أخرج البخاري في صحيحه: عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي ذر حين غربت الشمس: ((أتدري أين تذهب؟)) قلت: الله ورسوله أعلم! قال: ((فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن، فيؤذن لها، ويوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، يقال لها ارجعي من حيث جئت، فتطلع من مغربها، فذلك قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}))(1)
فمنذ متى كانت الشمس عند غروبها تسرع عائدة إلى المكان الذي تشرق منه؟
والرد: أن هناك حقيقة عامة قررها الله في كتابه، وهي أن كل مخلوق من مخلوقاته يسبح الله تعالى، ويخضع له بما يتناسب مع حاله..
فمن معاني السجود في اللغة: الخضوع، كما ذكره ابن منظور وغيره.
وعليه يُحمل ما في هذا الحديث، وهو المقصود في قوله تعالى في آية الحج: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاء} [الحج: 18].
قال ابن كثير رحمه الله: (يُخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعًا وكرهًا، وسجود كل شيء مما يختص به) ا.هـ.
والأمر بالنسبة للكون ليس متعلقًا فقط بالسجود، بل هناك التسبيح والصلاة: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ} [النور: 41].
أولا: عناصر تفسير السجود الكوني
- سجود العناصر الكونية كلها: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوُابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [الحج: 18].
- سجود آثار العناصر الكونية: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها وظلالهم بالغدو والآصال} [الرعد: 15]
- سجود مادة العناصر الكونية: وفيها يبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الأشياء تسجد لله بصفتها المادية وذلك كما في قوله: ((إن اليدين تسجدان كما يسجد الوجه، فإذا وضع أحدكم وجهه فليضع يديه، وإذا رفع فليرفعهما)).
وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يسجد على سبع ونهى أن يكفت الشعر والثياب على يديه وركبتيه وأطراف أصابعه.. قال سفيان قال لنا ابن طاوس: ووضع يديه على جبهته وأمرَّها على أنفه؛ قال: هذا واحد واللفظ لمحمد دعه يسجد(2)
- سجود حركة العناصر الكونية: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون} والشمس داخلة في دواب السماء؛ لأن معنى الدبيب السير والحركة، والشمس متحركة تجري لمستقر لها كما هو معلوم بنص القرآن وكما هو ثابت بالعقل.
- سجود الزمن الكوني {لمستقر لها} لأن الآية تعني الحركة والزمان.
- السجود المرحلي الكوني {والنجم والشجر يسجدان} [الرحمن: 6] لأن تفسير الآية أن النجم هو الشجر الصغير، فالشجر في كل مراحله يسجد..
هذا هو المعنى العام للسجود الكوني يتبعه تفسير اختصاص الشمس بالسجود.
ثانيا: اختصاص الشمس بالسجود تحت العرش
وهذا الاختصاص هو الارتباط بين غروب الشمس بالنسبة للأرض وبين غروب الشمس بالنسبة للعرش.
ويفسر هذا الاختصاص هو أن الشمس هي أساسٌ:
(أ) لاجتماع كل العناصر السابقة للسجود الكوني في الشمس باعتبارها أكبر العناصر الكونية بالنسبة للوجود الإنساني علي الأرض؛ ولذلك ضرب إبراهيم بها المثل في تفهيم الناس التوحيد {فَلَمَّا رَأى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78].
(ب) لإثبات السجود لمن يعبد من دون الله، وأول ما ينطبق ذلك ينطبق على الشمس {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37].
{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا} {النساء: 172].
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا} [الاسراء: 57].
(جـ) الموقع الكوني للأرض بالنسبة للعرش.. ((البيت المعمور في السماء السابعة يدخله كل يوم ألف ملك ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة)) (3) وفي رواية: ((السماء الدنيا)) وفي رواية أخرى بزيادة ((بحيال الكعبة)) وعن قتادة قال: ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: ((هل تدرون ما البيت المعمور؟)) قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ((فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة لو خرَّ.. لخرَّ عليها...)).
ومن هنا تثبت المحورية الكونية للعلاقة بين العرش والأرض، بحيث يكون غروب الشمس هو سجود تحت العرش.
ولكننا نؤمن بذلك كحقيقة غيبية لا كتخيل فلكي، وهناك فارق بين الاعتقاد الغيبي والتخيل الفلكي، والخلط بين الأمرين هو الذي أنشأ الصدام بين علماء الطبيعة والكنيسة؛ حيث دافعت الكنيسة عن مركزية الأرض لا كتصور اعتقادي؛ ولكن كتفسير فلكي..
ولكننا نؤمن بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كحقيقة اعتقادية غيبية.. لا كتفسير فلكي..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1][1]) البخاري (3027، 4542).
([1][2]) البخاري (776، 777، 779، 782)، ومسلم (490) بنحوه.
([1][3]) البخاري (3035، 3674)، ومسلم (162، 164).
الشيخ :- رفاعى سرور
كتاب : المسيح أبن مريم - تصور سلفى -
afim s[,] hgals jpj hguva
المفضلات