
فإن وثق العبد من عمله بأنه وفاه حقه الذي ينبغي له ظاهرًا وباطنًا ولم يعرض له مانع يمنع تكفيره، ولا مبطل يحبطه من عجب أو رؤية نفسه فيه. أو يمن به، أو يطلب من العباد تعظيمه عليه، ويرى أنه قد بخسه حقه، وأنه قد استهان بحرمته، فهذا أي شيء يكفر؟!
ومحبطات الأعمال ومفسداتها أكثر من أن تحسر، وليس الشأن في العمل، إنما الشأن في حفظ العمل مما يفسده ويحبطه"([15]).
2 ـ الدعاء: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير)) ([16]).
قال ابن عبد البر: "وفيه من الفقه أن دعاء يوم عرفة أفضل من غيره، وفي ذلك دليل على فضل يوم عرفة على غيره، ... وفي الحديث أيضًا دليل على أن دعاء يوم عرفة مجاب كله في الأغلب"([17]).
قال المباركفوري: "قوله: ((خير الدعاء دعاء يوم عرفة)) لأنه أجزل إثابة، وأعجل إجابة، قال الطيبي: الإضافة فيه إما بمعنى اللام، أي: دعاء يختص به، ويكون قوله: ((وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله)) بيانًا لذلك الدعاء، فإن قلت: هو ثناء! قلت: في الثناء تعريض بالطلب"([18]).
ثانيا ً: فضل اليوم العاشر وهو يوم النحر:
عن عبد الله بن قرط الثمالي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الأيام عند الله يوم النحر، ثم يوم القر)) ([1]) .
قال ابن تيمية رحمه الله: "أفضل أيام العام هو يوم النحر، وقد قال بعضهم: يوم عرفة والأول هو الصحيح؛ لأن فيه من الأعمال ما لا يعمل في غيره: كالوقوف بمزدلفة، ورمي جمرة العقبة وحدها، والنحر، والحلق، وطواف الإفاضة، فإن فعل هذه فيه أفضل بالسنّة واتفاق العلماء والله أعلم"([2])
قال ابن القيم رحمه الله: "فخير الأيام عند الله يوم النحر، وهو يوم الحج الأكبر"([3]).
tqg uav `d hgp[m
المفضلات