فتنة المال
جعل الله الفقر والغنى مطيتين للابتلاء، يُمتحن بهما شكر الأغنياء, وصبر الفقراء، وجعل الدنيا متاعًا زائلًا، وحفَّها بالشهوات، وأصل شهواتها المال، وهو فتنة هذه الأمة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّ لكلِّ أمة فتنة، وفتنة أمتي المال)[1]، وهو من موازين الابتلاء {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15]، يَعْلَق بالمخلوق ويكبُر معه، وأضلَّ الكافرين، قال سبحانه: {وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا} [نوح: 21]، وأشغل المنافقين، قال سبحانه إخبارًا عن حالهم: {شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا} [الفتح: 11]، وألهى أفرادًا من المسلمين، قال سبحانه: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ} [التكاثر: 1]، وقد يُخْرِج العبد من ديانة، ويُدْخِلُه في أخرى، فشرع الإسلام إعطاء المؤلفة قلوبهم من الزكاة؛ طمعًا في إسلامهم، وقد يفتن المسلم في دينه، قال عليه الصلاة والسلام: (يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، أو يمسي كافرًا ويصبح مؤمنًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا)[2].
والشيطان مسلط بالعثو في الأموال، قال سبحانه: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ} [الإسراء: 64]، وهو من أسباب طغيان العبد وعصيانه، {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7،6]، وهو زينة الدنيا وخداعها، قال جل شأنه: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الكهف: 46].
والحرص عليه مما يفسد الدين، وإفساده للدين بالحرص عليه أشدُّ من إفساد الذئبين الجائعين إذا أُرْسِلا على غنم، قال عليه الصلاة والسلام: (ما ذئبان أُرْسِلا في غَنمٍ بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه)[3].
ومطامع النفس فيه لا تنقضي ما لم تُلْجَم بلجام القناعة والشكر، قال عليه الصلاة والسلام: (لو كان لابن آدم واديان من مال؛ لابتغى ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلَّا التراب)، وهو مما يخشاه المصطفى -صلى الله عليه وسلم- على أمته، قال عليه الصلاة والسلام: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتلهيَكم كما ألهتهم)[4].
والفقراء المستحقون للجنة يسبقون الأغنياء المستحقين لها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل أغنيائهم بنصف يوم، وهو خمسمائة عام)[5].
وكلُّ عبد يُسأل يوم يلقى ربه عن صفة كسبه أمن حلال هو أم من حرام، وكيف أنفق، قال -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزول قَدَمَا عبد يوم القيامة حتى يُسأل عن عمره فيما أفناه، وعن علمه فيما فعل، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه، وعن جسمه فيما أبلاه)[6].
وفي التكاثر منه شغل عن الآخرة {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ} [التكاثر: 2،1]، وهو لا يقرِّب من الله شيئًا، إنَّما يقرِّب الإنفاق منه والعمل الصالح، قال عزَّ وجل: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُم بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} [سبأ: 37]، وهو جمع الألم والمشقة، والجامع له خادم لغيره، {يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ} [الهُمَزَة: 3]، فالمال لغيرك، وجمعُه وجهُده عليك، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (يتبع الميت ثلاثًا، فيرجع اثنان، ويبقى معه واحد، يتبعه أهله وماله وعمله، فيرجع أهله وماله، ويبقى عمله)[7].
وقد يُمَدُّ العبد بالمال استدراجًا له، قال سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا} [المدّثر: 12،11].
وكم من مُعْجَبٍ بماله هلك، {فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} [الكهف: 34]، فأُهلك حرثه، وقارون أغنى أهل زمانه، بغى فخُسف به، قال عزَّ وجل: {فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ} [القصص: 81]، ومن اغتر بالمال؛ قد يُسْلَب إيَّاه، كما قصَّ الله في كتابه في قصة أصحاب البستان، في سورة القلم.
والمال الطيب يتضاعف، والمحرَّم وإن كان كثيرًا يتلاشى، قال عز وجل: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ} [المائدة: 100]، ومن أخذ المال من غير حِلِّه؛ نُزِعت بركته، وكان كمن يشرب من ماء البحر، قال -صلى الله عليه وسلم-: (إنَّه من يأخذه بغير حقه؛ كان كالذي يأكل ولا يشبع، ويكون شهيدًا عليه يوم القيامة)[8].
والأعمال تطيب بِطِيب المطعم، (إنَّ الله طيب لا يقبل إلَّا طيبًا)[9]، ولا قلب يصفو، ولا عمل يزكو، ولا أمل يُرجى لمن جمع المال الحرام، قال عزَّ وجل: {يَمْحَقُ اللّهُ الْرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ} [البقرة: 276]
وملذاته وزينته تُنزع منه، قال سبحانه: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ كَثِيرًا * وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ} [النساء: 162،161].
وقد يظهر شؤم المال المحرم على الجوارح، وقد يكون من أسباب عقوق الأبناء لوالديهم، قال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: "إنِّي لأعصي الله، فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي"، وإذا لامس المال الحرام الجسد؛ لم يُسْمَع الدعاء.
وفي الناس أغنياء وإن لم يملكوا أموالًا بغنى قلوبهم مما يملكون، وتعفُّفهم عما لا يملكون، قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس)[10].
وأفقر الأغنياء من حَرَم نفسه من الإنفاق، وأغنى الفقراء غني النفس المتعفِّف عن السؤال، والسعيد منهما من أكثر من الطاعات، واجتنب المعاصي، ومن كان غناه في قلبه؛ لم يزل غنيًا، ومن كان غناه في كسبه؛ لم يزل فقيرًا، ومن قصد المخلوقين لحوائجه؛ لم يزل محرومًا.
لفضيلة الشيخ/ عبد المحسن القاسم –حفظه الله-
[1] رواه الترمذي.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه الترمذي.
[4] متفق عليه.
[5] رواه الترمذي.
[6] رواه الترمذي.
[7] متفق عليه.
[8] متفق عليه.
[9] رواه مسلم.
[10] متفق عليه.
شبكة مسلماتtjkm hglhg
المفضلات