بقلم أ. د. زينب عبدالعزيز
أستاذة الحضارة الفرنسية
في شهر مايو 2009 بدأ العرض العالمي لفيلم "ملائكة وشياطين" للكاتب الأمريكي دان براون، مؤلف رواية " شفرة دافنشي"، التي أثارت زوبعة متفردة من ردود الأفعال حول العالم. وذلك لكل ما بها من معطيات تاريخية تمس كيان المؤسسة الكنسية، ولكل ما واكبها من أحداث لمحاصرتها.. وعلى عكس المتوقع، مر الفيلم الجديد عالميا ومحليا، مصحوبا بموجة عاتية من الصمت اللافت للنظر.. وبالبحث تبين أن ذلك الصمت يرجع إلى التعليمات الفاتيكانية، التي تلقت درسا لا ينسى من محاربتها لرواية وفيلم "شفرة دافنشي". فقد تمت ترجمة الرواية إلى أكثر من ثلاثين لغة، وطبع منها أكثر من سبعين مليون نسخة!. فعندما سأل بعض الصحافيين أحد المسؤولين في الفاتيكان عن كيفية تصديهم للفيلم الجديد، خاصة وأنه يتعرض أيضا لأحد الجوانب المظلمة للتاريخ الكنسي؟ أجاب بأن "الفاتيكان لن يكرر الغلطة السابقة بالمحاربة العلنية بكافة الوسائل، وإنما سيتصدى له بالصمت والتجاهل"!. وقد كان..
ودان براون له خمس روايات هي: القلعة الرقمية (1998)، ملائكة وشياطين (2000)، نقطة خداع (2001)، شفرة دافنشي (2003)، والرمز المفقود (2009) التي ستصدر في شهر سبتمبر القادم (2009). وثلاثة منها تكون ما هو معروف باسم "ثلاثية لانجدون" – ولانجدون هو الشخصية التي ابتدعها دان براون لأستاذ تاريخ الفن المتخصص في فك الرموز والشفرات خاصة الكنسية منها.. وتتكون هذه الثلاثية من "ملائكة وشياطين"، "شفرة دافنشي" و " الرمز المفقود".. وما يجمع بينها من خط رئيسي هو: المؤسسة الفاتيكانية وعلاقاتها التاريخية مع حدث بعينه. فنراها تارة في صراع مع منظمة "المتنورون" - نسبة إلى عصر التنوير الذي تألق أساسا لمحاربة عصور الظلمات التي فرضتها الكنيسة، أو أحداث حياة يسوع التي عانت الأمرين من التبديل والتعتيم، وزواجه من مريم المجدلية وإنجابه منها طفلة، أو معاركها الضارية مع منظمة "الماسونية".. أما الروايتان الأخريان فتدور الأولى حول الـ "ناسا" (وكالة الأمن القومي الأمريكي) والثانية حول خبايا السياسة الأميركية.
وأهم ما يميز أسلوب دان براون في الإعداد لرواياته هو: اعتماده أساسا على أحداث تاريخية ثابتة وعلى وثائق متداولة أو تم تداولها. وكل المعلومات التي يقدمها مبنية على الواقع، والشخصيات والحبكة هي التي تخضع لخياله، أي أنه خيال مبني على معطيات من الواقع. وعادة ما تكون الأحداث محصورة في حيز محدود من الزمن، وهو ما يجعل القارئ أو الأحداث تتسابق وتلهث في إيقاع محموم. ويطرح دان براون في خضم الأحداث "ملائكة وشياطين"، على سبيل المثال، أن الإذاعة البريطانية أعلنت في 14 يونيو 1998 أن البابا يوحنا بولس الأول، المتوفى عام 1978 كان ضحية مؤامرة من المحفل الماسوني المعروف باسم "P 2 " وأن الجمعية السرية أعلنت التخلص منه حينما علمت أن البابا ينوى تعيين الأسقف مارسينكوس في رئاسة بنك الفاتيكان – وكانت قضية حقيقية مدوية آنذاك جمعت ما بين المافيا وغسيل الأموال وغيره.. وأنه في 24 أغسطس 1998 تساءلت جريدة نيويورك تايمز عن سبب ارتداء نفس البابا -يوحنا بولس الأول- الزي النهاري حينما عثروا عليه مقتولا في المساء؟ ولماذا كان ممزقا من الخلف؟ إضافة إلى اختفاء أدويته ونظارته وشبشبه ووصيته! بينما تحدثت لندن ديلي ميل في 27 أغسطس 1998 عن مؤامرة تتورط فيها جمعية ماسونية امتدت مخالبها إلى عقر دار الفاتيكان..
وفي مجال آخر من نفس هذه الرواية، يوضح دان براون أن جورج بوش الأب كان من جمعية "المتنورون"، وأن جورج بوش الابن ماسوني ووصل إلى الرتبة الثالثة والثلاثين، أي إلى أعلى قممها، وأنه كان رئيسا للمخابرات المركزية (CIA) عندما تم إغلاق ملف "المتنورون" لعدم وجود أدلة!!
ولعل ما لفت نظر دان براون إلى المجال الكنسي هو أنه نشأ في مطلع حياته نشأة دينية، ودرس في مدارس الأحد الدينية المسيحية، وكان يمضي عطلات الصيف في المعسكرات المسيحية، كما كان يشترك بالغناء في فرقة الكورال التابعة للكنيسة – أي أنه عاش بعض المجالات الكنسية من الداخل وتعامل مع رجالها بصورة سمحت له على الأقل بسماع بعضا مما يدور في الكواليس..
ورغم أن رواية "ملائكة وشياطين" ترجع إلى عام 2000، فإنها لم تتحول إلى فيلم سينمائي إلا بعد النجاح الساحق لرواية "شفرة دافنشي".. وهي رواية بوليسية النزعة، تتوالى أحداثها في إيقاع محموم مع الزمن، أو هي في الواقع مجرد بضع ساعات. ومحورها الأساس هو منظمة "المتنورون" التي تتصدى للمؤسسة الكنسية وحربها التاريخية الممتدة مع العلم.. أو بعبارة أخرى: هي منظمة يرجع تكوينها إلى أربعة قرون مضت، انتقاما من قتل الكنيسة للعلماء، ولمحاربة عصور الظلمات التي فرضتها، ولا تزال، في حربها مع العلم والعلماء، وتحديدا - بالنسبة للرواية، منذ معركة جاليليو الذي تجرأ وأعلن عكس ما تقوله النصوص الإنجيلية أن الأرض مسطحة وأنها محور الكون!.. وقامت الكنيسة آنذاك بكي صدور أربعة من كبار العلماء الإيطاليين بعلامة الصليب، بالحديد المحمي، ثم مزقت جثثهم وألقت أشلاءها في شوارع روما حتى يرتدع باقي العلماء ويبتعدون عن مجال العلم.
وتتلخص القصة في أن العاملين في مركز الأبحاث الذرية في سويسرا، الذي يضم تقريبا نصف علماء العالم في الذرة والفيزياء، تمكنوا من صنع ما أطلقوا عليه "اللا مادة"، التي تتكون من ذرات ذات شحنات كهربائية معكوسة. وتعد أقوى مصدر للطاقة، فعلى اختلاف الطاقة الذرية التي تنتج بالانقسام وتظل فاعليتها محدودة بواحد ونصف بالمائة، فـ "اللا مادة" تتحول كامل كتلتها إلى طاقة ولا ينتج عنها أي إشعاع أو تلوث.. ومشكلة "اللا مادة" هي أنها غير مستقرة وتلغي نفسها بالتحول إلى طاقة صافية عند ملامسة كل ما هو موجود، حتى الهواء!. وجرام واحد من "اللا مادة" هذه ينجم عنه طاقة توازي قنبلة ذرية زنة عشرين كيلو/طن – وهي الطاقة التي ألقيت على هيروشيما.. وهنا يتساءل دان براون: "ترى هل ستقوم هذه المادة الشديدة الانفجار بإنقاذ العالم؟ أم أنها سوف تستخدم لخلق آلة كاسحة للتاريخ والوجود"؟!
وتبدأ الأحداث بمقتل مدير المعهد وسرقة كبسولة تحتوي على "اللا مادة".. وفي هذه الأثناء يتوفى بابا روما وتجرى الترتيبات اللازمة لانعقاد مجمع الكرادلة لاختيار البابا التالي، ويتم اكتشاف غياب أربعة من أهم الكرادلة المفترض أن يتم الاختيار بينهم.. كما يتلقى الفاتيكان إنذارا بأن الكرادلة سوف يقتلون واحدا كل ساعة بدأ من الثامنة مساء، وعند انتصاف الليل سيتم نسف الفاتيكان "بأكبر طاقة من النور".. لذلك يلجأ الفاتيكان إلى أستاذ التاريخ المتخصص في فك الشفرات والطلاسم الكنسية، وإلى ابنة مدير المعهد الذي تم قتله، وهى أيضا من العاملين به.. وهنا تلعب العناصر الأربعة: الماء والهواء والنار والتراب دور الطلاسم المرتبطة بالأحداث. ويتم قتل الكرادلة الأربعة في المواعيد المحددة بعد ك صدر كل واحد منهم بالحديد المحمي المصنوع على شكل اسم عنصر من هذه العناصر.
ويتم إنقاذ الفاتيكان من الانفجار بأن يأخذ نائب البابا أنبوبة "اللا مادة" ويصعد بها بالطائرة ليفجرها في الجو، بينما يقفز هو بالمظلة والطائرة تواصل ارتفاعها حتى تتفجر في الأعالي.. ويتم استقباله استقبال الفاتحين وهو سائر على قدميه!. ويقرر المجمع انتخابه البابا الجديد لكل ما أداه من خدمات.. لكن، من تتالي الأحداث في مجمع الكرادلة، نفهم أن نائب البابا هذا، الذي يدير شؤون الكنيسة عند خلو البابوية، هو فعلا ابن البابا المتوفى مسموما، وأن هذا الابن ثمرة قصة غرام جامح بين البابا في شبابه وإحدى الراهبات. ويؤكد الكاردينال الذي يحكي قصتهما أنهما استعانا بوسيلة التلقيح الصناعي لكي لا يحنثا عهدهما والإخلاص للتبتل! والابن لم يكن يعلم حتى هذه اللحظات أنه ابن البابا الذي سمه ليحل محمله، وتحالف مع أحد أعضاء منظمة "المتنورون" لتنفيذ جرائم الاغتيالات ليصل إلى البابوية رغم صغر سنه.. وعند انفضاح أمره ينتحر بحرق نفسه.. ويتم انتخاب البابا الجديد من أتباع منظمة "المتنورون"، بينما يعلنون كذبة جديدة على الجماهير بوفاة نائب البابا "متأثرا بجراحه" إثر سقوطه بالمظلة!!
ومثل كل الروايات التي يتم تحويلها إلى أفلام تسقط بعض المعطيات بسبب الوقت والتركيز، لكن من أهم ما تناوله دان براون في روايته هذه: قضية صراع الكنيسة مع العلم، ذلك الصراع الذي بدأ منذ نشأتها وإبادتها لكل ما يثبت هذه النشأة وتحايلاتها.. فالسماح بانطلاق جموح العلم والعلماء كان سيؤدي إلى هدم الكيان الكنسي، وهدم زعمه "بأنه وحده يمتلك الحقيقة والوساطة بين الله والبشر" كما يوضح الكاتب!
ولا يسع المجال هنا لتناول كل ما تعرض له المؤلف في سياق الحوارات المتعددة، لكن عبارة من قبيل: "هؤلاء المجاذيب! ينتظرون مجيء المسيح منذ ألفي عام وما زالوا يؤمنون بمجيئه أكثر من ذي قبل"، على لسان لانجدون، تكشف عن رأيه بوضوح.. أو قوله: "إن مجمع الكرادلة ينعقد في جو درامي مثقل بالأغراض السياسية غير المعلنة".. و "أن ذلك الكيان الديني كثيرا ما يلجأ إلى التسميم وتصفية الحسابات بالضرب والقتل – وما أكثر ما دنسوا المذبح على مر التاريخ".. أو أنه "لمدة ألفي عام صادرت الكنيسة البحث عن الحقيقة وداست على أي معارضة باللجوء إلى الكذب والاختلاق المغلف بالنبوءات، وتلاعبت بالحقيقة لصالحها ولم تتردد في اقتلاع كل من يقف عثرة في سياساتها".. تكشف حقائق وتوضح لماذا حاربت المؤسسة الكنسية هذا الفيلم بالصمت.
وحول ثروة الفاتيكان يشير الكاتب: "أنها تفوق الخمسين مليار يورو.. وأن العام الماضي (أي سنة 2000 عند كتابة الرواية) أنفق الفاتيكان أكثر من 183 مليون دولارا لمساندة أبرشياته عبر العالم للتبشير، ورغمها: لم يتباعد الأتباع عن الكنيسة في التاريخ قدر ابتعادهم عنها حاليا".. كما تناول كيف "أن كثير من الرموز المسيحية مأخوذة من الديانة المصرية القديمة، وعبادة الشمس".. وحتى فرية عيد ميلاد يسوع لم يغفلها قائلا: "وفقا للأناجيل، من المفترض أن يسوع مولود في شهر مارس، لكن الكنيسة تحتفل به في 25 ديسمبر لأنه في التاريخ الوثني يمثل عيد "الشمس التي لا تقهر" الذي هو Sol Invectus.. والمعروف أن بعض العلماء واجهوا البابا السابق، يوحنا بولس الثاني، بهذه الحقيقة وأقرها بكل هدوء وكأن لم يحدث أي شيء! ويفسر دان براون ذلك موضحا "أن الديانات المنتصرة عادة ما تستولي على أعياد الديانات التي سبقتها لتسهيل عملية تحول الشعوب إلى الديانة الجديدة، وهو ما تم مع المسيحية منذ اعتبارها ديانة رسمية في الإمبراطورية الرومانية في القرن الرابع".. بل حتى الإفخارستيا، وهي فكرة أكل لحم يسوع وشرب دمه ممثلة في قرص المناولة، يشير الكاتب إلى "أن أكل لحم الإله وشر دمه مأخوذة من شعوب الآزتك وأصبحت الإفخارستيا، وكذلك فكرة موت يسوع تكفيرا عن خطايا الأتباع"..
ومن المعطيات التي تم استبعادها من الفيلم الخلفية الخاصة بالقاتل، الذي تولى قتل العالم في معهد الأبحاث، ثم قام باغتيال الكرادلة الأربعة، وكان عليه أن ينسف الفاتيكان بأنبوبة "اللا مادة" التي سرقها. ففي الفيلم لا نعلم عنه إلا أنه من أعضاء منظمة "المتنورون". أما في الرواية فنعلم أنه إنسان عربي، انضم للمنظمة لعلمه أنها ضد المؤسسة الكنسية ولينتقم لكل المسلمين الذين تم قتلهم أو حرقهم أحياء في الحروب الصليبية وما بعدها.. فكم من مرة يضع الكاتب على لسانه كلمات عربية مكتوبة بالحروف اللاتينية.. وهو ما يطرح تساؤلا حول موقف دان براون من الإسلام والمسلمين، فما من جزء يتم استبعاده من الرواية عند تحويلها إلى فيلم إلا بموافقة الكاتب..
ترى هل أدرك دان براون من سنة 2000، عند كتابته الرواية، إلى سنة 2009، عند إخراج الفيلم، أن الحرب على الإسلام والمسلمين مفتعلة وقائمة على تل من الأكاذيب وعلى توافق شديد بين السياسة الأميركية والفاتيكانية، وعلى تضافر جهودهما لاقتلاع الإسلام والمسلمين، خاصة منذ مجمع الفاتيكان الثاني (1965) الذي قررها وأعلنها صراحة، أم حرصا منه على تسويق الفيلم في العالم الإسلامي والعربي وعدم إثارة غضب شعوبها؟!
17/8/2009lghz;m ,adh'dk>>>
المفضلات