صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 17
 
  1. #1
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان: شخصيّته وعَصْره




    سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان: شخصيّته

    الفصل الأول ذو النورين عثمان بن عفان بين مكة والمدينة

    المبحث الأول اسمه ونسبه وكنيته وألقابه وصفته وأسرته ومكانته في الجاهلية

    أولاً: اسمه ونسبه وكنيته وألقابه:

    1- هو عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي بن كلاب ([1]), ويلتقي نسبه بنسب رسول الله صلى الله عليه وسلم في عبد مناف. وأمه أروى بنت كريز بن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي.([2]) وأمها أم حكيم البيضاء بنت عبد المطلب، وهي شقيقة عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، ويقال: إنهما ولدا توأما (حكاه الزبير بن بكار)، فكان ابن بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ابن خال والدته. وقد أسلمت أم عثمان وماتت في خلافة ابنها عثمان, وكان ممن حملها إلى قبرها([3])، وأما أبوه فهلك في الجاهلية.

    2- كنيته:
    كان يكنى في الجاهلية أبا عمرو، فلما ولد له من رقية بنت رسول الله غلام سماه عبد الله، واكتنى به، فكناه المسلمون أبا عبد الله([4]).

    3- لقبه:
    كان عثمان t يلقب بذي النورين، وقد ذكر بدر الدين العيني([5]) في شرحه على صحيح البخاري، أنه قيل للمهلب بن أبي صفرة([6]): لم قيل لعثمان ذو النورين؟ فقال: لأنا لا نعلم أحدا أرسل سترا على بنتي نبي غيره.([7]) وقال عبد الله بن عمر بن أبان الجعفي: قال لي خالي حسين الجعفي: يا بني، أتدري لِمَ سمي عثمان ذا النورين؟ قلت: لا أدري، قال: لم يجمع بين ابنتي نبي منذ خلق الله آدم إلى أن تقوم الساعة غير عثمان، فلذلك سمي ذا النورين.([8]) وقيل: سمي بذي النورين لأنه كان يكثر من تلاوة القرآن في كل ليلة في صلاته، فالقرآن نور وقيام الليل نور([9]).

    4- ولادته:
    ولد في مكة بعد عام الفيل بست سنين على الصحيح ([10])، وقيل: ولد في الطائف، فهو أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بنحو خمس سنين([11]).

    5- صفته الْخَلْقيَّة:
    كان رجلا ليس بالقصير ولا بالطويل، رقيق البشرة، كث اللحية عظيمها، عظيم الكراديس([12])، عظيم ما بين المنكبين، كثير شعر الرأس، يصفِّر لحيته. وقال الزهري: كان عثمان رجلا مربوعا، حسن الشعر، حسن الوجه، أصلع، أروح الرجلين([13]), وأقنى([14]), خدل الساقين([15]), طويل الذراعين، قد كسا ذراعيه جعد الشعر، أحسن الناس ثغرا، جُمَّته([16]) أسفل من أذنيه، حسن الوجه، والراجح أنه أبيض اللون، وقد قيل:
    أسمر اللون([17]).

    ثانيًا: أسرته:


    تزوج عثمان
    t ثماني زوجات كلهن بعد الإسلام وهن: رقية بنت رسول الله وقد أنجبت له عبد الله بن عثمان، ثم تزوج أم كلثوم بنت رسول الله بعد وفاة رقية، وتزوج فاختة بنت غزوان، وهي أخت الأمير عتبة بن غزوان، وأنجبت لعثمان عبد الله الأصغر، وأم عمرو بنت جندب الأزدية، وقد أنجبت لعثمان عمرا وخالدا وأبان وعمر ومريم، وتزوج فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية، وأنجبت لعثمان: الوليد وسعيدا وأم سعد، وتزوج أم البنين بنت عيينة بن حصن الفزارية، وأنجبت لعثمان: عبد الله، وتزوج رملة بنت شيبة بن ربيعة الأموية، وأنجبت لعثمان: عائشة وأم أبان وأم عمرو، وقد أسلمت رملة، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتزوج نائلة بنت الفرافصة الكلبية، وكانت على النصرانية وقد أسلمت قبل أن يدخل بها وحسن إسلامها.([18])

    وأما أبناؤه فقد كانوا تسعة أبناء من الذكور من خمس زوجات وهم: عبد الله وأمه رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد قبل الهجرة بعامين، وأخذته أمه معها عندما هاجرت مع زوجها عثمان إلى المدينة. وفي أوائل أيام الحياة في المدينة نقره الديك في وجهه قرب عينه، وأخذ مكان نقر الديك يتسع حتى طمر وجهه حتى مات في السنة الرابعة للهجرة، وكان عمره ست سنوات.([19]) وعبد الله الأصغر, وأمه فاختة بنت غزوان، وعمرو, وأمه أم عمرو بنت جندب وقد روى عن أبيه، وعن أسامة بن زيد, وروى عنه علي بن الحسين، وسعيد بن المسيب، وأبو الزنَّاد، وهو قليل الحديث، وتزوج رملة بنت معاوية بن أبي سفيان، توفي سنة ثمانين للهجرة. وخالد, وأمه أم عمرو بنت جندب. وأبان، وأمه أم عمرو بنت جندب، كان إمامًا في الفقه، يكنى أبا سعيد، تولى إمرة المدينة سبع سنين في عهد عبد الملك بن مروان، سمع أباه وزيد بن ثابت، له أحاديث قليلة، منها ما رواه عن عثمان: «من قال في أول يومه وليلته: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم لم يضره ذلك اليوم شيء أو تلك الليلة». فلما أصاب أبان الفالج قال: إني والله نسيت هذا الدعاء ليمضي في أمر الله.([20]) ويعتبر من فقهاء المدينة في زمنه، وقد توفى سنة خمس ومائة.([21])

    وعمر، وأمه أم عمرو بنت جندب. والوليد، وأمه فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس بن المغيرة المخزومية. وسعيد، وأمه فاطمة بنت الوليد المخزومية، تولى أمر خراسان عام ستة وخمسين أيام معاوية بن أبي سفيان. وعبد الملك، وأمه أم البنين بنت عيينة بن حصن، ومات صغيرا، ويقال: ولدت نائلة بنت الفرافصة ولدا لعثمان سمى عنبسة.([22])

    وأما بناته، فهن سبع من خمس نساء، منهن: مريم وأمها أم عمرو بنت جندب. وأم سعيد، وأمها فاطمة بنت الوليد بن عبد شمس المخزومية. وعائشة، وأمها رملة بنت شيبة بن ربيعة. ومريم بنت عثمان، وأمها نائلة بنت الفرافصة. وأم البنين، وأمها أم([23]) ولد.

    وأما شقيقة عثمان، فهي آمنة بنت عفان، فقد عملت ماشطة في الجاهلية، ثم تزوجت الحكم بن كيسان مولى هشام بن المغيرة المخزومي، وأسرت سرية عبد الله بن جحش الحكم بن كيسان، وفي المدينة أسلم وحسن إسلامه، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قتل يوم بئر معونة شهيدا في بداية السنة الرابعة للهجرة، وبقيت آمنة بنت عفان في مكة على شركها حتى يوم الفتح؛ حيث أسلمت مع أمها وبقية أخواتها، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هند بنت عتبة امرأة أبي سفيان على أن لا يشركن بالله شيئا، ولا يسرقن ولا يزنين.([24])

    وأما إخوة عثمان من أمه فله ثلاثة إخوة وهم: الوليد بن عقبة بن أبي معيط، قتل أبوه يوم بدر صبرا وهو كافر، وخرج الوليد مع أخيه عمارة بعد الحديبية لرد أختهما أم كلثوم التي أسلمت وهاجرت، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم ردها، أسلم يوم الفتح. ومن إخوة عثمان لأمه عمارة بن عقبة، تأخر إسلامه، وخالد بن عقبة. وأما أخواته من أمه فهن: أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، أسلمت بمكة، وهاجرت وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي أول من هاجر من النساء بعد أن عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بعد صلح الحديبية. ومن أخوات عثمان لأمه: أم حكيم بنت عقبة، وهند بنت عقبة([25]).

    ثالثـًا: مكانته في الجاهلية:

    كان
    t في أيام الجاهلية من أفضل الناس في قومه؛ فهو عريض الجاه ثري، شديد الحياء، عذب الكلمات، فكان قومه يحبونه أشد الحب ويوقرونه. لم يسجد في الجاهلية لصنم قط ولم يقترف فاحشة قط، فلم يشرب خمرا قبل الإسلام وكان يقول: إنها تُذْهب العقل والعقل أسمى ما منحه الله للإنسان، وعلى الإنسان أن يسمو به، لا أن يصارعه. وفي الجاهلية كذلك لم تجذبه أغاني الشباب ولا حلقات اللهو، ثم إن عثمان كان يتعفف عن أن يرى عورة([26]). ويرحم الله عثمان t فقد يسر لنا سبيل التعرف عليه؛ حيث قال: ما تغنيت، ولا تمنيت، و لا مسست ذكري بيمني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شربت خمرًا في جاهلية ولا إسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في إسلام.([27]) وكان t على علم بمعارف العرب في الجاهلية ومنها الأنساب والأمثال وأخبار الأيام، وساح في الأرض فرحل إلى الشام والحبشة، وعاشر أقواما غير العرب فعرف من أحوالهم وأطوارهم ما ليس يعرفه غيره.([28]) واهتم بتجارته التي ورثها عن والده، ونمت ثرواته, وأصبح يعد من رجالات بني أمية الذين لهم مكانة في قريش كلها، فقد كان المجتمع المكي الجاهلي الذي عاش فيه عثمان يقدر الرجال حسب أموالهم، ويهاب فيه الرجال حسب أولادهم وإخوتهم ثم عشيرتهم وقومهم، فنال عثمان مكانة مرموقة في قومه، ومحبة كبيرة.
    ومن أطرف ما يروى عن حب الناس لعثمان لما تَجَمَّع فيه من صفات الخير أن المرأة العربية في عصره كانت تغني لطفلها أغنية تحمل تقدير الناس له وثناءهم عليه، فقد كانت تقول:
    أحبك والرحمن
    حبَّ قريش لعثمان([29])

    رابعًا: إسلامه:

    كان عثمان قد ناهز الرابعة والثلاثين من عمره حين دعاه أبو بكر الصديق إلى الإسلام، ولم يعرف عنه تكلؤ أو تلعثم بل كان سباقا أجاب على الفور دعوة الصديق، فكان بذلك من السابقين الأولين حتى قال أبو إسحاق: كان أول الناس إسلاما بعد أبى بكر وعلي وزيد بن حارثة عثمان.([30]) فكان بذلك رابع من أسلم من الرجال، ولعل سبقه هذا إلى الإسلام كان نتيجة لما حدث له عند عودته من الشام، وقد قصه
    t على رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دخل عليه هو وطلحة بن عبيد الله، فعرض عليهما الإسلام وقرأ عليهما القرآن، وأنبأهما بحقوق الإسلام ووعدهما الكرامة من الله فآمنا وصدقا، فقال عثمان: يا رسول الله، قدمت حديثا من الشام، فلما كنا بين معان والزرقاء فنحن كالنيام فإذا منادٍ ينادينا: أيها النيام هبوا، فإن أحمد قد خرج بمكة، فقدمنا فسمعنا بك.([31])
    لا شك أن هذه الحادثة تترك في نفس صاحبها أثرًا إيجابيًا لا يستطيع أن يتخلى عنه، عندما يرى الحقيقة ماثلة بين عينيه، فمن ذا الذي يسمع بخروج النبي قبل أن يصل إلى البلد الذي يعيش فيه، حتى إذا نزله ووجد الأحداث والحقائق تنطق كلها بصدق ما سمع به ثم يتردد في إجابة الدعوة؟ لا يستطيع الإنسان مهما كان مكابرا إلا أن يذعن للحق، ومهما أظهر الجفاء فإن ضميره لا يزال يتلجلج في صدره حتى يؤمن به أو يموت، فيتخلص من وخز الضمير وتأنيبه, ولم تكن سرعة تلبيته عن طيش أو حمق، ولكنها كانت عن يقين راسخ وتصديق لا يتطرق إليه شك.([32]) فقد تأمل في هذه الدعوة الجديدة بهدوء كعادته في معالجة الأمور، فوجد أنها دعوة إلى الفضيلة، ونبذ الرذيلة، دعوة إلى التوحيد وتحذير من الشرك، دعوة إلى العبادة وترهيب من الغفلة، ودعوة إلى الأخلاق الفاضلة، وترهيب من الأخلاق السيئة، ثم نظر إلى قومه، فإذا هم يعبدون الأوثان، ويأكلون الميتة، ويسيئون الجوار، ويستحلون المحارم من سفك الدماء وغيرها.([33]) وإذا بالنبي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم صادق أمين يعرف عنه كل خير, ولا يعرف عنه شر قط، فلم تعهد عليه كذبة ولم تحسب عليه خيانة، فإذا هو يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى صلة الرحم، وحسن الجوار، والصلاة والصوم, وألا يعبد غير الله([34]), فأسلموا على يد أبي بكر الصديق، ومضى في إيمانه قُدُمًا قويا هاديا، وديعا صابرا, عظيما راضيا، عفوا كريما، محسنا رحيما، سخيًّا باذلا، يواسي المؤمنين، ويعين المستضعفين، حتى اشتدت قناة الإسلام.([35])
    وفي إسلام عثمان قالت خالته سعدى بنت كريز:
    هدى الله عثمانا بقولي إلى الهدى
    وأرشده والله يهدي إلى الحق
    فتابع بالرأي السديد محمدا
    وكان برأي لا يصد عن الصدق
    وأنكحه المبعوث بالحق بنته
    فكان كبَدْر مَازَجَ الشمس في الأفق
    فداؤك يا ابن الهاشميين مهجتي
    وأنت أمين الله أرسلت للخلق([36])

    خامسًا: زواجه من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    فرح المسلمون بإسلام عثمان فرحًا شديدًا، وتوثقت بينه وبينهم عرى المحبة وأخوة الإيمان، وأكرمه الله تعالى بالزواج من بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم رقية، وقصة ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد زوجها من عتبة بن أبي لهب، وزوج أختها أم كلثوم عتيبة بن أبي لهب، فلما نزلت سورة المسد "تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ
    ` مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ ` سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ ` وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ ` فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ" [المسد: 1- 5]. قال لهما أبو لهب وأمهما أم جميل بنت حرب بن أمية "حَمَّالَةَ الْحَطَبِ" فارقا ابنتي محمد، ففارقاهما قبل أن يدخلا بهما كرامة من الله تعالى لهما، وهوانًا لابني أبي لهب([37]), وما كاد عثمان بن عفان t يسمع بخبر طلاق رقية حتى استطار([38]) فرحا، وبادر فخطبها من رسول الله صلى الله عليه وسلم فزوجها الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم منه، وزفتها([39]) أم المؤمنين خديجة بنت خويلد، وقد كان عثمان من أبهى قريش طلعة، وكانت هي تضاهيه قسامة وصباحة، فكان يقال لها حين زفت إليه:
    أحسن زوجين رآهما إنسان
    رقية، وزوجها عثمان([40])

    وعن عبد الرحمن بن عثمان القرشي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ابنته وهي تغسل رأس عثمان، فقال: «يا بنية أحسني إلى أبي عبد الله، فإنه أشبه أصحابي بي خُلُقًا». ([41])
    ظنت أم جميل بنت حرب وزوجها أبو لهب أنهما بتسريح رقية وأم كلثوم -رضي الله عنهما- سيصيبان من البيت المحمدي مقتلا أو سيوهنانه، ولكن الله -عز وجل- اختار لرقية وأم كلثوم الخير، وباءت أم جميل وأبو لهب بغيظهما لم ينالا خيرا, وكفى الله البيت النبوي شرهما، وكان أمر الله قدرا مقدورا([42]).
    سادسًا: ابتلاؤه وهجرته إلى الحبشة:
    إن سنة الابتلاء ماضية في الأفراد والجماعات والشعوب والأمم والدول، وقد مضت هذه السنة في الصحابة الكرام، وتحملوا من البلاء ما تنوء به الرواسي الشامخات، وبذلوا أموالهم ودماءهم في سبيل الله، وبلغ بهم الجهد ما شاء الله أن يبلغ، ولم يسلم أشراف المسلمين من هذا الابتلاء، فقد أوذي عثمان وعُذب في سبيل الله تعالى على يد عمه الحكم ابن أبي العاص بن أمية الذي أخذه فأوثقه رباطا وقال: أترغب عن ملة آبائك إلى دين محدث؟ والله لا أحلُّك أبدا حتى تدع ما أنت عليه من هذا الدين، فقال عثمان t: والله لا أدعه أبدا ولا أفارقه، فلما رأى الحكم صلابته في دينه تركه.([43])

    واشتد الإيذاء بالمسلمين جميعا، و تجاوز الحد حيث قتل ياسر وزوجته سمية، والنبي صلى الله عليه وسلم يتألم أشد الألم، إلى أين يذهب المسلمون؟ ثم اهتدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحبشة حيث قال للمسلمين: «لو خرجتم إلى الحبشة، فإن بها ملكا صالحا لا يُظْلم عنده أحد». ([44]) وبدأت الهجرة والنبي صلى الله عليه وسلم يتألم، وهو يرى الفئة المؤمنة تتسلل سرًّا([45]) خارجة من مكة، ويركبون البحر، وخرج يمتطي بعضهم الدواب، والبعض الآخر يسير على الأقدام، وتابعوا السير حتى وصلوا ساحل البحر الأحمر، ثم أمَّروا عليهم عثمان بن مظعون، وشاءت عناية الله أن يجدوا سفينتين، فركبوا مقابل نصف دينار لكل منهم، وعلمت قريش فأسرعت في تعقبهم إلى الساحل ولكنهم كانوا قد أبحرت بهم السفينتان.([46]) وكان ممن هاجر إلى أرض الحبشة الهجرة الأولى والهجرة الثانية عثمان بن عفان ومعه فيهما امرأته رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان وصولهم للحبشة في شهر رجب من السنة الخامسة من البعثة، فوجدوا الأمن والأمان وحرية العبادة، وقد تحدث القرآن الكريم عن هجرة المسلمين الأوائل إلى أرض الحبشة، سيرَة عُثمَان بْنُ عَفان: شخصيّته: "وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ" [النحل:41]. وقد نقل القرطبي -رحمه الله- قول قتادة رحمه الله: المراد أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، ظلمهم المشركون بمكة وأخرجوهم حتى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوأهم الله تعالى دار الهجرة، وجعل لهم أنصارا من المؤمنين.([47]) وسيرَة عُثمَان بْنُ عَفان: شخصيّته: "قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" [الزمر: 10]. قال ابن عباس -رضي الله عنهما-: يريد جعفر بن أبي طالب والذين خرجوا معه إلى الحبشة.([48]) وقد استفاد عثمان t من هذه الهجرة وأضاف خبرة ودروسا لنفسه استفاد منها في مسيرته الميمونة، ومن أهم هذه الدروس والعبر:

    1- أن ثبات المؤمنين على عقيدتهم بعد أن ينزل بهم الأشرار والضالون أنواع العذاب والاضطهاد، دليل على صدق إيمانهم وإخلاصهم في معتقداتهم، وسمو نفوسهم وأرواحهم، بحيث يرون ما هم عليه من راحة الضمير واطمئنان النفس والعقل، وما يأملونه من رضا الله -جل شأنه- أعظم بكثير مما ينال أجسادهم من تعذيب وحرمان واضطهاد؛ لأن السيطرة في المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين تكون دائما وأبدا لأرواحهم لا لأجسادهم، وهم يسرعون إلى تلبية مطلب أرواحهم من حيث لا يبالون بما تتطلبه أجسامهم من راحة وشبع ولذة، وبهذا تنتصر الدعوات وبهذا تتحرر الجماهير من الظلمات والجهالات([49]).

    2- وقد تعلم عثمان t من هدي النبي صلى الله عليه وسلم الشفقة على الأمة، وظهرت هذه الشفقة لما تولى الخلافة وقبلها لَمَّا كان في المجتمع المدني في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهم، فقد رأى بعينه وبصيرة قلبه شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أصحابه، ورحمته بهم، وحرصه الشديد للبحث عن أمنهم وراحتهم، ولذلك أشار عليهم بالذهاب إلى الملك العادل الذي لا يظلم عنده أحد، فكان الأمر كما قال صلى الله عليه وسلم فأمنوا في دينهم ونزلوا عنده في خير منزل.([50]) فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي وجه الأنظار إلى الحبشة، وهو الذي اختار المكان الآمن لجماعته ودعوته كي يحميها من الإبادة، وهذه تربية نبوية لقيادات المسلمين في كل عصر أن تخطط بحكمة وبعد نظر لحماية الدعوة والدعاة، وتبحث عن الأرض الآمنة التي تكون عاصمة احتياطية للدعوة، ومركزا من مراكز انطلاقها فيما لو تعرض المركز الرئيسي للخطر، أو وقع احتمال اجتياحه، فجنود الدعوة هم الثروة الحقيقية، وهم الذين تنصب الجهود كلها لحفظهم وحمايتهم، دون أن يتم أي تفريط بأرواحهم وأمنهم، ومسلم واحد يعادل ما على الأرض من بشر خارجين عن دين الله وتوحيده([51]).

    3- وتعلم عثمان t من هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هجرة الحبشة أن الأخطار لا بد أن يتجشمها المقربون إلى القائد وأهله ورَحِمه، أما أن يكون خواص القائد في منأى عن الخطر، ويدفع إليه الأبعدون غير ذوي المكانة، فهو منهج بعيد عن نهج النبي صلى الله عليه وسلم.([52]) ولهذا لما تولى ذو النورين الخلافة كان أقرباؤه في مقدمة الجيوش، فهذا عبد الله بن أبي سرح في فتوحات أفريقية، وذاك عبد الله بن عامر في فتوحات المشرق، وألزم معاوية أن يركب البحر ومعه زوجته وأن يكون في مقدمة الجيوش الغازية، وسيأتي تفصيل ذلك -بإذن الله- عند حديثنا عن الفتوحات.

    4- كان عثمان t أول من هاجر إلى الحبشة بأهله من هذه الأمة([53]), قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صحبهما الله، إن عثمان لأول من هاجر إلى الله بأهله بعد لوط» ([54]).

    ولما أشيع أن أهل مكة قد أسلموا، وبلغ ذلك مهاجري الحبشة أقبلوا، حتى إذا دنوا من مكة بلغهم أن ما كانوا تحدثوا به من إسلام أهل مكة كان باطلا، فدخلوا في جوار بعض أهل مكة، وكان فيمن رجع عثمان بن عفان وزوجه رقية رضي الله عنهما.([55]) واستقر المقام به حتى أذن الله بالهجرة إلى المدينة، ومنذ اليوم الذي أسلم فيه عثمان لزم النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان، ولم يفارقه إلا للهجرة بإذنه، أو في مهمة من المهام التي يندب لها ولا يغني أحد فيها غناءه، شأنه في هذه الملازمة شأن الخلفاء الراشدين جميعا، كأنما هي خاصة من خواصهم رشحهم لها من رشحهم بعد ذلك للخلافة متعاقبين.([56]) لقد كان ذو النورين على صلة وثيقة بالدعوة الكبرى منذ سنتها الأولى، فلم يفته شيء من أخبار النبوة الخاصة والعامة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفته شيء بعدها من أخبار الخلافة في حياة الشيخين، ولم يفته بعبارة أخرى شيء مما نسميه اليوم بأعمال التأسيس في الدولة الإسلامية([57]).




    ([1]) الطبقات لابن سعد (3/53)، الإصابة (4/377) رقم (5463).

    ([2]) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، محمد يحيى الأندلسي، ص19.

    ([3]) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، د. يحيى اليحيى، ص388.

    ([4]) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19.

    ([5]) هو محمود بن أحمد بن موسى العيني، أبو محمد: من علماء التاريخ والحديث والفقه، له تآليف كثيرة، توفي 855هـ ، انظر: شذرات الذهب (7/286)، والضوء اللامع (10/131).

    ([6]) هو المهلب بن أبي صفرة الأزدي العقلي: من الأمراء الأبطال، غزا المهلب الهند في خلافة معاوية، وولي الجزيرة لابن الزبير، وحارب الخوارج في عهد عبد الملك بن مروان، ثم ولي خراسان من قبله سنة 79هـ، وترجع شهرته إلى حرب الخوارج، توفي 83هـ، انظر: وفيات الأعيان (5/350)، سير أعلام النبلاء (4/383).

    ([7]) عمدة القاري، شرح صحيح البخاري (16/201).

    ([8]) سنن البيهقي (7/73)، قال الدكتور عاطف لماضة: خبر حسن.

    ([9]) عثمان بن عفان ذو النورين، عباس العقاد، ص79.

    ([10]) الإصابة (4/377)، رقم (5465).

    ([11]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص45.

    ([12]) الكراديس: جمع كردوس، وهو كل عظمين التقيا في مفصل.

    ([13]) تاريخ الطبري (5/440) أروح الرجلين: منفرج ما بينهما.

    ([14]) أقنى: طويل الأنف مع دقة أرنبته، وحدب في وسطه.

    ([15]) خدل الساقين: أي ضخم الساقين.

    ([16]) جمته: مجتمع شعر الرأس.

    ([17]) صفة الصفوة (1/295)، صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص15.

    ([18]) تاريخ الطبري (5/441) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19، الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص364.

    ([19]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص365، التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص19.

    ([20]) سنن الترمذي، كتاب الدعوات رقم (3385)، حديث صحيح.

    ([21]) سير أعلام النبلاء (4/253), تاريخ القضاعي، ص308.

    ([22]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص369.

    ([23]) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص20.

    ([24]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص346.

    ([25]) المصدر السابق، ص354.

    ([26]) موسوعة التاريخ الإسلامي، أحمد شلبي، (1/618).

    ([27]) حلية الأولياء (1/60، 61) الخبر صحيح.

    ([28]) عبقرية عثمان للعقاد، ص72.

    ([29]) موسوعة التاريخ الإسلامي، (1/618).

    ([30]) السيرة النبوية لابن هشام، (1/287- 289).

    ([31]) الطبقات لابن سعد، (3/55).

    ([32]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص302.

    ([33]) انظر: مرويات العهد المكي، عادل عبد الغفور، (2/805).

    ([34]) فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان (1/37).

    ([35]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص53.

    ([36]) البداية والنهاية (7/210).

    ([37]) ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد رضا، ص12.

    ([38]) كاد يطير من شدة الفرح. (4) زفتها: قدمتها إلى زوجها.



    ([40]) أنساب الأشراف، ص89.

    ([41]) رواه الطبراني ورجاله ثقات، قاله الهيثمي، المجمع رقم: (14500).

    ([42]) دماء على قميص عثمان، د. إبراهيم المنتاوي، ص84.

    ([43]) التمهيد والبيان في مقتل الشهيد عثمان، ص22.

    ([44]) الهجرة في القرآن الكريم، ص290، السيرة النبوية لابن هشام، (1/413).

    ([45]) دماء على قميص عثمان، ص15، الطبقات (1/204).

    ([46]) الطبقات (1/204)، تاريخ الطبري (2/69).

    ([47]) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (10/107).

    ([48]) المصدر نفسه (15/240).

    ([49]) السيرة النبوية للدكتور مصطفى السباعي، ص57.

    ([50]) الهجرة في القرآن الكريم، ص312.

    ([51]) التربية القيادية، منير الغضبان (1/333). (2) المصدر نفسه، السيرة النبوية للصلابي، (1/348).



    ([53]) الصواعق المرسلة (1/314). (4) المعرفة والتاريخ (3/268) ضعيف الإسناد.



    ([55]) السيرة النبوية لابن هشام (1/402). (6) عثمان بن عفان، ص 80.



    ([57]) المصدر نفسه، ص 78.






    sdvQm uEelQhk fXkE uQthk: aowd~ji ,uQwXvi






  2. #2
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الثاني حياة عثمان مع القرآن الكريم

    كان المنهج التربوي الذي تربى عليه عثمان بن عفان وكل الصحابة الكرام هو القرآن الكريم، المنزل من عند رب العالمين، فهو المصدر الوحيد للتلقي، فقد حرص الحبيب المصطفى على توحيد مصدر التلقي وتفرده، وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج الذي يتربى عليه الفرد المسلم والأسرة المسلمة والجماعة المسلمة، فكانت الآيات الكريمة التي سمعها عثمان t من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة لها أثرها في صياغة شخصية ذي النورين الإسلامية؛ فقد طهرت قلبه، وزكت نفسه، وتفاعلت معها روحه؛ فتحول إلى إنسان جديد بقيمه ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته.([1])

    وقد تعلق عثمان t بالقرآن الكريم، وحدثنا أبو عبد الرحمن السلمي كيف تعلمه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وله أقوال تدل على حبه الشديد للعيش مع كتاب الله تعالى؛ فعن أبي عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا الذين كانوا يقرئوننا القرآن -كعثمان بن عفان، وعبد الله بن مسعود وغيرهما- أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا، ولهذا كانوا يبقون مدة في حفظ السورة([2]), وذلك أن الله تعالى قال: "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ" [ص: 29] وقد روى عثمان t عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه». ([3]) وقد عرض القرآن الكريم كاملا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته.

    ومن أشهر تلاميذ عثمان في تعلم القرآن الكريم أبو عبد الرحمن السلمي، والمغيرة بن أبي شهاب وأبو الأسود، وزر بن حبيش.([4]) وقد حفظ لنا التاريخ بعض أقوال عثمان
    t في القرآن الكريم حيث قال: لو طهرت قلوبنا لما شبعت من كلام الله عز وجل.([5]) وقال: إني لأكره أن يأتي عليَّ يوم لا أنظر فيه إلى عهد الله([6]) (يعني المصحف). وقال: حُبب إليَّ من الدنيا ثلاث: إشباع الجيعان، وكسوة العريان، وتلاوة القرآن.([7]) وقال: أربعة ظاهرهن فضيلة وباطنهن فريضة: مخالطة الصالحين فضيلة والاقتداء بهم فريضة، وتلاوة القرآن فضيلة والعمل به فريضة، وزيارة القبور فضيلة والاستعداد للموت فريضة، وعيادة المريض فضيلة واتخاذ الوصية منه فريضة.([8]) وقال t: أضيع الأشياء عشرة: عالم لا يُسْأل عنه، وعلم لا يعمل به، ورأي صواب لا يقبل، وسلاح لا يستعمل، ومسجد لا يصلى فيه، ومصحف لا يقرأ فيه، ومال لا ينفق منه، وخيل لا تُرْكب، وعلم الزهد في بطن من يريد الدنيا، وعمر طويل لا يتزود صاحبه فيه لسفره.([9])

    وكان
    حافظا لكتاب الله، وكان حجره لا يكاد يفارق المصحف، فقيل له في ذلك فقال: إنه مبارك جاء به مبارك.([10]) وما مات عثمان حتى خرق مصحفه من كثرة ما يديم([11]) النظر فيه. وقالت امرأة عثمان يوم الدار: اقتلوه أو دعوه، فوالله لقد كان يحيي الليل بالقرآن في ركعة([12]), وقد ذكر عنه أنه قرأ القرآن ليلة في ركعة لم يصل غيرها([13]), وقد تحقق فيه قول الله تعالى: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الألْبَابِ" [الزمر: 9].

    لقد تشرب عثمان بالمنهج القرآني وتتلمذ على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعرف من خلال القرآن الكريم من هو الإله الذي يجب أن يعبده، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس في نفسه معاني تلك الآيات العظيمة، فقد حرص صلى الله عليه وسلم أن يربي أصحابه على التصور الصحيح عن ربهم وعن حقه عليهم، مدركا أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عندما تصفى النفوس وتستقيم الفطرة، فأصبحت نظرة ذي النورين إلى الله عز وجل، والكون والحياة والجنة والنار، والقضاء والقدر، وحقيقة الإنسان، وصراعه مع الشيطان مستمدة من القرآن الكريم وهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

    فالله -سبحانه وتعالى- منزه عن النقائص، موصوف بالكمالات التي لا تتناهى، فهو سبحانه (واحد لا شريك له، ولم يتخذ صاحبة ولا ولدا). وأنه سبحانه حدد مضمون هذه العبودية وهذا التوحيد في القرآن الكريم،([14]) وأما نظرته للكون فقد استمدها من قول الله تعالى: "قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ ` وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ ` ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ` فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ" [فصلت: 9- 12]. وأما هذه الحياة مهما طالت فهي إلى زوال وأن متاعها مهما عظم فإنه قليل حقير، : "إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ" [يونس: 24].

    وأما نظرته إلى الجنة، فقد استمدها من خلال الآيات الكريمة، فأصبح هذا التصور رادعًا في حياته عن أي انحراف عن شريعة الله، فيرى المتتبع لسيرة ذي النورين عمق استيعابه لفقه القدوم على الله عز وجل، وشدة خوفه من عذاب الله وعقابه، وسنرى ذلك في صفحات هذا البحث بإذن الله تعالى.

    وأما مفهوم القضاء والقدر فقد استمده من كتاب الله وتعليم رسول الله صلى الله عليه وسلم له، فقد رسخ مفهوم القضاء والقدر في قلبه، واستوعب مراتبه في كتاب الله تعالى، فكان على يقين بأن علم الله محيط بكل شيء: "وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ" [يونس: 61].

    وأن الله تعالى قد كتب كل شيء كائن: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُّبِينٍ" [يس: 12]. وأن مشيئة الله نافذة وقدرته تامة: "أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا" [فاطر: 44]. وأن الله خالق لكل شيء "ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ" [الأنعام: 102].

    وقد ترتب على الفهم الصحيح والاعتقاد الراسخ في قلبه لحقيقة القضاء والقدر ثمار نافعة ومفيدة، ظهرت في حياته، وسنراها -بإذن الله تعالى- في هذا الكتاب. وعرف من خلال القرآن الكريم حقيقة نفسه وبني الإنسان, وأن حقيقة خلقه ترجع إلى أصلين: الأصل البعيد وهو الخلقة الأولى من طين، حين سواه ونفخ فيه الروح، والأصل القريب وهو خلقه من نطفة، : "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِن طِينٍ ` ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّاءٍ مَّهِينٍ ` ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ" [السجدة: 7- 9].

    وعرف أن هذا الإنسان خلقه الله بيده وأكرمه بالصورة الحسنة والقامة المعتدلة، ومنحه العقل والنطق والتمييز، وسخر له ما في السموات والأرض وفضله على كثير من خلقه، وكرمه بإرسال الرسل له. وإن من أروع مظاهر تكريم المولى -عز وجل- للإنسان أن جعله أهلا لحبه ورضاه، ويكون ذلك باتباع النبي صلى الله عليه وسلم الذي دعا الناس إلى الإسلام لكي يحيوا حياة طيبة في الدنيا ويظفروا بالنعيم المقيم في الآخرة، : "مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [النحل: 97].

    وعرف عثمان من خلال القرآن الكريم حقيقة الصراع بين الإنسان والشيطان، وأن هذا العدو يأتي للإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله يوسوس له بالمعصية ويستثير فيه كوامن الشهوات، فكان مستعينا بالله على عدوه إبليس وانتصر عليه في حياته، وتعلم من قصة آدم مع الشيطان في القرآن الكريم أن آدم هو أصل البشر، وجوهر الإسلام الطاعة المطلقة لله، وأن الإنسان له قابلية للوقوع في الخطيئة, وتعلم من خطيئة آدم ضرورة توكل المسلم على ربه وأهمية التوبة والاستغفار في حياة المؤمن، وضرورة الاحتراز من الحسد والكبر، وأهمية التخاطب بأحسن الكلام مع الصحابة؛ لقول الله تعالى: "وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا" [الإسراء: 53].

    لقد أكرم المولى -عز وجل- عثمان بن عفان t بالإسلام، فعاش به وجاهد به من أجل نشره، واستمد أصوله وفروعه من كتاب الله وهدي النبي صلى الله عليه وسلم، وأصبح من أئمة الهدى الذين يرسمون للناس خط سيرهم ويتأسى الناس بأقوالهم وأفعالهم في هذه الحياة، ولا ننسى أن عثمان بن عفان كان من كُتَّاب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ([15]).



    ([1]) السيرة النبوية للصلابي (1/145). (2) الفتاوى (13/177).



    ([3]) البخاري، فضائل القرآن، رقم: (5027)

    ([4]) تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء الراشدين للذهبي، ص 467.

    ([5]) الفتاوى (11/122)، البداية والنهاية (7/225).

    ([6]) البداية والنهاية (7/225)، فرائد الكلام، ص 275.

    ([7]) إرشاد العباد للاستعداد ليوم المعاد، ص 88. (2) المصدر نفسه، ص90، فرائد الكلام، ص278.



    ([9]) إرشاد العباد، ص91، فرائد الكلام، ص278.

    ([10]) البيان والتبيان في مقتل الشهيد عثمان، (3/177)، فرائد الكلام، ص273.

    ([11]) يديم: يطيل، البداية والنهاية (7/225).

    ([12]) البداية والنهاية (7/225).

    ([13]) الخلافة الراشدة والدولة الأموية، ص397.

    ([14]) منهج الرسول في غرس الروح الجهادية، ص 10- 16.

    ([15]) السياسة المالية لعثمان، ص22، التبيين في أنساب القرشيين، ص94.





  3. #3
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الثالث ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم في المدينة

    إن الرافد القوي الذي أثر في شخصية عثمان t وصقل مواهبه وفجر طاقته، وهذب نفسه هو مصاحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتتلمذه على يديه في مدرسة النبوة، ذلك أن عثمان t لازم الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة بعد إسلامه كما لازمه في المدينة بعد هجرته؛ فقد نظم عثمان نفسه, وحرص على التلمذة في حلقات مدرسة النبوة في فروع شتى من المعارف والعلوم على يدي معلم البشرية وهاديها الذي أدبه ربه فأحسن تأديبه، فحرص على تعلم القرآن الكريم والسنة المطهرة من سيد الخلق أجمعين.

    وهذا عثمان يحدثنا عن ملازمته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن، فهاجرت الهجرتين الأوليين، ونلت صهر رسول الله، ورأيت هديه.([1]) لقد تربى عثمان t على المنهج القرآني، وكان المربي له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت نقطة البدء في تربية عثمان هي لقاءه برسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدث له تحول غريب واهتداء مفاجئ بمجرد اتصاله بالنبي صلى الله عليه وسلم، فخرج من دائرة الظلام إلى دائرة النور، واكتسب الإيمان وطرح الكفر، وقوى على تحمل الشدائد والمصائب في سبيل الإسلام وعقيدته السمحة.

    كانت شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم تملك قوى الجذب والتأثير على الآخرين، فقد صنعه الله على عينه، وجعله أكمل صورة لبشر في تاريخ الأرض، والعظمة دائما تحب وتحاط من الناس بالإعجاب، ويلتف حولها المعجبون ويلتصقون بها التصاقا بدافع الإعجاب والحب، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يضيف إلى عظمته تلك أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم متلقي الوحي من الله، ومبلغه إلى الناس، وذلك بُعْد آخر له أثره في تكييف مشاعر ذلك المؤمن تجاهه، فهو لا يحبه لذاته فقط كما يحب العظماء من الناس، ولكن أيضا لتلك النفخة الربانية التي تشمله من عند الله، فهو معه في حضرة الوحي الإلهي المكرم، ومن ثم يلتقي في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم البشر العظيم والرسول العظيم، ثم يصبحان شيئا واحدا في النهاية، غير متميز البداية ولا النهاية، حب عميق شامل للرسول البشر أو للبشر الرسول، ويرتبط حب الله بحب رسوله صلى الله عليه وسلم, ويمتزجان في نفسه فيصبحان في مشاعره هما نقطة ارتكاز المشاعر كلها، ومحور الحركة الشعورية والسلوكية كلها كذلك.


    كان هذا الحب الذي حرك الرعيل الأول من الصحابة هو مفتاح التربية الإسلامية ونقطة ارتكازها ومنطقها الذي تنطلق منه.([2]) لقد حصل لعثمان t وللصحابة ببركة صحبتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتربيتهم على يديه أحوال إيمانية عالية، ولقد تتلمذ عثمان t على يدي رسول الله، فتعلم منه القرآن الكريم والسنة النبوية، وأحكام التلاوة وتزكية النفوس، : "قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ" [آل عمران: 64].


    وحرص على التبحر في الهدي النبوي الكريم خلال ملازمته رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزواته وسِلْمه، وقد أمدته تلك المعايشة بخبرة ودربة ودراية بشئون الحرب ومعرفة بطبائع النفوس وغرائزها، وفي الصفحات القادمة سنبين -بإذن الله تعالى- مواقفه في الميادين الجهادية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العهد المدني.

    أولاً: عثمان في ميادين الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد استقراره بالمدينة في تثبيت دعائم الدولة الإسلامية، فآخى بين المهاجرين والأنصار، فكل مهاجري يتخذ أخًا له من الأنصار، فكان نصيب عثمان بن عفان في المؤاخاة أوس بن ثابت،([3]) ثم أقام النبي صلى الله عليه وسلم المسجد، وأبرم المعاهدة مع اليهود، وبدأت حركة السرايا، واهتم بالبناء الاقتصادي والتعليمي والتربوي في المجتمع الجديد. وكان عثمان t من أعمدة الدولة الإسلامية، فلم يبخل بمشورة أو مال أو رأي، وشهد المشاهد كلها إلا غزوة بدر([4]).

    1- عثمان وغزوة بدر:

    لما خرج المسلمون لغزوة بدر كانت زوجة عثمان السيدة رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مريضة بمرض الحصبة ولزمت الفراش، في الوقت الذي دعا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم للخروج لملاقاة القافلة، وسارع عثمان t للخروج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلا انه تلقى أمرًا بالبقاء إلى جانب رقية -رضي الله عنها- لتمريضها، وامتثل لهذا الأمر بنفس راضية وبقي إلى جوار زوجته الصابرة الطاهرة رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ اشتد بها المرض، وطاف بها شبح الموت، كانت رقية -رضي الله عنها- تجود بأنفاسها وهي تتلهف لرؤية أبيها الذي خرج إلى بدر، ورؤية أختها زينب في مكة، وجعل عثمان t يرنو إليها من خلال دموعه، والحزن يعتصر قلبه([5]), ودعت نبض الحياة وهي تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ولحقت بالرفيق الأعلى، ولم ترَ أباها رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان ببدر مع أصحابه الكرام، يعلون كلمة الله، فلم يشهد دفنها صلى الله عليه وسلم, وجهزت رقية ثم حمل جثمانها الطاهر على الأعناق، وقد سار خلفه زوجها وهو حزين، حتى إذا بلغت الجنازة البقيع، دفنت رقية هناك، وقد انهمرت دموع المشيعين، وسوى التراب على قبر رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيما هم عائدون إذ بزيد ابن حارثة قد أقبل على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بسلامة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقتل المشركين وأسر أبطالهم، وتلقى المسلمون في المدينة هذه الأنباء بوجوه مستبشرة بنصر الله لعباده المؤمنين، وكان من بين المستبشرين وجه عثمان الذي لم يستطع أن يخفي آلامه لفقده رقية رضي الله عنها. وبعد عودة الرسول صلى الله عليه وسلم علم بوفاة رقية -رضي الله عنها- فخرج إلى البقيع ووقف على قبر ابنته يدعو لها بالغفران([6]).

    لم يكن عثمان بن عفان ممن تخلفوا عن بدر لتقاعس منه أو هروب ينشده كما يزعم أصحاب الأهواء ممن طعن عليه بتغيبه عن بدر، فهو لم يقصد مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأن الفضل الذي حازه أهل بدر في شهود بدر طاعة الرسول ومتابعته، وعثمان t خرج فيمن خرج مع رسول الله فردَّه صلى الله عليه وسلم للقيام على ابنته، فكان في أجَلِّ فرض لطاعته لرسول الله وتخليفه، وقد ضرب له بسهمه وأجره فشاركهم في الغنيمة والفضل والأجر لطاعته الله ورسوله وانقياده لهما.([7]) فعن عثمان بن عبد الله بن موهب قال: جاء رجل من مصر حج البيت فقال: يا ابن عمر إني سائلك عن شيء فحدثني أنشدك الله بحرمة هذا البيت، هل تعلم أن عثمان تغيب عن بدر فلم يشهدها؟ فقال: نعم، ولكن أما تغيبه عن بدر فإنه كانت تحته بنت رسول الله فمرضت، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لك أجر رجل شهد بدرا وسهمه».([8]) وعن أبي وائل، عن عثمان بن عفان t أنه قال: أما يوم بدر فقد تخلفت على بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم لي فيها بسهم. وقال زائدة في حديثه: ومن ضرب له رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها بسهم فقد شهد.([9]) وقد عُد عثمان t من البدريين بالاتفاق([10]).

    2- عثمان وغزوة أحد:

    في غزوة أحد منح الله -عز وجل- النصر للمسلمين في أول المعركة، وأخذت سيوف المسلمين تعمل عملها في رقاب المشركين، وكانت الهزيمة لا شك فيها، وقتل أصحاب لواء المشركين واحدا واحدا، ولم يقدر أحد أن يدنو من اللواء، وانهزم المشركون، وولولت النسوة بعد أن كن يغنين بحماس ويضربن بالدفوف، فألقين بالدفوف وانصرفن مذعورات إلى الجبل كاشفات سيقانهن، ولكن مال ميزان المعركة فجأة، وكان سبب ذلك أن الرماة الذين أوكل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم مكانا على سفح الجبل لا يغادرونه مهما كانت نتيجة المعركة قد تخلوا إلا قليلا عن أماكنهم، ونزلوا إلى الساحة يطلبون الغنائم لما نظروا المسلمين يجمعونها، وانتهز خالد بن الوليد قائد سلاح الفرسان القرشي فرصة خلو الجبل من الرماة، وقلة من به منهم فكرَّ بالخيل ومعه عكرمة بن أبي جهل، فقتلوا بقية الرماة ومعهم أميرهم عبد الله بن جبير t الذي ثبت هو وطائفة قليلة معه, وفي غفلة المسلمين، وأثناء انشغالهم بالغنائم أطبق خالد ومن معه عليهم، فأعملوا فيهم القتل، فاضطرب أمر المسلمين اضطرابا شديدا، وانهزمت طائفة من المسلمين إلى قرب المدينة منهم عثمان بن عفان ولم يرجعوا حتى انفض القتال، وفرقة صاروا حيارى لما سمعوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد قتل، وفرقة ثبتت مع النبي صلى الله عليه وسلم، أما الفرقة التي انهزمت وفرت فلقد أنزل الله فيها قرآنا يتلى إلى يوم القيامة، : "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] غير أن أصحاب الأهواء لا يرون إلا ما تهوى أنفسهم، فلم يروا من المتراجعين إلا عثمان t، فكانوا يتهمونه دون سائر المتراجعين من الصحابة، وهل يبقى وحده؟ ولو فعل لخاطر بنفسه([11]), وبعد أن عفا الله عن المتراجعين فالحكم واضح جليّ، لا لبس فيه ولا غموض، فلا مؤاخذة بعد ذلك على عثمان بن عفان([12]) t, فيكفي أن الله عفا عنه بنص القرآن الكريم، وحياته الجهادية بمجموعها تشهد له على شجاعته.

    3- في غزوة غطفان (ذي إمر):

    ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين وخرج في أربعمائة رجل ومعهم بعض الجياد، واستخلف على المدينة عثمان بن عفان t فأصابوا رجلا منهم (بذي القُصَّة) يقال له جبار من بني ثعلبة، فأدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره من خبرهم، وقال: لن يلاقوك، لما سمعوا بمسيرك هربوا في رؤوس الجبال وأنا سائر معك، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم، وضمه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بلال ولم يلاقِ رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا، ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ولم يلق كيدا، وكانت غيبته إحدى عشر ليلة([13]).

    4- في غزوة ذات الرقاع:

    بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن جمعًا من غطفان من ثعلبة وأنمار يريدون غزو المدينة، فخرج في أربعمائة من أصحابه حتى قدم صرارًا، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استخلف على المدينة قبل خروجه عثمان بن عفان، لقي المسلمون جمعا غفيرا من غطفان، وتقارب الناس، ولم يكن بينهم حرب، وقد خاف الناس بعضهم بعضا، حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس صلاة الخوف ثم انصرف بالناس، وقد غاب عن المدينة خمسة عشر يوما([14]).

    5- في بيعة الرضوان:

    عندما نزل رسول الله الحديبية رأى من الضرورة إرسال مبعوث خاص من جانبه إلى قريش يبلغهم فيها نواياه السلمية بعدم الرغبة في القتال، وحرصه على احترام المقدسات، ومن ثم أداء مناسك العمرة، والعودة إلى المدينة، فوقع الاختيار على أن يكون مبعوث الرسول صلى الله عليه وسلم إلى قريش (خراش بن أمية الخزاعي) وحمله على جمل يقال له (الثعلب), فلما دخل مكة عقرت به قريش، وأرادوا قتل خراش فمنعهم الأحابيش، فعاد خراش بن أمية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره بما صنعت قريش، فأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرسل سفيرا آخر بتبليغ قريش رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووقع الاختيار في بداية الأمر على عمر بن الخطاب([15]), فاعتذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الذهاب إليهم، وأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث عثمان مكانه،([16]) وعرض عمر t رأيه هذا معززًا بالحجة الواضحة، وهي ضرورة توافر الحماية لمن يخالط هؤلاء الأعداء, وحيث إن هذا الأمر لم يكن متحققا بالنسبة لعمر t، فقد أشار على النبي صلى الله عليه وسلم بعثمان t لأن له قبيلة تحميه من أذى المشركين حتى يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم([17]), وقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أخاف قريشا على نفسي، قد عرفت عداوتي لها، وليس بها من بني عدي من يمنعني، وإن أحببت يا رسول الله دخلت عليهم([18]), فلم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، قال عمر: ولكن أدلك يا رسول الله على رجل أعز بمكة مني، وأكثر عشيرة وأمنع، عثمان بن عفان، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان t فقال: «اذهب إلى قريش فخبرهم أنَّا لم نأتِ لقتال أحد، وإنما جئنا زوارًا لهذا البيت، معظمين لحرمته، معنا الهدي، ننحره وننصرف»، فخرج عثمان بن عفان t حتى أتى بلدح([19]) فوجد قريشا هناك، فقالوا: أين تريد؟ قال: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم، يدعوكم إلى الله وإلى الإسلام، تدخلون في دين الله كافة، فإن الله مظهر دينه ومعز نبيه، وأخرى تكفون ويَلِي هذا منه غيركم، فإن ظفروا بمحمد فذلك ما أردتم، وإن ظفر محمد كنتم بالخيار أن تدخلوا فيما دخل فيه الناس أو تقاتلوا وأنتم وافرون جامون، إن الحرب قد نهكتكم، وأذهبت بالأماثل منكم، فجعل عثمان يكلمهم فيأتيهم بما لا يريدون، ويقولون: قد سمعنا ما تقول ولا كان هذا أبدا، ولا دخلها علينا عنوة، فارجع إلى صاحبك فأخبره أنه لا يصل إلينا، فقام إليه أبان بن سعيد بن العاص فرحب به وأجاره وقال: لا تقصر عن حاجتك، ثم نزل عن فرس كان عليه، فحمل عثمان على السرج وردفه وراءه، فدخل عثمان مكة فأتى أشرافهم رجلا رجلا؛ أبا سفيان بن حرب، وصفوان بن أمية، وغيرهما من لقي ببلدح، ومنهم من لقي بمكة، فجعلوا يردون عليه: إن محمدا لا يدخلها علينا أبدا.([20]) وعرض المشركون على عثمان t أن يطوف بالبيت فأبى([21])، وقام عثمان بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المستضعفين بمكة وبشرهم بقرب الفرج والمخرج،([22]) وأخذ منهم رسالة شفهية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيها: اقرأ على رسول الله صلى الله عليه وسلم منا السلام، إن الذي أنزله بالحديبية لقادر على أن يدخله بطن مكة.([23]) وتسربت شائعة إلى المسلمين مفادها أن عثمان قتل، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى مبايعته على قتال المشركين ومناجزتهم، فاستجاب الصحابة وبايعوه على الموت([24]) سوى الجد بن قيس وذلك لنفاقه.([25]) وفي رواية أن البيعة كانت على الصبر([26]), وفي رواية على عدم الفرار([27])، ولا تعارض في ذلك؛ لأن المبايعة على الموت تعني الصبر وعدم الفرار.([28]) وكان أول من بايعه على ذلك أبا سنان عبد الله بن وهب الأسدي([29])، فخرج الناس بعده يبايعون على بيعته([30]), وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث مرات؛ في أول الناس، وأوسطهم، وآخرهم.([31]) وقال النبي صلى الله عليه وسلم بيده اليمنى: «هذه يد عثمان» فضرب بها على يده.([32]) وكان عدد الصحابة الذين أخذ منهم الرسول صلى الله عليه وسلم المبايعة تحت الشجرة ألف وأربعمائة صحابي.([33])

    وقد تحدث القرآن الكريم عن أهل بيعة الرضوان، وورد فضلهم في نصوص كثيرة من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، منها:

    1- : "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].

    2-
    : "لَيْسَ عَلَى الأعْمَى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعْرَجِ حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنْهَارُ وَمَن يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا ` لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا" [الفتح: 17، 18].

    3-
    قال جابر بن عبد الله t: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية: «أنتم خير أهل الأرض»، وكنا ألفا وأربعمائة، ولو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة.([34]) هذا الحديث صريح في فضل أصحاب الشجرة؛ فقد كان من المسلمين إذ ذاك جماعة بمكة وبالمدينة وبغيرهما.. وتمسك به بعض الشيعة في تفضيل عليٍّ على عثمان؛ لأن عليا كان من جملة من خوطب بذلك، وممن بايع تحت الشجرة، وكان عثمان حينئذ غائبا، وهذا التمسك باطل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم بايع عنه فاستوى معهم عثمان في الخيرية المذكورة، ولم يقصد في الحديث إلى تفضيل بعضهم على بعض.([35])

    وفي الحديبية ذكر المحب الطبري اختصاص عثمان بعدة أمور، منها: اختصاصه بإقامة يد النبي الكريمة مقام يد عثمان لما بايع الصحابة وعثمان غائب، واختصاصه بتبليغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مَنْ بمكة أسيرا من المسلمين، وذكر شهادة النبي صلى الله عليه وسلم لعثمان بموافقته في ترك الطواف لما أرسله في تلك الرسالة([36])، فعن إياس بن سلمة عن أبيه أن النبي صلى الله عليه وسلم بايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى، فقال الناس: هنيئا لأبي عبد الله الطواف بالبيت آمنا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو مكث كذا ما طاف حتى أطوف» ([37]).

    وقد اتهم عثمان ظلما بأنه لم يبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان وكان متغيبا عنها، فهذه من الاتهامات التي ألصقت بعثمان في أحضان فتنة أريد بها تقويض أركان الخلافة خاصة([38])، وسيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى. وعن أنس قال: لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة فبايعه الناس، فقال: إن عثمان في حاجة الله وحاجة رسوله، فضرب بإحدى يديه على الأرض، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان خيرا من أيديهم لأنفسهم([39]).

    6- شفاعة عثمان بن عفان في عبد الله بن أبي السرح في فتح مكة:

    لما كان يوم فتح مكة اختبأ عبد الله بن سعد بن أبي السرح عند عثمان بن عفان، فجاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله بايع عبد الله، فرفع رأسه، فنظر إليه ثلاثا، كل ذلك يأبى, فبايعه بعد ثلاث ثم أقبل على الصحابة فقال: «أما كان فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يدي عن بيعته فيقتله»، فقالوا: ما ندري يا رسول الله ما في نفسك، ألا أومأت إلينا بعينك؟ قال: «إنه لا ينبغي لنبي أن يكون له خائنة الأعين».([40])

    وجاء في رواية: لما كان يوم فتح مكة أمن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلا أربعة نفر، وقال: «اقتلوهم وإن وجدتموهم متعلقين بأستار الكعبة: عكرمة بن أبي جهل، وعبد الله بن خطل، ومقيس بن حبابة([41]) وعبد الله بن سعد بن أبي السرح». ([42]) فأما عبد الله بن خطل فأدرك وهو متعلق بأستار الكعبة فاستبق إليه سعد بن حارث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارا، وكان أشب الرجلين فقتله، وأما عكرمة فركب في البحر فأصابتهم ريح عاصف، فقال أصحاب السفينة: أخلصوا فإن آلهتكم لا تغني عنكم شيئا ههنا، فقال عكرمة: والله لئن لم ينجني في البحر إلا الإخلاص لم ينجني في البر غيره، اللهم لك عليَّ عهد إن أنت عافيتني مما أنا فيه أن آتي محمدا حتى أضع يدي في يده ولأجدنه عفوا كريما، فجاء وأسلم. وأما عبد الله بن سعد بن أبي السرح فإنه اختبأ عند عثمان بن عفان، فلما دعا رسول الله الناس إلى البيعة جاء به حتى أوقفه على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم ذكر الباقي كما مر معنا.([43])

    وعن عبد الله بن عباس قال: كان عبد الله بن سعد بن أبي السرح يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأزله الشيطان فلحق بالكفار، فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتل يوم الفتح، فاستجار له عثمان، فأجاره رسول الله.([44]) وذكر ابن إسحاق سبب أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل سعد وشفاعة عثمان فيه فقال: وإنما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله لأنه كان قد أسلم، وكان يكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي، فارتد مشركا راجعا إلى قريش، ففر إلى عثمان بن عفان وكان أخاه للرضاعة، فغيبه حتى أتى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن اطمأن الناس وأهل مكة فاستأمن له، قال ابن هشام: ثم أسلم بعد، فولاه عمر بن الخطاب بعض أعماله، ثم ولاه عثمان بن عفان بعد عمر([45]).

    7- غزوة تبوك:

    في العام التاسع الهجري ولي هرقل وجهه المتآمر صوب الجزيرة العربية متلمظًا برغبة شريرة في العدوان عليها والتهامها، وأمر قواته بالاستعداد وانتظار أمره بالزحف، وترامت الأنباء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فنادى في أصحابه بالتهيؤ للجهاد وكان الصيف حارا يصهر الجبال، وكانت البلاد تعاني الجدب والعسرة، فإن قاوم المسلمون بإيمانهم وطأة الحر القاتل وخرجوا إلى الجهاد فوق الصحراء الملتهبة المتأججة فمن أين لهم العتاد، والنفقات التي يتطلبها الجهاد؟ لقد حض الرسول على التبرع فأعطى كلٌّ قدرَ وسعه، وسارعت النساء بالحلي يقدمنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستعين به في إعداد الجيش، بيد أن التبرعات جميعها لم تكن لتغني كثيرا أمام المتطلبات للجيش الكبير، ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصفوف الطويلة العريضة من الذين تهيأوا للقتال وقال:
    «من يجهز هؤلاء ويغفر الله له؟» وما كاد عثمان يسمع نداء الرسول صلى الله عليه وسلم هذا حتى سارع إلى مغفرة من الله ورضوان، وهكذا وجدت العسرة الضاغطة (عثمانها
    المعطاء) ([46])، وقام t بتجهيز الجيش حتى لم يتركه بحاجة إلى خطام أو عقال.

    يقول ابن شهاب الزهري: قدم عثمان لجيش العسرة في غزوة تبوك تسعمائة وأربعين بعيرا، وستين فرسا أتم بها الألف، وجاء عثمان إلى رسول الله في جيش العسرة بعشرة آلاف دينار صبها بين يديه، فجعل الرسول يقلبها بيده ويقول: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين. ([47]) لقد كان عثمان t صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة([48]), وهذا عبد الرحمن بن حباب يحدثنا عن نفقة عثمان حيث قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحث على جيش العسرة، فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ مائتا بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، ثم حض على الجيش فقام عثمان بن عفان فقال: يا رسول الله، عليَّ ثلثمائة بعير بأحلاسها وأقتابها في سبيل الله، فأنا رأيت رسول الله ينزل على المنبر وهو يقول: «ما على عثمان ما عمل بعد هذه، ما على عثمان ما عمل بعد هذه».([49])
    وعن عبد الرحمن بن سمرة -رضي الله عنهما- قال: جاء عثمان بن عفان إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة، قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ويقول: «ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم» يرددها مرارا. ([50])

    إنه يبدو وكأنه الممول الوحيد للأمة الجديدة، ومضى الرسول صلى الله عليه وسلم على رأس جيشه حتى وصلوا موطنا يدعى تبوك في منتصف الطريق بين المدينة ودمشق، وهناك جاءته الأنباء مبشرة بأن هرقل الذي كان يعد العدة للزحف من دمشق قد ثلم الله عزمه، وغادر دمشق نافضا يديه من محاولته اليائسة بعد أن علم بخروج النبي وأصحابه إليه، ورجع الجيش بكل عتاده الذي أمده به عثمان، فهل استرجع من ذلك شيئا؟ كلا.. وحاشاه أن يفعل، وقد ظل كما كان دوما سريع التلبية لكل إيماءة من النبي صلى الله عليه وسلم تعني جديدا من البذل، ومزيدا من العطاء([51]).

    ثانيًا: من حياته الاجتماعية في المدينة:

    1- زواجه من أم كلثوم سنة 3 هـ:

    عرفت أم كلثوم -رضي الله عنها- بكنيتها ولا يعرف لها اسم إلا ما ذكره الحاكم عن مصعب الزبيري أن اسمها أمية، وهي أكبر سنا من فاطمة رضي الله عنها([52]).

    قال سعيد بن المسيب: تأيم عثمان من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتأيمت حفصة بنت عمر من زوجها، فمر عمر بعثمان، فقال: هل لك في حفصة، وكان عثمان قد سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرها فلم يجبه، وذكر ذلك عمر للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: هل لك في خير من ذلك؟ أتزوج حفصة، وأزوج عثمان خيرا منها: أم كلثوم.([53]) وفي رواية البخاري: قال عمر: تأيمت حفصة بنت عمر من خنيس بن حذافة السهمي، وكان من أصحاب رسول الله فتوفي في المدينة، فقال عمر: أتيت عثمان بن عفان فعرضت عليه حفصة بنت عمر. قال: فقلت: إن شئت أنكحتك حفصة، فقال: سأنظر في أمري، فلبثت ليالي، ثم لقيني فقال: قد بدا لي أن لا أتزوج يومي هذا، قال عمر: فلقيت أبا بكر الصديق، فقلت: إن شئت زوجتك حفصة بنت عمر، فصمت أبو بكر الصديق فلم يرجع إليَّ شيئا، فكنت عليه أَوْجَدَ مني على عثمان، فلبثت ليالي ثم خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنكحتها إياه، فلقيني أبو بكر فقال: لعلك وجدت عليَّ حين عرضت عليَّ حفصة فلم أرجع إليك شيئا؟ قال عمر: نعم، قال: فإنه لم يمنعني أن أرجع إليك فيما عرضت عليَّ، إلا أني كنت علمت أن رسول الله قد ذكرها، فلم أكن لأفشي سر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو تركها رسول الله قبلتها.([54])

    وتروي أم المؤمنين الصديقة بنت الصديق -رضي الله عنها- خبر زواج أم كلثوم من عثمان t فتقول: لما زوج النبي ابنته أم كلثوم قال لأم أيمن: «هيئ ابنتي أم كلثوم وزفيها إلى عثمان، وخفقي([55]) بين يديها بالدف»، ففعلت ذلك، فجاءها النبي صلى الله عليه وسلم بعد الثالثة فدخل عليها فقال: «يا بنية، كيف وجدت بعلك»؟ قالت: خير بعل.([56])
    وعن أبي هريرة t أن النبي صلى الله عليه وسلم وقف عند باب المسجد فقال: «يا عثمان، هذا جبريل أخبرني أن الله قد زوجك أم كلثوم بمثل صداق رقية، وعلى مثل صحبتها»، وكان ذلك سنة ثلاث من الهجرة النبوية، في ربيع الأول، وبنى بها في جمادى الآخرة.([57])

    2- وفاة عبد الله بن عثمان:


    وفي جمادى الأولى سنة أربع من الهجرة مات عبد الله بن عثمان
    t من رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ابن ست سنين، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه، ونزل حفرته والده عثمان.([58]) وهذه محنة عظيمة تعرض لها عثمان، وما أكثر المحن في حياة الدعاة إلى الله تعالى.

    3- وفاة أم كلثوم رضي الله عنها:


    ولم تزل أم كلثوم عند عثمان -رضي الله عنهما- إلى أن توفيت في شعبان سنة تسع من الهجرة بسبب مرض نزل بها، وصلى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلس على قبرها. وعن أنس ابن مالك أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم جالسا على قبر أم كلثوم، قال: فرأيت عينيه تدمعان، فقال: «هل منكم رجل لم يقارف الليلة؟» فقال أبو طلحة: أنا، قال: «فانزل في قبرها». ([59])

    وعن ليلى بنت قانف الثقفية قالت: كنت فيمن غسل أم كلثوم بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم عند وفاتها، فكان أول ما أعطانا رسول الله صلى الله عليه وسلم الحقو، ثم الدرع، ثم الخمار، ثم الملحفة، ثم أدرجت بعده في الثوب الآخر، قالت: ورسول الله صلى الله عليه وسلم عند الباب ومعه كفنها يناولنا إياه ثوبا ثوبا.([60]) وجاء عند ابن سعد أن عليَّ بن أبي طالب, والفضل بن العباس، وأسامة بن زيد، قد نزلوا في حفرتها مع أبي طلحة وأن التي غسلتها هي أسماء بنت عميس، وصفية بنت عبد المطلب([61]).

    وقد تأثر عثمان t وحزن حزنا عظيما على فراقه لأم كلثوم، ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عثمان t وهو يسير منكسرا وفي وجهه حزن لما أصابه، فدنا منه وقال: «لو كانت عندنا ثالثة لزوجناكها يا عثمان». ([62]) وهذا دليل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان، ودليل وفاء عثمان لنبيه وتوقيره، وفيه دليل على نفي ما اعتاده الناس من التشاؤم في مثل هذا الموطن، فإن قدر الله ماض وأمره نافذ ولا راد لأمره([63]).

    ثالثـًا: من مساهماته الاقتصادية في بناء الدولة:

    كان عثمان t من الأغنياء الذين أغناهم الله عز وجل، وكان صاحب تجارة وأموال طائلة، ولكنه استخدم هذه الأموال في طاعة الله -عز وجل- وابتغاء مرضاته وما عنده، وصار سبَّاقا لكل خير ينفق ولا يخشى الفقر، ومما أنفقه t من نفقاته الكثيرة على سبيل المثال ما يأتي:

    1- بئر رومة:


    عندما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة وجد أن الماء العذب قليل، وليس بالمدينة ما يستعذب غير بئر رومة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بئر رومة فيجعل دلوه مع دلاء المسلمين بخير له في الجنة».([64]) وقال صلى الله عليه وسلم: «من حفر بئر رومة فله الجنة». ([65])

    وقد كانت رومة قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم لا يشرب منه أحد إلا بثمن، فلما قدم المهاجرون المدينة استنكروا الماء، وكانت لرجل من بني غفار عين يقال لها رومة، وكان يبيع منها القربة بِمُدّ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبيعها بعين في الجنة؟» فقال: يا رسول الله, ليس لي ولا لعيالي غيرها، فبلغ ذلك عثمان t فاشتراها بخمسة وثلاثين ألف درهم، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أتجعل لي فيها ما جعلت له؟ قال: «نعم» قال: قد جعلتها للمسلمين.([66]) وقيل: كانت رومة ركية ليهودي يبيع المسلمين ماءها، فاشتراها عثمان بن عفان من اليهودي بعشرين ألف درهم، فجعلها للغني والفقير وابن السبيل([67]).

    2- توسعة المسجد النبوي:


    بعد أن بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجده في المدينة، فصار المسلمون يجتمعون فيه ليصلوا الصلوات الخمس، ويحضروا خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي يصدر إليهم فيها أوامره ونواهيه، ويتعلموا في المسجد أمور دينهم، وينطلقوا منه إلى الغزوات ثم يعودون بعدها، ولذلك ضاق المسجد بالناس، فرغب النبي صلى الله عليه وسلم من بعض الصحابة أن يشتري بقعة بجانب المسجد لكي تزاد في المسجد حتى يتسع لأهله، فقال صلى الله عليه وسلم: «من يشتري بقعة آل فلان فيزيدها في المسجد بخير له منها في الجنة؟» فاشتراها عثمان بن عفان
    t من صلب ماله([68]) بخمسة وعشرين ألف درهم، أو بعشرين ألفا، ثم أضيفت للمسجد([69]), ووسع على المسلمين رضي الله عنه وأرضاه([70]).

    3- العسرة وعثمانها المعطاء:


    عندما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحيل إلى غزوة تبوك حث الصحابة الأغنياء على البذل لتجهيز جيش العسرة الذي أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم لغزو الروم، فأنفق الأموال من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلٌّ على حسب طاقته وجهده، أما عثمان فقد أنفق نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها ([71]), وقد تم بيانها عند حديثنا عن موقفه في غزوة تبوك.





    ([1]) فضائل الصحابة لأبي عبد الله أحمد بن حنبل (1/597)، إسناده صحيح.

    ([2]) منهج التربية الإسلامية، لمحمد قطب، ص34، 35.

    ([3]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص 40.

    ([4]) الخلفاء الراشدون، عبد الوهاب النجار، ص269.

    ([5]) نساء أهل البيت، أحمد خليل جمعة، ص 491- 504.

    ([6]) دماء على قميص عثمان بن عفان، ص 20.

    ([7]) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، للأصبهاني، ص 302.

    ([8]) البخاري، رقم: (3698).

    ([9]) الإمامة والرد على الرافضة، ص304.

    ([10]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص47.

    ([11]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص 49.

    ([12]) ذو النورين مع النبي، د. عاطف لماضة، ص 32.

    ([13]) الروض الأنف (3/137), الطبقات لابن سعد (2/34، 35).

    ([14]) الأمين ذو النورين، محمود شاكر، ص52، 53.

    ([15]) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص83.

    ([16]) المغازي، محمد عمر الواقدي (2/600).

    ([17]،2) المغازي، محمد عمر الواقدي (2/600).



    ([19]) مكان قريب من مكة.

    ([20]) زاد المعاد (3/290)، السيرة النبوية لابن هشام (3/344).

    ([21]، 6) زاد المعاد (3/290).



    ([23]) غزوة الحديبية لأبي فارس، ص85.

    ([24]) البخاري، رقم الحديث: (4169).

    ([25]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.

    ([26]) البخاري، رقم: 4169.

    ([27]) مسلم، رقم: 1856.

    ([28]، 6، 7) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص486.





    ([31]) زاد المعاد، (3/291).

    ([32]) صحيح السيرة النبوية، ص404.

    ([33]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص482.

    ([34]) مسلم، (1485).

    ([35]) فتح الباري (7/443).

    ([36]) الرياض النضرة في مناقب العشرة، ص(490، 491).

    ([37]) المصدر نفسه، ص 491، في سنده ضعف.

    ([38]) ذو النورين مع النبي، ص 32.

    ([39]) سير السلف الصالحين (1/181)، إسناده ضعيف، والحديث صحيح، سنن الترمذي، رقم: (3702).

    ([40]) الصارم المسلول على شاتم الرسول، ص109.

    ([41]) أضواء البيان في تاريخ القرآن, صابر أبو سليمان، ص79.

    ([42]) المصدر نفسه, ص 79.

    ([43]) المصدر نفسه، ص80.

    ([44]) المصدر نفسه، ص80.

    ([45]) السيرة النبوية لابن هشام (4/57، 58).

    ([46]) فتح الباري (7/67)، خلفاء الرسول، ص250، العشرة المبشرون بالجنة، محمد صالح عوض، ص53.

    ([47]) سنن الترمذي، رقم: (3785). صحيح التوثيق، ص26.

    ([48]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615.

    ([49]) سنن الترمذي، رقم: (3700).

    ([50]) سنن الترمذي، رقم: (3702).

    ([51]) خلفاء الرسول، ص138، العشرة المبشرون بالجنة، ص31.

    ([52]) الدوحة النبوية الشريفة، فاروق حمادة، ص45، 46.

    ([53]) مستدرك الحاكم (4/49)، الآثار لأبي يوسف رقم: (1957).

    ([54]) البخاري، كتاب النكاح، رقم: (5122).

    ([55]) خفق: اضطرب وتحرك.

    ([56]) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/231)، دماء على قميص عثمان، ص 22.

    ([57]) سنن ابن ماجه، رقم: (110)، وفيه عثمان بن خالد وهو ضعيف.

    ([58]) الكامل لابن الأثير (2/130)، دماء على قميص عثمان، ص22.

    ([59]) البخاري، كتاب الجنائز، رقم: (1342).

    ([60]) سنن أبي داود، رقم: (3157).

    ([61]) الطبقات لابن سعد، (8/39), الدوحة النبوية، ص48.

    ([62]) مجمع الزوائد للهيثمي (9/83)، إسناده حسن لما له من شواهد.

    ([63]) الخلفاء الراشدون.. أعمال وأحداث، د.أمين القضاة، ص73.

    ([64]) صحيح النسائي للألباني (2/766).

    ([65]) أخرجه البخاري رقم: (2778) معلقا، وهو صحيح لشواهده.

    ([66]) تحفة الأحوذي بشرح سنن الترمذي (10/196).

    ([67]) فتح الباري (5/408), الحكمة في الدعوة إلى الله، ص231.

    ([68]) صحيح سنن الترمذي للألباني (3/209)، رقم: (2921).

    ([69]) صحيح سنن النسائي (2/766).

    ([70]) أعلام المسلمين لخالد البيطار (3/41).

    ([71]) الحكمة في الدعوة إلى الله، ص231.







  4. #4
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الرابع من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم في عثمان بن عفان

    أولاً: فيما ورد في فضائله مع غيره:

    1- افتح له وبشِّره بالجنة على بلوى تصيبه:


    عن أبي موسى
    t قال: كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في حائط من حيطان المدينة، فجاء رجل فاستفتح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افتح له، وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو أبو بكر فبشرته بما قال رسول الله، فحمد الله، ثم جاء رجل فاستفتح فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النبي صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم استفتح رجل فقال لي: «افتح له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه» فإذا هو عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله، ثم قال: الله المستعان.([1])

    هذا الحديث تضمن فضيلة هؤلاء الثلاثة المذكورين؛ وهم أبو بكر وعمر وعثمان، وأنهم من أهل الجنة كما تضمن فضيلة لأبي موسى، وفيه دلالة على جواز الثناء على الإنسان في وجهه إذا أمنت عليه الإعجاب ونحوه، وفيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم لإخباره بقصة عثمان والبلوى، وأن الثلاثة يستمرون على الإيمان والهدى([2]).

    2- اسكن أحد فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان:


    عن أنس
    t قال: صعد النبي صلى الله عليه وسلم أحدا ومعه أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف، فقال: «اسكن أحد -أظنه ضربه برجله- فليس عليك إلا نبي وصديق وشهيدان» ([3]).

    3- اهدأ فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد:

    عن أبي هريرة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على حراء، وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير، فتحركت الصخرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اهدأ، فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد» ([4]).


    4- حياء عثمان
    :

    عن يحيى بن سعيد بن العاص أن سعيد بن العاص أخبره أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم وآله وعثمان حدثاه أن أبا بكر استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع على فراشه لابسٌ مِرْط عائشة فأذن لأبي بكر وهو كذلك، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، ثم استأذن عمر فأذن له وهو على تلك الحال، فقضى إليه حاجته ثم انصرف، قال عثمان: ثم استأذنت عليه فجلس، وقال لعائشة: «اجمعي عليك ثيابك»، فقضيت إليه حاجتي ثم انصرفت، فقالت عائشة: يا رسول الله، ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر -رضي الله عنهما- كما فزعت لعثمان؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن عثمان رجل حيي، وإني خشيت إن أذنت له على تلك الحال أن لا يبلغ إليَّ في حاجته». ([5])


    5- استحياء الملائكة من عثمان:


    عن أبي سلمة بن عبد الرحمن أن عائشة قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجعا في بيتي كاشفا عن فخذيه أو ساقيه، فاستأذن أبو بكر فأذن له وهو على تلك الحال فتحدث، ثم استأذن عمر فأذن له وهو كذلك فتحدث، ثم استأذن عثمان فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وسوى ثيابه. قال محمد -أحد رواة الحديث، ولا أقول ذلك في يوم واحد- فدخل فتحدث، فلما خرج قالت عائشة: دخل أبو بكر فلم تهتشَّ له ولم تُبَالِه، ثم دخل عمر فلم تهتش له ولم تباله، ثم دخل عثمان فجلست وسويت ثيابك، فقال: «ألا استحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!». ([6]) قال المناوي: مقام عثمان مقام الحياء، والحياء فرع يتولد من إجلال من يشاهده ويعظم قدره، مع نقص يجده في النفس، فكأنه غلب عليه إجلال الحق تعالى، ورأى نفسه بعين النقص والتقصير، وهما من جليل خصال العباد المقربين، فعلت رتبة عثمان كذلك، فاستحيت منه خلاصة الله من خلقه، كما أن من أحب الله أحب أولياءه، ومن خاف الله خاف منه كل شيء.([7])


    6- أصدقها حياء عثمان:


    عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرحم أمتي أبو بكر، وأشدها في دين الله عمر، وأصدقها حياء عثمان، وأعلمها بالحلال والحرام معاذ بن جبل، وأقرأها لكتاب الله أُبي، وأعلمها بالفرائض زيد بن ثابت، ولكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة بن الجراح».([8])

    ثانيًا: إخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفتنة التي يقتل فيها عثمان:

    1- من نجا من ثلاث فقد نجا:


    عن عبد الله بن حوالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نجا من ثلاث فقد
    نجا -ثلاث مرات-: موتى، والدجال، وقتل خليفة مصطبر بالحق معطيه». ([9])

    ومعلوم أن الخليفة الذي قتل مصطبرا بالحق هو عثمان، فالقرائن تدل على أن الخليفة المقصود بهذا الحديث هو عثمان بن عفان t. وفي الحديث -والله أعلم- لفتة عظيمة إلى أهمية السلامة من الخوض في هذه الفتنة حسيًّا ومعنويًا، أما حسيًا فذلك يكون في الفتنة من تحريض وتأليب وقتل وغير ذلك، وأما معنويًا فبعد الفتنة من خوض فيها بالباطل، وكلام فيها بغير حق، وبهذا يكون الحديث عاما للأمة، وليس خاصا بمن أدرك الفتنة.([10])

    2- يقتل فيها هذا المقنع يومئذ:


    عن ابن عمر قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة، فمر رجل فقال: «يقتل فيها هذا المقنع يومئذ مظلوما» قال: فنظرت فإذا هو عثمان بن عفان([11]).


    3- هذا يومئذ على الهدى:


    عن كعب بن عجرة قال: ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنة فقربها، فمر رجل مقنع رأسه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هذا يومئذ على الهدى. فوثبت فأخذت بضبعي عثمان، ثم استقبلت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: هذا؟ قال: هذا»([12]).


    4- تهيج فتنة كالصياصي، فهذا ومن معه على الحق:


    عن مرة البهزي قال: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال بهز -من رواة الحديث-: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تهيج فتنة كالصياصى، فهذا ومن معه على الحق». قال: فذهبت فأخذت بمجامع ثوبه، فإذا هو عثمان بن عفان
    t([13]).

    5- هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى:


    عن أبي الأشعث قال: قامت خطباء بإيلياء في إمارة معاوية
    t، فتكلموا وكان آخر من تكلم مرة بن كعب فقال: لولا حديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قمت، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر فتنة فقربها، فمر رجل مقنع فقال: «هذا يومئذ وأصحابه على الحق والهدى»، فقلت: هذا يا رسول الله؟ وأقبلت بوجهه إليه فقال: «هذا»، فإذا هو عثمان t([14]).

    6- عليكم بالأمين وأصحابه:


    عن أبي حبيبة أنه دخل الدار وعثمان محصور فيها، وأنه سمع أبا هريرة يستأذن عثمان في الكلام، فأذن له، فقام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم تلقون بعدي فتنة واختلافا» أو قال «اختلافا وفتنة»، فقال له قائل من الناس: فمن لنا يا رسول الله؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه»، وهو يشير إلى عثمان بذلك([15]).


    7- فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه:


    عن عبد الله بن عامر، عن النعمان بن بشير عن عائشة قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن عفان، فأقبل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما رأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبلت إحدانا على الأخرى, فكان آخر كلام كلَّمه أن ضرب منكبه وقال: «يا عثمان، إن الله -عز وجل- عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني. يا عثمان، إن الله عسى أن يلبسك قميصا، فإن أرادك المنافقون على خلعه فلا تخلعه حتى تلقاني» ثلاثا. فقلت لها: يا أم المؤمنين، فأين كان هذا عنك؟ قالت: نسيته والله فما ذكرته. قال: فأخبرته معاوية بن أبي سفيان فلم يرضَ بالذي أخبرته حتى كتب إلى أم المؤمنين أن اكتبي إليَّ به، فكتبت إليه به كتابا.([16])


    8- إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه:


    عن أبي سهلة، عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ادعوا لي بعض أصحابي» قلت: أبو بكر؟ قال: «لا»، قلت: عثمان؟ قال: «نعم»، فلما جاء قال: «تنحَّ»، فجعل يساره([17]), ولون عثمان يتغير، فلما كان يوم الدار وحصر قلنا: يا أمير المؤمنين، ألا تقاتل؟ قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا وإني صابر نفسي عليه.([18]) وهذا الحديث يبين شدة محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان
    t وحرصه على مصالح الأمة بعده، فقد أخبره بأشياء تتعلق بهذه الفتنة التي ستنتهي بقتله، وحرص عليه الصلاة والسلام على سريتها، حتى إنه لم يصل إلينا منها إلا ما صرح به عثمان t أثناء الفتنة لما قيل له: ألا تقاتل؟ فقد قال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ عهدا، وإني صابر عليه.([19]) ويظهر من قوله هذا، أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أرشده إلى الموقف الصحيح عند اشتعال الفتنة، وذلك أخذا منه صلى الله عليه وسلم بحجز الفتنة أن تنطلق، وفي بعض الروايات زيادة تكشف عن بعض مكنون هذه المسارَّة، فقد جاء فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «وإن سألوك أن تنخلع من قميص قمَّصك الله -عز وجل- فلا تفعل». ([20]) ومضمون هذا العهد الذي ذكره عثمان t يتعلق بالفتنة والوصية بالصبر فيها وعدم الخلع، وإن كان يفهم من هذه الأحاديث بأنه سيكون خليفة يومًا ما.

    ويبدو أن هناك وصايا وإرشادات تتعلق بهذه الفتنة، انفرد بمعرفتها عثمان
    t محافظة من النبي صلى الله عليه وسلم على السرية فيها، ومما يبين ذلك أنه أمر عائشة -رضي الله عنها- بالانصراف([21]) عندما أراد الإسرار بها لعثمان t، كما أسر إليه إسرارا رغم خلو المكان من غيرهما حتى تغير لونه، مما يدل على عظم المسرِّ به. وربط عائشة -رضي الله عنها- الإسرار بالفتنة دليل واضح على أن هذه المسارة كانت حول الفتنة التي قتل فيها، كما أن الإسرار تضمن توجيهات منه صلى الله عليه وسلم إلى عثمان ليقف الموقف الصحيح عند عرض الخلع، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتصر على الإخبار بوقوع الفتنة، فقد أخبر بذلك في أحاديث كثيرة كما تقدم، فإسراره يدل على أن الأسرار تضمن أشياء أخرى زيادة على الإخبار عن وقوعها، ورغب عليه الصلاة والسلام بالمحافظة على سريتها لحكمة اقتضت ذلك, الله أعلم بها.
    وهذا الحديث يفسر لنا جليا سبب إصرار عثمان على رفض القتال أثناء الحصار، كما يفسر أيضا سبب رفضه للتنازل عن الخلافة وخلعها عندما عرض القوم عليه ذلك، وهما موقفان طالما تساءل الباحثون والمؤرخون عن السبب الذي أدى عثمان إليهما واستشكلوهما.([22]) وحدث فتنة مقتل عثمان t من ضمن حوادث كثيرة أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته بأنها ستقع بالغيب، فإن علم الغيب صفة من صفات الله عز وجل، ليست لأحد من خلقه وإنما ذلك علم أطلعه الله عليه وأمره أن يبينه للناس([23]), : "قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلاَ ضَرًّا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُّؤْمِنُونَ" [ألأعراف: 188].




    ([1]) البخاري، رقم (3695).

    ([2]) شرح النووي على صحيح مسلم، (15/ 170، 171).

    ([3]) البخاري، رقم (3697).

    ([4]) مسلم، رقم (2417).

    ([5]) مسلم، رقم (2402).

    ([6]) مسلم، رقم (2401).

    ([7]) فيض القدير للمناوي، (4/302).

    ([8]) مسند الإمام أحمد، باقي كتاب مسند المكثرين، باب مسند أنس بن مالك (12493).

    ([9]) المسند (4/419) (5/346)، تحقيق أحمد شاكر.

    ([10]) فتنة مقتل عثمان، د. محمد عبد الله الغبان (1/44).

    ([11]) فضائل الصحابة (1/551) إسناده حسن.

    ([12]) صحيح سنن ابن ماجه (1/24).

    ([13]) المسند (5/33) له طرق تقويه.

    ([14]) مسند أحمد، مسند الشاميين، باب حديث كعب بن مرة السلمي أو مرة بن كعب، حديث رقم (17602).

    ([15]) فضائل الصحابة (1/500) إسناده صحيح.

    ([16]) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، (24045).

    ([17]) من المسارة مفاعلة، من السر أي المناجاة.

    ([18], 3) فضائل الصحابة (1/506)، إسناده صحيح.

    ([19]) فضائل الصحابة (1/506) إسناده صحيح.

    ([20]) فضائل الصحابة (1/613) إسناد صحيح، الطبقات (3/67،66).

    ([21]) فقد قال لها النبي × : (تنحَّ)، ومعنى التنحي الانصراف، الفيروز آبادي، القاموس المحيط (4/396)، لسان العرب (15/311).

    ([22], 2) فتنة مقتل عثمان، محمد عبد الله الغبان، (1/48).

    ([23]) فتنة مقتل عثمان، محمد عبد الله الغبان، (1/48).








  5. #5
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الخامس ذو النورين في عهد الصديق والفاروق

    أولاً: في عهد الصديق:

    1- من أهل الشورى في مسائل الدولة العليا:


    كان عثمان
    من الصحابة وأهل الشورى الذين يؤخذ رأيهم في أمهات المسائل في خلافة أبي بكر، فهو ثاني اثنين في الحظوة عند الصديق؛ عمر بن الخطاب للحزامة والشدائد، وعثمان بن عفان للرفق والأناة. وكان عمر وزير الخلافة الصديقية، وكان عثمان أمينها العام، وناموسها الأعظم وكاتبها الأكبر.([1]) وكان رأيه مقدما عند الصديق؛ فبعد أن قضى أبو بكر على حركة الردة، أراد أن يغزو الروم، وينطلق الجيش المجاهد إلى أطراف الأرض، فقام في الناس يستشيرهم، فقال الألباء ما عندهم، ثم استزادهم أبو بكر فقال: ما ترون؟ فقال عثمان: إني أرى أنك ناصح لأهل هذا الدين، شفيق عليهم، فإذا رأيت رأيا لعامتهم صلاحا، فاعزم على إمضائه فإنك غير ظنين.([2]) فقال طلحة والزبير وسعد وأبو عبيدة وسعيد بن زيد ومن حضر ذلك المجلس من المهاجرين والأنصار رضي الله عنهم: صدق عثمان، ما رأيت من رأي فأمْضِه.([3])

    ولما أراد الصديق أن يبعث واليا إلى البحرين استشار أصحابه، فقال عثمان: ابعث رجلا قد بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم فقدم عليه([4]) بإسلامهم وطاعتهم، وقد عرفوه وعرفهم وعرف بلاده (يعني العلاء بن الحضرمي t)، فبعث الصديق العلاء إلى البحرين.([5]) ولما اشتد المرض بأبي بكر استشار الناس فيمن يحبون أن يقوم بالأمر من بعده، فأشاروا بعمر، وكان رأي عثمان في عمر: اللهم علمي به أن سريرته خير من علانيته، وأنه ليس فينا مثله.([6]) فقال أبو بكر: يرحمك الله، والله لو تركته ما عدتك.([7])

    2- أزمة اقتصادية في عهد الصديق:

    عن ابن عباس قال: قحط المطر على عهد أبي بكر الصديق، فاجتمع الناس إلى أبي بكر فقالوا: السماء لم تمطر، والأرض لم تنبت, والناس في شدة شديدة، فقال أبو بكر: انصرفوا واصبروا، فإنكم لا تمسون حتى يفرج الله الكريم عنكم، قال: فما لبثنا أن جاء أجراء عثمان من الشام، فجاءته مائة راحلة بُرًّا -أو قال طعاما- فاجتمع الناس إلى باب عثمان، فقرعوا عليه الباب، فخرج إليهم عثمان في ملأ من الناس، فقال: ما تشاءون؟ قالوا: الزمان قد قحط؛ السماء لا تمطر، والأرض لا تنبت، والناس في شدة شديدة، وقد بلغنا أن عندك طعاما، فبعنا حتى نوسع على فقراء المسلمين، فقال عثمان: حبًّا وكرامة ادخلوا فاشتروا، فدخل التجار، فإذا الطعام موضوع في دار عثمان، فقال: يا معشر التجار كم تربحونني على شرائي من الشام؟ قالوا: للعشرة اثنا عشر، قال عثمان: قد زادني، قالوا: للعشرة خمسة عشر، قال عثمان: قد زادني، قال التجار: يا أبا عمرو، ما بقي بالمدينة تجار غيرنا، فمن زادك؟ قال: زادني الله -تبارك وتعالى- بكل درهم عشرة، أعندكم زيادة؟ قالوا: اللهم لا، قال: فإني أشهد الله أني قد جعلت هذا الطعام صدقة على فقراء المسلمين.([8]) قال ابن عباس: فرأيت من ليلتي رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وهو على برذون أبلق([9]) عليه حُلَّة من نور، في رجليه نعلان من نور، وبيده قصبة من نور، وهو مستعجل، فقلت: يا رسول الله، قد اشتد شوقي إليك وإلى كلامك فأين تبادر؟ قال: «يا ابن عباس، إن عثمان قد تصدق بصدقة، وإن الله قد قبلها منه وزوجه عروسا في الجنة، وقد دعينا إلى عرسه». ([10])


    فهل يفتح الله تعالى آذان عُبَّاد المال، ومحتكري قوت العباد شحًّا وجشعًا إلى صوت هذه العظمة العثمانية حتى تدلف إلى قلوبهم فتهزها هزة الأريحية والعطف، وتوقظ فيها بواعث الرحمة والإحسان بالفقراء والمساكين، والأرامل واليتامى وذوي الحاجات من أهل الفاقة والبؤس، الذين طحنتهم أزمة الحياة واعتصرت دماءهم شرابا لذوي القلوب المتحجرة من الأثرياء؟! فما أحوج المسلمين في هذه المرحلة من حياتهم إلى نفحة عثمانية في إنفاق الأموال على الفقراء والمساكين والمحتاجين تسري بينهم تعاطفًا ومؤاساة وبرًّا وإحسانا.([11])


    هذا موقف من مواقف الكرم والبر لعثمان
    t، فقد كان t من أرحم الناس بالناس، فهو يقرأ قول رب الناس: "كَلاَّ إِنَّ الإِنْسَانَ لَيَطْغَى" [العلق: 6] فيصده ذلك عن الطغيان، ويقرأ قوله تعالى: "أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ" [البقرة: 44] فيجعله ذلك من أبعد الناس عن النفاق والمنافقين، ويقرأ قوله تعالى: "لَيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ" [البقرة: 177] فيحمله ذلك على أن يكون من([12]) "أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ
    الْمُتَّقُونَ" [البقرة: 177].

    ثانيًا: في عهد الفاروق:


    كان عثمان ذا مكانة عند عمر، فكانوا إذا أرادوا أن يسألوا عمر عن شيء رموه بعثمان، وبعبد الرحمن بن عوف. وكان عثمان يسمى الرديف، والرديف بلسان العرب هو الذي يكون بعد الرجل، والعرب تقول ذلك للرجل الذي يرجونه بعد رئيس، وكانوا إذا لم يقدر هذان على عمل شيء ثلثوا بالعباس.([13])

    وقد حدث ذات مرة أن خرج عمر بالناس وعسكر بهم بما يُدْعى (صرارا)، فجاء عثمان فسأله: ما بلغك؟ ما الذي تريد؟ فنادى عمر (الصلاة جامعة)، ثم أخبر الناس عن عزمه في غزو العراق.([14]) ولما ولي عمر الخلافة استشار وجوه الصحابة في عطائه من بيت مال المسلمين، فقال له عثمان: كل واطعم.([15]) وعندما أرسل أبو عبيدة إلى عمر أن يقدم إلى بيت المقدس ليفتحه، فاستشار عمر الناس، فأشار عثمان بأن لا يركب إليهم ليكون أحقر لهم، وأرغم لأنوفهم، وقال لعمر: فأنت إن أقمت ولم تسر إليهم رأوا أنك بأمرهم مستخف ولقتالهم مستعد، فلم يلبثوا إلى السير حتى ينزلوا على الصغار ويعطوا الجزية.([16]) وأشار عليٌّ بالمسير، فهوى عمر ما قال علي ليكون أخف وطأة على المسلمين في حصارهم.([17])

    لقد كانت مكانة عثمان في خلافة عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- كمكانة الوزير من الخليفة، وإن شئت فقل: هي مكانة عمر من أبي بكر في خلافته. وقد صنع الله لأبي بكر بوزارة عمر لخلافته ما يصنعه لخير أهله، وصنع لعمر بوزارة عثمان لخلافته ما يصنعه لخير أهله، فقد كان أبو بكر أرحم الناس بالناس، وكان عمر أشدهم في الحق، فمزج الله رحمة الصديق بشدة عمر، فكانت منها خلافة الصدق وسياسة العدل، وقوم الحزم. وكان عثمان
    t أشبه بالصديق في رحمته، وكان عمر على سننه في شدته، فلما تولى بعد أبي بكر جعل الله له في وزارة عثمان لخلافته عوضًا من رحمة الصديق ورفقه، فكان منهما تلك الأمثال المضروبة في أنظمة الحكم وسياسة الأمة أحكم سياسة وأعدلها. وقد عرف الناس هذه المكانة لعثمان في خلافة عمر، فهو الذي أشار على عمر بفكرة الديوان وكتابة التاريخ، كما جاء في بعض الروايات.

    1- الديوان:


    لما اتسعت الفتوحات وكثرت الأموال جمع عمر ناسا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستشيرهم في هذا المال، فقال عثمان: أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لم يحصوا حتى يعرف من أخذ منهم ممن لم يأخذ خشيت أن ينتشر الأمر، فأقر عمر رأي عثمان، وانتهى بهم ذلك إلى تدوين الدواوين.([18])


    2- التاريخ:


    جاء في بعض الروايات أن الذي أشار على عمر بجعل السنة الهجرية تبدأ بالمحرم هو عثمان، وذلك أنهم لما اتفقوا بعد مشاورات على جعل مبدأ التاريخ الإسلامي من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم لأنها فرقت بين الحق والباطل، تعددت الآراء في أي الأشهر يجعل بداية للسنة، فقال عثمان: أرخوا من المحرم أول السنة، وهو شهر حرام، وأول الشهور في العدة، وهو منصرف الناس من الحج، فرضي عمر ومن شهده من أصحابه رأي عثمان واستقر عليه الأمر، وأصبح مبدأ تاريخ الإسلام.([19])


    3- أرض الخراج:


    كان عثمان ممن أيدوا رأي عمر بن الخطاب في عدم تقسيم أرض الفتوح على الفاتحين وإبقائها فيئًا للمسلمين وللذرية من بعدهم([20]).


    4- حجه مع أمهات المؤمنين:


    لما استخلف عمر بن الخطاب سنة ثلاث عشرة بعث تلك السنة على الحج عبد الرحمن بن عوف، فحج بالناس، وحج مع عمر أيضا آخر حجة حجها عمر سنة ثلاث وعشرين، وأذن عمر تلك السنة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في الحج، فحُملن في الهوادج، وبعث معهن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف، فكان عثمان يسير على راحلته أمامهن فلا يدع أحدا يدنو منهن، وينزلن مع عمر كل منزل، فكان عثمان وعبد الرحمن ينزلان بهن في الشعاب فيقبلانهن الشعاب، وينزلان هما في أذل الشعب، فلا يتركان أحدا يمر عليهن.([21])





    ([1]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص58.

    ([2]) تاريخ دمشق لابن عساكر (2/63- 65)، أبو بكر الصديق للصلابي، ص364.

    ([3]) أبو بكر الصديق للصلابي، ص364.

    ([4]) أي على النبي ×.

    ([5]) كنز العمال (5/620)، رقم: (14093), القيود الواردة على سلطة الدولة، عبد الله الكيلاني، ص169، تاريخ الطبري (4/122).

    ([6]) الكامل لابن الأثير (2/79)، الخلفاء الراشدون لمحمود شاكر، ص101.

    ([7]) الكامل لابن الأثير (2/79).

    ([8]) الرقة والبكاء لابن قدامة، ص190, الخلفاء الراشدون لحسن أبوب، ص191. شهيد الدار لأحمد
    الخروف، ص21.

    ([9]) الذي فيه سواد وبياض.

    ([10]) الرقة والبكاء، ص190.

    ([11]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص52.

    ([12]) شهيد الدار، ص22، 23.

    ([13]) تاريخ الطبري (4/83), المرتضى للندوي، ص131.

    ([14], 5) عثمان بن عفان، الخليفة الشاكر الصابر، ص63.

    ([15]) عثمان بن عفان، الخليفة الشاكر الصابر، ص63.

    ([16]) عثمان بن عفان، لمحمد حسين هيكل، ص47، 48, نقلا عن السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص24.

    ([17]) عثمان بن عفان الخليفة الشاكر، ص63.

    ([18]) تاريخ الطبري (5/203)، عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص60.

    ([19]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص60.

    ([20]) السياسة المالية لعثمان، ص25.

    ([21]) طبقات ابن سعد (3/134)، أنساب الأشراف للبلاذري، (1/465، 466)، مجلة البحوث الإسلامية، العدد العاشر، ص 263.








  6. #6
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    الفصل الثانى استخلاف ذى النورين ومنهجه في الحكم وأهم صفاته الشخصية

    المبحث الأول استخلاف ذى النورين

    أولاً: الفقه العمرى فى الاستخلاف:

    استمر اهتمام الفاروق
    بوحدة الأمة ومستقبلها حتى اللحظات الأخيرة من حياته، رغم ما كان يعانيه من آلام جراحاته البالغة، وهي بلا شك لحظات خالدة، تجلى فيها إيمان الفاروق العميق وإخلاصه وإيثاره.([1]) وقد استطاع الفاروق في تلك اللحظات الحرجة أن يبتكر طريقة جديدة لم يسبق إليها في اختيار الخليفة الجديد، وكانت دليلا ملموسًا, ومعلما واضحا على فقهه في سياسة الدولة الإسلامية. لقد مضى قبله الرسول صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف بعده أحدا بنص صريح، ولقد مضى أبو بكر الصديق واستخلف الفاروق بعد مشاورة كبار الصحابة، ولما طلب من الفاروق أن يستخلف وهو على فراش الموت، فكر في الأمر مليًّا وقرر أن يسلك مسلكا آخر يتناسب مع المقام؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الناس وكلهم مُقِرٌّ بأفضلية أبي بكر وأسبقيته عليهم، فاحتمال الخلاف كان نادرا وخصوصا أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه الأمة قولا وفعلا إلى أن أبا بكر أولى بالأمر من بعده. والصديق لما استخلف عمر كان يعلم أن عند الصحابة أجمعين قناعة بأن عمر أقوى وأفضل من يحمل المسئولية بعده، فاستخلفه بعد مشاورة كبار الصحابة ولم يخالف رأيه أحد منهم، وحصل الإجماع على بيعة عمر([2])، وأما طريقة انتخاب الخليفة الجديد فتعتمد على جعل الشورى في عدد محصور، وقد حصر ستة من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يصلحون لتولي الأمر ولو أنهم يتفاوتون، وحدد لهم طريقة الانتخاب ومدته، وعدد الأصوات الكافية لانتخاب الخليفة وحدد الحكم في المجلس، والمرجح إن تعادلت الأصوات، وأمر مجموعة من جنود الله لمراقبة سير الانتخابات في المجلس، وعقاب من يخالف أمر الجماعة، ومنع الفوضى بحيث لا يسمحون لأحد يدخل أو يسمع ما يدور في مجلس أهل الحل والعقد.([3]) وهذا بيان ما أُجْمِل في الفقرات السابقة:

    1- العدد الذي حدده للشورى وأسماؤهم:

    أما العدد فهو ستة، وهم: علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهم جميعا. وترك سعيد بن زيد وهو من العشرة المبشرين بالجنة، ولعله تركه لأنه من قبيلته بني عدي([4]). وكان عمر t حريصا على إبعاد الإمارة عن أقاربه، مع أن فيهم من هو أهل لها، فهو يبعد قريبه سعيد بن زيد عن قائمة المرشحين للخلافة.([5])

    2- طريقة اختيار الخليفة:


    أمرهم أن يجتمعوا في بيت أحدهم ويتشاوروا وفيهم عبد الله بن عمر يحضر معهم مشيرا فقط وليس له من الأمر شيء، ويصلي بالناس أثناء التشاور صهيب الرومي، وقال له: أنت أمير الصلاة في هذه الأيام الثلاثة حتى لا يولي إمامةَ الصلاة أحدا من الستة فيصبح هذا ترشيحا من عمر له بالخلافة.([6]) وأمر المقداد بن الأسود وأبا طلحة الأنصاري أن يرقبا سير الانتخابات([7]).


    3- مدة الانتخابات أو المشاورة:


    حددها الفاروق
    بثلاثة أيام وهي فترة كافية وإن زادوا عليها، فمعنى ذلك أن شقة الخلاف ستتسع، ولذلك قال لهم: لا يأتي اليوم الرابع إلا وعليكم أمير.([8])

    4- عدد الأصوات الكافية لاختيار الخليفة:


    أخرج ابن سعد بإسناد رجاله ثقات أن عمر
    t قال لصهيب: صلِّ بالناس ثلاثا وليخلُ هؤلاء الرهط في بيت، فإذا اجتمعوا على رجل فمن خالفهم فاضربوا رأسه.([9]) فعمر t أمر بقتل من يريد أن يخالف هؤلاء الرهط وشق عصا المسلمين ويفرق بينهم عملا بقوله: «من أتاكم وأمركم جمع على رجل منكم يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه».([10]) وما جاء في كتب التاريخ من أن عمر t أمرهم بالاجتماع والتشاور، وحدد لهم أنه إذا اجتمع خمسة منهم على رجل وأبى أحدهم فيضرب رأسه بالسيف، وإن اجتمع أربعة وفرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما.([11]) وهذه من الروايات التي لا تصح سندا، فهي من الغرائب التي ساقها أبو مخنف -الرافضي الشيعي- مخالفا فيها النصوص الصحيحة وما عرف من سير الصحابة رضي الله عنهم، فما ذكر أبو مخنف من قول عمر لصهيب: وقم على رؤوسهم -أي أهل الشورى- فإن اجتمع خمسة ورضوا رجلا وأبى واحد فاشدخ رأسه بالسيف، وإن اتفق أربعة فرضوا رجلا منهم وأبى اثنان فاضرب رؤوسهما([12]), فهذا قول منكر، وكيف يقول عمر t هذا وهو يعلم أنهم هم الصفوة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي اختارهم لهذا الأمر لعلمه بفضلهم وقدرهم؟!!([13]).

    وقد ورد عن ابن سعد أن عمر قال للأنصار: أدخلوهم بيتا ثلاثة أيام، فإن استقاموا وإلا فادخلوا عليهم فاضربوا أعناقهم.([14]) وهذه الرواية منقطعة وفي إسنادها (سماك بن حرب) وهو ضعيف، وقد تغير بآخره.([15])


    5- الحكم في حال الاختلاف:


    لقد أوصى بأن يحضر عبد الله بن عمر معهم في المجلس وأن ليس له من الأمر شيء، ولكن قال لهم: فإن رضي ثلاثة رجلا منهم وثلاثة رجلا منهم فحكموا عبد الله بن عمر، فأي الفريقين حكم له فليختاروا رجلا منهم، فإن لم يرضوا بحكم عبد الله بن عمر فكونوا مع الذين فيهم عبد الرحمن بن عوف، ووصف عبد الرحمن بن عوف بأنه مسدد رشيد، فقال عنه: ونعم ذو الرأي عبد الرحمن بن عوف، مسدد رشيد، له من الله حافظ، فاسمعوا منه.([16])


    6- جماعة من جنود الله تراقب الاختيار وتمنع الفوضى:


    طلب عمر أبا طلحة الأنصاري وقال له: يا أبا طلحة، إن الله -عز وجل- أعز الإسلام بكم، فاختر خمسين رجلا من الأنصار فاستحث هؤلاء الرهط حتى يختاروا رجلا منهم.([17]) وقال للمقداد بن الأسود: إذا وضعتموني في حفرتي، فاجمع هؤلاء الرهط في بيت حتى يختاروا رجلا منهم([18]).


    7- جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل:


    ومن فوائد قصة الشورى، جواز تولية المفضول مع وجود الأفضل؛ لأن عمر جعل الشورى في ستة أنفس مع علمه أن بعضهم كان أفضل من بعض، ويؤخذ هذا من سيرة عمر في أمرائه الذين كان يؤمرهم في البلاد؛ حيث كان لا يراعي الفضل في الدين فقط، بل يضم إليه مزيد المعرفة بالسياسة مع اجتناب ما يخالف الشرع منها، فاستخلف معاوية والمغيرة بن شعبة وعمرو بن العاص مع وجود من هو أفضل من كل منهم في أمر الدين والعلم؛ كأبي الدرداء في الشام، وابن مسعود في الكوفة.([19])


    8- جمع عمر بين التعيين وعدمه:


    جمع عمر بين التعيين، كما فعل أبو بكر أي تعيين المرشح، وبين عدم التعيين كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، فعين ستة وطلب منهم التشاور في الأمر([20]).


    9- الشورى ليست بين الستة فقط:


    عرف عمر أن الشورى لن تكون بين الستة فقط، وإنما ستكون في أخذ رأي الناس في المدينة فيمن يتولى الخلافة؛ حيث جعل لهم أمد ثلاثة أيام فيمكنهم من المشاورة والمناظرة لتقع ولاية من يتولى بعده عن اتفاق من معظم الموجودين حينئذ ببلده التي هي دار الهجرة، وبها معظم الصحابة وكل من كان ساكنا في بلد غيرها كان تبعا لهم فيما يتفقون عليه، فما زالت المدينة حتى سنة 23 هـ مجمع الصحابة؛ بل لأن كبار الصحابة فيها، حيث استبقاهم عمر بجانبه، ولم يأذن لهم بالهجرة إلى الأقاليم المفتوحة.([21])


    10- أهل الشورى أعلى هيئة سياسية:


    إن عمر
    t أناط بأهل الشورى وحدهم اختيار الخليفة من بينهم، ومن المهم أن نشير إلى أن أحدا من أهل الشورى لم يعارض هذا القرار الذي اتخذه عمر، كما أن أحدا من الصحابة الآخرين لم يُثِر أي اعتراض عليه، ذلك ما تدل عليه النصوص التي بين أيدينا، فنحن لا نعلم أن اقتراحا آخر قد صدر عن أحد من الناس في ذلك العصر، أو أن معارضة ثارت حول أمر عمر خلال الساعات الأخيرة من حياته أو بعد وفاته، وإنما رضي الناس كافة هذا التدبير، ورأوا فيه مصلحة لجماعة المسلمين. وفي وسعنا أن نقول: إن عمر قد أحدث هيئة سياسية عليا، مهمتها انتخاب رئيس الدولة أو الخليفة، وهذا التنظيم الدستوري الجديد الذي أبدعته عبقرية عمر لا يتعارض مع المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام، ولا سيما فيما يتعلق بالشورى؛ لأن العبرة من حيث النتيجة للبيعة العامة التي تجرى في المسجد الجامع. وعلى هذا لا يتوجه السؤال الذي قد يرد على بعض الأذهان وهو: من أعطى عمر هذا الحق؟ ما مستند عمر في هذا التدبير؟ ويكفي أن نعلم أن جماعة من المسلمين قد أقرت هذا التدبير ورضيت به، ولم يسمع صوت اعتراض عليه، حتى نتأكد أن الإجماع -وهو من مصادر التشريع- قد انعقد على صحته ونفاذه.([22]) ولا ننسى أن عمر خليفة راشد، كما ينبغي أن نؤكد على أن هذا المبدأ -أهل الشورى أعلى هيئة سياسية- قد أقره نظام الحكم في الإسلام في العهد الراشدي، كما أن الهيئة التي سماها عمر تمتعت بمزايا لم يتمتع بها غيرها من جماعة المسلمين، وهذه المزايا منحت لها من الله وبلغها الرسول، فلا يمكن عند المؤمنين أن يبلغ أحد من المسلمين مبلغ هؤلاء العشرة من التقوى والأمانة([23]).

    هكذا ختم عمر
    t حياته ولم يشغله ما نزل به من البلاء ولا سكرات الموت عن تدبير أمر المسلمين، وأرسى نظاما للشورى لم يسبقه إليه أحد، ولا يشك أن أصل الشورى مقرر في القرآن الكريم والسنة القولية والفعلية، وقد عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ولم يكن عمر مبتدعا بالنسبة للأصل، ولكن الذي عمله عمر هو تعيين الطريقة التي يختار بها الخليفة وحصر عدد معين جعلها فيهم، وهذا لم يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم ولا الصديق t بل أول من فعل ذلك عمر، ونعم ما فعل؛ فقد كانت أفضل الطرق المناسبة لحال الصحابة في ذلك الوقت([24]).

    ثانيًا: وصية عمر
    للخليفة الذي بعده:

    أوصى الفاروق عمر
    الخليفة الذي سيخلفه في قيادة الأمة بوصية مهمة قال فيها: أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له، وأوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا؛ أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم. وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو، وجباة الفيء، لا تحمل منهم إلا عن فضل منهم، وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام, أن تأخذ من حواشي أموالهم فترد على فقرائهم. وأوصيك بأهل الذمة خيرا؛ أن تقاتل من وراءهم، ولا تكلفهم فوق طاقتهم، إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين طوعا، أو عن يد وهم صاغرون. وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، ومخافة مقته أن يطلع منك على ريبة، وأوصيك أن تخشى الله في الناس ولا تخشى الناس في الله، وأوصيك بالعدل في الرعية، والتفرغ لحوائجهم وثغورك، ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم؛ فإن في ذلك -بإذن الله- سلامة لقلبك وحطًّا لوزرك، وخيرا في عاقبة أمرك حتى تفضي في ذلك إلى من يعرف سريرتك ويحول بينك وبين قلبك، وآمرك أن تشتد في أمر الله وفي حدوده ومعاصيه على قريب الناس وبعيدهم، ثم لا تأخذك في أحد الرأفة حتى تنتهك منه مثل جرمه، واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق، ولا تأخذك في الله لومة لائم، وإياك والمحاباة فيما ولاك الله مما أفاء على المؤمنين فتجور وتظلم وتحرم نفسك من ذلك ما قد وسعه الله عليك، وقد أصبحت بمنزلة من منازل الدنيا والآخرة، فإن اقترفت لدنياك عدلا وعفة عما بسط لك اقترفت به إيمانا ورضوانا، وإن غلبك الهوى اقترفت به غضب الله. وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة، وقد أوصيتك وخصصتك ونصحتك، فابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة، واخترت من دلالتك ما كنت دالا عليه نفسي وولدي، فإن عملت بالذي وعظتك، وانتهيت إلى الذي أمرتك أخذت منه نصيبا وافرا وحظا وافيا، وإن لم تقبل ذلك ولم يهمك، ولم تترك معاظم الأمور عند الذي يرضى به الله عنك، يكن ذلك بك انتقاصا، ورأيك فيه مدخولا؛ لأن الأهواء مشتركة، ورأس الخطيئة إبليس داع إلى كل مهلكة، وقد أضل القرون السالفة قبلك فأوردهم النار وبئس المورود، وبئس الثمن أن يكون حظ امرئ موالاة لعدو الله الداعي إلى معاصيه. ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات، وكن واعظا لنفسك. وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم، ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم، ولا تضر بهم فيذلوا، ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم، ولا تجمِّرهم في البعوث فينقطع نسلهم، ولا تجعل المال دولة بين الأغنياء منهم، ولا تغلق بابك دونهم فيأكل قويهم ضعيفهم، هذه وصيتي إليك، وأشهد الله عليك وأقرأ عليك السلام.([25])

    هذه الوصية تدل على بُعْد نظر عمر في مسائل الحكم والإدارة، وتفصح عن نهج ونظام حكم وإدارة متكامل؛ فقد تضمنت الوصية أمورا غاية في الأهمية، فحق أن تكون وثيقة نفيسة لما احتوته من قواعد ومبادئ أساسية للحكم، متكاملة الجوانب الدينية والسياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية يأتي في مقدمتها:


    1- الحرص على تقوى الله وخشيته:


    أ-
    الوصية بالحرص الشديد على تقوى الله والخشية منه في السر والعلن، في القول والعمل؛ لأن من اتقى الله وقاه, ومن خشيه صانه وحماه (أوصيك بتقوى الله وحده لا شريك له)، (وأوصيك بتقوى الله والحذر منه، وأوصيك أن تخشى الله).
    ب- إقامة حدود الله على القريب والبعيد (لا تبالِ على مَنْ وجب الحق)، (ولا تأخذك في الله لومة لائم)؛ لأن حدود الله نصت عليها الشريعة فهي من الدين؛ ولأن الشريعة حجة على الناس وأعمالهم وأفعالهم تقاس بمقتضاها، وأن التغافل عنها إفساد للدين والمجتمع.
    ج- الاستقامة (استقم كما أمرت)، وهي من الضرورات الدينية والدنيوية التي يجب على الحاكم التحلي بها قولا وعملا أولا ثم الرعية، (كن واعظا لنفسك) (وابتغ بذلك وجه الله والدار الآخرة).

    2- الناحية السياسية، وتضمنت:


    أ-
    الالتزام بالعدل؛ لأنه أساس الحكم، وإن إقامته بين الرعية تحقق للحكم قوة وهيبة ومتانة سياسية واجتماعية، وتزيد من هيبة واحترام الحاكم في نفوس الناس (وأوصيك بالعدل)، (واجعل الناس عندك سواء).

    ب-
    العناية بالمسلمين الأوائل من المهاجرين والأنصار لسابقتهم في الإسلام، ولأن العقيدة وما أفرزته من نظام سياسي قام على أكتافهم، فهم أهله وحملته وحُمَاته (أوصيك بالمهاجرين الأولين خيرا، أن تعرف لهم سابقتهم، وأوصيك بالأنصار خيرا، فاقبل من محسنهم وتجاوز عن مسيئهم).

    3- الناحية العسكرية، وتضمنت:


    أ-
    الاهتمام بالجيش وإعداده إعدادًا يتناسب وعِظَم المسئولية الملقاة على عاتقه لضمان أمن الدولة وسلامتها، والعناية بسد حاجات المقاتلين (التفرغ لحوائجهم وثغورهم).

    ب-
    تجنب إبقاء المقاتلين لمدة طويلة في الثغور بعيدا عن عوائلهم، وتلافيا لما قد يسببه ذلك من ملل وقلق وهبوط في المعنويات، فمن الضروري منحهم إجازات معلومة في أوقات معلومة يستريحون فيها ويجددون نشاطهم خلالها من جهة، ويعودون إلى عوائلهم لكي لا ينقطع نسلهم من جهة ثانية (ولا تجمرهم في الثغور فينقطع نسلهم)، (وأوصيك بأهل الأمصار خيرا، فإنهم ردء العدو).

    ج-
    إعطاء كل مقاتل ما يستحقه من فيء وعطاء؛ وذلك لضمان مورد ثابت له ولعائلته يدفعه إلى الجهاد، ويصرف عنه التفكير في شئونه المالية (ولا تستأثر عليهم بالفيء فتغضبهم، ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها فتفقرهم).

    4- الناحية الاقتصادية والمالية، وتضمنت:


    أ-
    العناية بتوزيع الأموال بين الناس بالعدل والقسطاس المستقيم، وتلافي كل ما من شأنه تجميع الأموال عند طبقة منهم دون أخرى (ولا تجعل الأموال دولة بين الأغنياء منهم).

    ب-
    عدم تكليف أهل الذمة فوق طاقتهم إن هم أدوا ما عليهم من التزامات مالية للدولة (ولا تكلفهم فوق طاقتهم إذا أدوا ما عليهم للمؤمنين).

    ج-
    ضمان الحقوق المالية للناس وعدم التفريط بها، وتجنب فرض ما لا طاقة لهم به (ولا تحمل منهم إلا عن فضل منهم)، (أن تأخذ حواشي أموالهم فترد على فقرائهم). ([26])

    5- الناحية الاجتماعية، وتضمنت:


    أ-
    الاهتمام بالرعية، والعمل على تفقد أمورهم وسد احتياجاتهم وإعطاء حقوقهم من فيء وعطاء.. (ولا تحرمهم عطاياهم عند محلها).

    ب-
    اجتناب الأثَرَة والمحاباة واتباع الهوى؛ لما فيها من مخاطر تقود إلى انحراف الراعي، وتؤدي إلى فساد المجتمع واضطراب علاقاته الإنسانية (وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله)، (ولا تؤثر غنيهم على فقيرهم).

    ج-
    احترام الرعية وتوقيرها والتواضع لها، صغيرها وكبيرها، لما في ذلك من سمو في العلاقات الاجتماعية، تؤدي إلى زيادة تلاحم الرعية بقائدها وحبها له (وأناشدك الله إلا ترحمت على جماعة المسلمين، وأجللت كبيرهم ورحمت صغيرهم، ووقرت عالمهم).

    د-
    الانفتاح على الرعية، وذلك بسماع شكاواهم وإنصاف بعضهم من بعض، وبعكسه تضطرب العلاقات بينهم ويعم الارتباك في المجتمع (ولا تغلق بابك دونهم، فيأكل قويهم ضعيفهم).

    هـ-
    اتباع الحق والحرص على تحقيقه في المجتمع وفي كل الظروف والأحوال؛ لكونه ضرورة اجتماعية لا بد من تحقيقها بين الناس (ثم اركب الحق، وخض إليه الغمرات)، (واجعل الناس عندك سواء، لا تبالِ على مَنْ وجب الحق).

    و-
    اجتناب الظلم بكل صوره وأشكاله، خاصة مع أهل الذمة؛ لأن العدل مطلوب إقامته بين جميع رعايا الدولة مسلمين وذميين؛ لينعم الجميع بعدل الإسلام (وأوصيك ألا ترخص لنفسك ولا لغيرك في ظلم أهل الذمة).

    ز-
    الاهتمام بأهل البادية ورعايتهم والعناية بهم (وأوصيك بأهل البادية خيرا، فإنهم أصل العرب، ومادة الإسلام). ([27])

    ح-
    وكان من ضمن وصية عمر لمن بعده: ألا يقر لي عامل أكثر من سنة، وأقروا الأشعري أربع سنين.([28])

    ثالثـًا: منهج عبد الرحمن بن عوف في إدارة الشورى:


    1- اجتماع الرهط للمشاورة:


    لم يكد يفرغ الناس من دفن عمر بن الخطاب
    t حتى أسرع رهط الشورى وأعضاء مجلس الدولة الأعلى إلى الاجتماع في بيت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وقيل إنهم اجتمعوا في بيت فاطمة بنت قيس الفهرية أخت الضحاك بن قيس، ليقضوا في أعظم قضية عرضت في حياة المسلمين، بعد وفاة عمر، وقد تكلم القوم وبسطوا آراءهم واهتدوا بتوفيق الله إلى كلمة سواء رضيها الخاصة والكافة من المسلمين([29]).

    2- عبد الرحمن يدعو إلى التنازل:


    عندما اجتمع أهل الشورى قال لهم عبد الرحمن بن عوف: اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم، فقال الزبير: جعلت أمري إلى علي([30]), وقال طلحة: جعلت أمري إلى عثمان، وقال سعد: جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف، وأصبح المرشحون الثلاثة علي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، فقال عبد الرحمن: أيكما تبرأ من هذا الأمر فنجعله إليه والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه فأسكت الشيخان، فقال عبد الرحمن بن عوف: أفتجعلونه إليَّ والله على أن لا آلو عن أفضلكما، قالا: نعم.([31])


    3- تفويض ابن عوف بإدارة عملية الشورى:


    بدأ عبد الرحمن بن عوف
    t اتصالاته ومشاوراته فور انتهاء اجتماع المرشحين الستة صباح يوم الأحد، واستمرت مشاوراته واتصالاته ثلاثة أيام كاملة، حتى فجر يوم الأربعاء الرابع من محرم وهو موعد انتهاء المهلة التي حددها لهم عمر، وبدأ عبد الرحمن بعلي بن أبي طالب فقال له: إن لم أبايعك فأشر عليَّ، فمن ترشح للخلافة؟ قال علي: عثمان بن عفان، وذهب عبد الرحمن إلى عثمان وقال له: إن لم أبايعك، فمن ترشيح للخلافة؟ فقال عثمان: علي بن أبي طالب... وذهب ابن عوف بعد ذلك إلى الصحابة الآخرين واستشارهم، وكان يشاور كل من يلقاه في المدينة من كبار الصحابة وأشرافهم، ومن أمراء الأجناد، ومن يأتي للمدينة، وشملت مشاورته النساء في خدورهن، وقد أبدين رأيهن، كما شملت الصبيان والعبيد في المدينة، وكانت نتيجة مشاورات عبد الرحمن بن عوف أن معظم المسلمين كانوا يشيرون بعثمان بن عفان، ومنهم من كان يشير بعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وفي منتصف ليلة الأربعاء، ذهب عبد الرحمن بن عوف إلى بيت ابن أخته: المسور بن مخرمة، فطرق البيت، فوجد المسور نائما([32]), فضرب الباب حتى استيقظ فقال: أراك نائما فوالله ما اكتحلت هذه الليلة بكبير نوم، انطلق فادع الزبير وسعدا، فدعوتهما له، فشاورهما ثم دعاني فقال: ادع لي عليا فدعوته فناجاه حتى ابهارَّ([33]) الليل ثم قام علي من عنده... ثم قال: ادع لي عثمان فدعوته فناجاه حتى فرق بينهما المؤذن بالصبح.([34])

    4- الاتفاق على بيعة عثمان:


    وبعد صلاة صبح يوم البيعة (اليوم الأخير من شهر ذي الحجة 23هـ/ 6 نوفمبر 644م) وكان صهيب الرومي الإمام إذ أقبل عبد الرحمن بن عوف، وقد اعتم بالعمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, وكان قد اجتمع رجال الشورى عند المنبر، أرسل إلى من كان حاضرا من المهاجرين والأنصار وأمراء الأجناد منهم: معاوية أمير الشام، وعمير بن سعد أمير حمص، وعمرو بن العاص أمير مصر، وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر وصاحبوه

    إلى المدينة.([35])

    وجاء في رواية البخاري: فلما صلى للناس الصبح واجتمع أولئك الرهط عند المنبر فأرسل إلى كل حاضر من المهاجرين والأنصار، وأرسل إلى أمراء الأجناد وكانوا وافوا تلك الحجة مع عمر، فلما اجتمعوا تشهد عبد الرحمن ثم قال: أما بعد، يا علي إني قد نظرت في أمر الناس فلم أراهم يعدلون بعثمان، فلا تجعلن على نفسك سبيلا، فقال:([36]) أبايعك على سنة الله ورسوله والخليفتين من بعده، فبايعه عبد الرحمن وبايعه الناس المهاجرون والأنصار وأمراء الأجناد والمسلمون.([37]) وجاء في رواية صاحب (التمهيد والبيان) أن علي بن أبي طالب أول من بايع بعد عبد الرحمن بن عوف.([38])


    5- حكمة عبد الرحمن بن عوف في تنفيذ خطة الشورى:


    نفذ عبد الرحمن بن عوف خطة الشورى بما دل على شرف عقله، ونبل نفسه، وإيثاره مصلحة المسلمين العامة على مصلحته الخاصة ونفعه الفردي، وترك عن طواعية ورضا أعظم منصب يطمع إليه إنسان في الدنيا، ليجمع كلمة المسلمين، وحقق أول مظهر من مظاهر الشورى المنظمة في اختيار من يجلس على عرش الخلافة ويسوس أمور المسلمين، فهو قد اصطنع من الأناة والصبر والحزم وحسن التدبير ما كفل له النجاح في أداء مهمته العظمى، وقد كانت الخطوات التي اتخذها كالآتي:


    أ-
    بسط برنامجه في أول جلسة عقدها مجلس الشورى في دائرة الزمن الذي حده لهم عمر، وبذلك أمكنه أن يحمل جميع أعضاء مجلس الشورى على أن يدلوا برأيهم، فعرف مذهب كل واحد منهم ومرماه، فسار في طريقه على بينة من أمره.

    ب-
    وخلع نفسه وتنازل عن حقه في الخلافة ليدفع الظنون ويستمسك بعروة الثقة الوثقى.

    ج-
    أخذ في تعرف نهاية ما يصبو إليه كل واحد من أصحابه وشركائه في الشورى، فلم يزل يقلب وجوه الرأي معهم حتى انتهى إلى شبه انتخاب جزئي فاز فيه عثمان برأي سعد ابن أبي وقاص، ورأي الزبير بن العوام، فلاحت له أغلبية آراء الأعضاء الحاضرين معه.

    د-
    عمد إلى معرفة كل واحد من الإمامين: عثمان وعلي في صاحبه بالنسبة لوزنه من سائر الرهط الذي رشحهم عمر، فعرف من كل واحد منهم أنه لا يعدل صاحبه أحدا إلا فاته الأمر.

    هـ-
    أخذ في تعرف رأي مَنْ وراء مجلس الشورى من خاصة الأمة وذوي رأيها، ثم من عامتها وضعفائها، فرأى أن معظم الناس لا يعدلون أحدا بعثمان، فبايع له، وبايعه عامة الناس.([39])

    لقد تمكن عبد الرحمن بن عوف بكياسته وأمانته واستقامته ونسيانه نفسه بالتخلي عن الطمع في الخلافة والزهد بأعلى منصب في الدولة، أن يجتاز هذه المحنة وقاد ركب الشورى بمهارة وتجرد، مما يستحق أعظم التقدير([40]).


    قال الذهبي:
    ومن أفضل أعمال عبد الرحمن عزله نفسه من الأمر وقت الشورى، واختياره للأمة من أشار به أهل الحل والعقد، فنهض في ذلك أتم نهوض على جمع الأمة على عثمان, ولو كان محابيا فيها لأخذها لنفسه، أو لولاها ابن عمه وأقرب الجماعة إليه سعد بن أبي وقاص([41]).
    وبهذا تحققت صورة أخرى من صور الشورى في عهد الخلفاء الراشدين، وهي الاستخلاف عن طريق مجلس الشورى ليعينوا أحدهم بعد أخذ المشورة العامة، ثم البيعة العامة([42]).

    رابعًا: أباطيل رافضية دست في قصة الشورى:


    هناك أباطيل شيعية وأكاذيب رافضية دست في التاريخ الإسلامي، منها في قصة الشورى، وتولية عثمان الخلافة، وقد تلقفها المستشرقون وقاموا بتوسيع نشرها، وتأثر بها الكثير من المؤرخين والمفكرين المحدثين، ولم يمحصوا الروايات ويحققوا في سندها ومتنها فانتشرت بين المسلمين.

    لقد اهتم مؤرخو الشيعة الرافضة بقصة الشورى وتولية عثمان بن عفان الخلافة ودسوا فيها الأباطيل والأكاذيب، وألف جماعة منهم كتبا خاصة، فقد ألف أبو مخنف كتاب الشورى، وكذلك ابن عقدة وابن بابويه.([43]) ونقل ابن سعد تسع روايات من طريق الواقدي في خبر الشورى وبيعة عثمان وتاريخ توليه للخلافة([44])، ورواية من طريق عبيد الله بن موسى تضمنت مقتل عمر وحصره للشورى في الستة، ووصيته لكل من علي وعثمان إذا تولى أحدهما أمر الخلافة، ووصيته لصهيب في هذا الأمر.([45])

    وقد نقل البلاذري خبر الشورى وبيعة عثمان عن أبي مخنف([46]), وعن هشام الكلبي منها ما نقله عن أبي مخنف ومنها تفرد به([47])، وعن الواقدي([48]), وعن عبيد الله بن موسى([49])، واعتمد الطبري في هذه القصة على عدة روايات منها رواية أبي مخنف([50])، ونقل ابن أبي الحديد بعض أحداث قصة الشورى من طريق أحمد بن عبد العزيز الجوهري([51]), وأشار إلى نقله عن كتاب (الشورى) للواقدي([52]), وقد تضمنت الروايات الشيعية عدة أمور مدسوسة ليس لها دليل من الصحة، وهي:


    1- اتهام الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين:


    اتهمت الروايات الشيعية الصحابة بالمحاباة في أمر المسلمين، وعدم رضا علي بأن يقوم عبد الرحمن باختيار الخليفة، فقد ورد عند أبي مخنف وهشام الكلبي عن أبيه وأحمد الجوهري أن عمر جعل ترجيح الكفتين إذا تساوتا بعبد الرحمن بن عوف، وأن عليا أحس بأن الخلافة ذهبت منه لأن عبد الرحمن سيقدم عثمان للمصاهرة التي بينهما. ([53]) وقد نفى ابن تيمية أي ارتباط في النسب القريب بين عثمان وعبد الرحمن، فقال: فإن عبد الرحمن ليس أخا لعثمان ولا ابن عمه ولا من قبيلته أصلا، بل هذا من بني زهرة وهذا من بني أمية وبنو زهرة إلى بني هاشم أكثر ميلا منهم إلى بني أمية، فإن بني زهرة أخوال النبي صلى الله عليه وسلم ومنهم عبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي صلى الله عليه وسلم: «هذا خالي فليرني امرؤ خاله».([54]) فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يؤاخِ بين مهاجريٍّ ومهاجري، ولا بين أنصاري وأنصاري، وإنما آخى بين المهاجرين والأنصار؛ فآخى بين عبد الرحمن بن عوف وسعد بن الربيع الأنصاري([55])، وحديثه مشهور ثابت في الصحاح وغيرها، يعرفه أهل العلم بذلك.([56]) وقد بنت الروايات الشيعية محاباة عبد الرحمن لعثمان للمصاهرة التي كانت بينهما متناسية أن قوة النسب أقوى من المصاهرة من جهة، ومن جهة أخرى تناسوا طبيعة العلاقة بين المؤمنين في الجيل الأول، وأنها لا تقوم على نسب ولا مصاهرة، وأما كيفية المصاهرة التي كانت بين عبد الرحمن وعثمان فهي أن عبد الرحمن تزوج أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط أخت الوليد.([57])


    2- حزب أموي وحزب هاشمي:


    أشارت رواية أبي مخنف إلى وقوع مشادة بين بني هاشم وبني أمية أثناء المبايعة، وهذا غير صحيح، ولم يرد ذلك برواية صحيحة ولا ضعيفة.([58]) وقد انساق بعض المؤرخين خلف الروايات الشيعية الرافضية وبنوا تحليلاتهم الخاطئة على تلك الروايات، فصوروا تشاور أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في تحديد الخليفة الجديد بصورة الخلاف العشائري، وأن الناس قد انقسموا إلى حزبين حزب أموي وحزب هاشمي، وهو تصور موهوم واستنتاج مردود لا دليل عليه؛ إذ ليس نابعًا من ذلك الجو الذي كان يعيشه أصحاب رسول الله حينما كان يقف المهاجري مع الأنصاري ضد أبيه وأخيه وابن عمه وبني عشيرته، وليس نابعًا من تصور هؤلاء الصحب وهم يضحون بكل شيء من حطام الدنيا في سبيل أن يسلم لهم دينهم، ولا من المعرفة الصحيحة لهؤلاء النخبة من المبشرين بالجنة، فالأحداث الكثيرة التي رويت عن هؤلاء تثبت أن هؤلاء كانوا أكبر بكثير من أن ينطلقوا من هذه الزاوية الضيقة في

    معالجة أمورهم، فليست القضية قضية تمثيل عائلي أو عشائري، فهم أهل شورى لمكانتهم في الإسلام.

    3- أقوال نسبت زورًا وبهتانًا لعلي
    :

    قال ابن كثير: وما يذكره كثير من المؤرخين كابن جرير وغيره عن رجال لا يعرفون أن عليا قال لعبد الرحمن: خدعتني، وإنك إنما وليته لأنه صهرك وليشاورك كل يوم في شأنه، وأنه تلكأ حتى قال عبد الرحمن بن عوف: "إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا" [الفتح: 10].

    4- اتهام عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة:


    وقد ذكر أبو مخنف في روايته في قضية الشورى عن عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة أنهما جلسا عند الباب، ورد سعد عليهما، فهذا يستغرب من رعاع الناس فضلا عن الصحابة الكرام، وكيف يقول سعد لهما: تريدان أن تقولا: حضرنا وكنا من أهل الشورى وقد علم الناس أهل الشورى بأعيانهم واستفاض ذلك عندهم. وفي الحقيقة أن رواية أبي مخنف يناقض بعضها بعضا، وهي واضحة لمن تدبرها وقارنها بالأصول الصحيحة، وغرائبها أشهر من ذكرها. وقد أشار الدكتور يحيى اليحيى إلى نماذج وأمثلة تكفي لإسقاط هذه الرواية وعدم الاعتبار بها.([59]) هذه بعض الإشارات العابرة ذكرتها للتنبيه والتحذير من تلك السموم المبثوثة في تراثنا التاريخي، والموروث الثقافي للأمة، فقد أثرت في رجال الفكر والقلم والتاريخ.


    خامسًا: أحقية خلافة عثمان بن عفان
    :

    لا يشك مؤمن في أحقية خلافة عثمان
    t وصحتها، وأنه لا مطعن فيها لأحد إلا ممن أصيب قلبه بزيغ فنقم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبب ما حل في قلبه من الغيظ منهم، وهذا لم يحصل إلا من الشيعة الرافضة الذين جعلوا رأس مالهم في هذه الحياة الدنيا هو سب الصحابة -رضي الله عنهم- وبغضهم، ولا قيمة لما يوجهونه من المطاعن على خلافة الثلاثة -رضي الله عنهم- لظهور بطلانه، وأنها افتراءات لا تصح. وقد جاء في جملة من النصوص القطعية الصحيحة والآثار الشهيرة التنبيه والإيماء إلى أحقية خلافة عثمان بن عفان t، ومن ذلك([60]):

    1-
    قوله تعالى: "وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" [النور: 55]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان t أنه من الذين استخلفهم الله في الأرض، ومكن لهم فيها، وسار في الناس أيام خلافته سيرة حسنة؛ حيث حكم فيهم بالعدل وأقام الصلاة وآتى الزكاة وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، فهذه الآية تضمنت الإشارة إلى أحقيته t([61]).

    2-
    قوله تعالى: "قُل لِّلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الأعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِن تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِن تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُم مِّن قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا" [الفتح: 16]. وجه الاستدلال بهذه الآية على أحقية خلافة عثمان t هو أن الداعي لهؤلاء الأعراب داع يدعوهم بعد نبيه صلى الله عليه وسلم وهو أبو بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم؛ فأبو بكر دعاهم إلى قتال الروم والفرس والترك فوجبت طاعة هؤلاء الثلاثة -رضي الله عنهم- بنص القرآن، وإذا وجبت طاعتهم صحت خلافتهم([62]) رضي الله عنهم وأرضاهم.

    3-
    عن أبي موسى t قال: إن النبي صلى الله عليه وسلم دخل حائطا وأمرني بحفظ باب الحائط، فجاء رجل يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو أبو بكر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة، فإذا هو عمر، ثم جاء آخر يستأذن فقال: ائذن له وبشره بالجنة على بلوى تصيبه, فإذا هو عثمان بن عفان.([63]) هذا الحديث فيه إشارة إلى ترتيب الثلاثة في الخلافة، وإخبار عن بلوى تصيب عثمان، هذه البلوى حصلت له t وهي حصاره يوم الدار
    حتى قتل آنذاك مظلوما، فالحديث علم من أعلام النبوة، وفيه الإشارة إلى كونه
    شهيدا رضي الله عنه وأرضاه([64]).

    4-
    روى أبو داود -رحمه الله- بإسناده إلى جابر بن عبد الله أنه كان يحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «أُرِيَ الليلة رجلٌ صالح: أن أبا بكر نيط برسول الله صلى الله عليه وسلم، ونيط عمر بأبي بكر، ونيط عثمان بعمر»، قال جابر: فلما قمنا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: أما الرجل
    الصالح فرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأما تَنَوُّط بعضهم ببعض، فهم ولاة هذا الأمر الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم.([65])

    5-
    وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي هريرة t قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون فتنة واختلاف -أو اختلاف وفتنة- قال: قلنا: يا رسول الله، فما تأمرنا؟ قال: «عليكم بالأمين وأصحابه» وأشار إلى عثمان.([66]) وهذا الحديث فيه معجزة ظاهرة للنبي صلى الله عليه وسلم الدالة على صدق نبوته؛ حيث أخبر بالفتنة التي حصلت أيام خلافة عثمان وكانت كما أخبر، وتضمن الحديث التنبيه على أحقية خلافة عثمان؛ إذ أنه صلى الله عليه وسلم أرشد الناس إلى أن يلزموه، وأخبر بأنه حين وقوع الفتنة والاختلاف مع أمير المؤمنين ومقدمهم أمرهم بالالتفاف حوله وملازمته لكونه على الحق، والخارجون عليه على الباطل أهل زيغ وهوى، وقد شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بأنه سيكون مستمرا على الهدى لا ينفك عنه([67]).

    6-
    روى أبو عيسى الترمذي بإسناده إلى عائشة -رضي الله عنها- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يا عثمان، إنه لعل الله يقمِّصك قميصًا فإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم».([68]) ففي هذا الحديث الإشارة إلى الخلافة واستعارة القميص لها وذكر الخلع ترشيح؛ أي: سيجعلك الله خليفة، فإن قصد الناس عزلك فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم؛ لكونك على الحق وكونهم على الباطل.([69])

    7-
    وروى الترمذي بإسناده إلى أبي سهلة قال: قال لي عثمان يوم الدار: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد عهد إليَّ عهدا فأنا صابر عليه([70]). فقوله: قد عهد إليَّ عهدا، أي: أوصاني أن لا أخلع بقوله: «وإن أرادوك على خلعه فلا تخلعه لهم» فأنا صابر عليه، أي: على ذلك العهد([71]).

    8-
    وروى أبو عبد الله الحاكم بإسناده إلى أبي سهلة مولى عثمان عن عائشة -رضي الله عنها- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ادعوا لي أو ليت عندي رجلا من أصحابي»، قالت: قلت: أبو بكر، قال: «لا»، قلت: عمر، قال: «لا», قلت: ابن عمك علي، قال: «لا», قلت: فعثمان، قال: «نعم» قالت: فجاء عثمان، فقال: «قومي», قال: فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسر إلى عثمان ولون عثمان يتغير، قال: فلما كان يوم الدار قلنا: ألا تقاتل؟ قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إليَّ أمرا فأنا صابر نفسي عليه([72]).
    فهذا الحديث والذي قبله فيهما دلالة على صحة خلافته، فمن أنكر خلافته ولم يره من أهل الجنة والشهداء وأساء الأدب فيه باللسان أو الجنان فهو خارج عن دائرة الإيمان وحيز الإسلام([73]).

    9- ومما دل على صحة خلافته وإمامته ما رواه البخاري بإسناده عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: كنا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم لا نعدل بأبي بكر أحدا، ثم عمر، ثم عثمان، ثم نترك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لا نفاضل بينهم.([74]) وفي هذا إشارة إلى أن الله تعالى ألهمهم وألقى في روعهم ما كان صانعه بعد نبيه صلى الله عليه وسلم من أمر ترتيب الخلافة([75]).

    قال ابن تيمية: فهذا إخبار عما كان عليه الصحابة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من تفضيل أبي بكر، ثم عمر، ثم عثمان، وقد روى أن ذلك كان يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فلا ينكره، وحينئذ فيكون هذا التفضيل ثابتا بالنص وإلا فيكون ثابتا بما ظهر بين المهاجرين والأنصار على عهد النبي صلى الله عليه وسلم من غير نكير، وبما ظهر لما توفي عمر فإنهم كلهم بايعوا عثمان بن عفان من غير رغبة ولا رهبة ولم ينكر هذه الولاية منكر منهم([76]).
    وكل ما تقدم ذكره من النصوص في هذه الفقرة أدلة قوية كلها فيها الإشارة والتنبيه إلى أحقية خلافة عثمان t وأنه لا مرية في ذلك, ولا نزاع عند المتمسكين بالكتاب والسنة والذين هم أسعد الناس بالعمل بهما وهم أهل السنة والجماعة، فيجب على كل مسلم أن يعتقد أحقية عثمان t، وأن يسلم تسليما كاملا للنصوص الدالة على ذلك([77]).

    سادسًا: انعقاد الإجماع على خلافة عثمان:


    أجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا من جاء بعدهم ممن سلك سبيلهم من أهل السنة والجماعة على أن عثمان بن عفان
    t أحق الناس بخلافة النبوة بعد عمر بن الخطاب t، ولم يخالف أو يعارض في هذا أحد؛ بل الجميع سلم له بذلك لكونه أفضل خلق الله على الإطلاق بعد الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقد نقل الإجماع على أحقية عثمان t بالخلافة بعد عمر t طائفة من أهل العلم بالحديث وغيرهم، ومن تلك النقول([78]):

    1-
    ما رواه ابن أبي شيبة بإسناده إلى حارثة بن مضرب قال: حججت في إمارة عمر فلم يكونوا يشكون أن الخلافة من بعده لعثمان([79])

    2-
    وروى أبو نعيم الأصبهاني بإسناده إلى حذيفة t قال: إني لواقف مع عمر تمس ركبتي ركبته فقال: من ترى قومك يؤمرون؟ قال: إن الناس قد أسندوا أمرهم إلى
    ابن عفان([80]).

    3-
    ونقل الحافظ الذهبي عن شريك بن عبد الله القاضي أنه قال: قُبِضَ النبي صلى الله عليه وسلم فاستخلف المسلمون أبا بكر، فلو علموا أن فيهم أحدا أفضل منه كانوا قد غشوا، ثم استخلف أبو بكر عمرَ فقام بما قام به من الحق والعدل، فلما احتضر جعل الأمر شورى بين ستة، فاجتمعوا على عثمان، فلو علموا أن فيهم أفضل منه كانوا قد غشونا.([81])

    فهذه النقول فيها بيان واضح في أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتهر بينهم أولوية عثمان بالخلافة، وما زال عمر بن الخطاب
    t حيًّا لما سبق من علمهم ببعض النصوص المشيرة إلى أن ترتيبه سيكون في خلافة النبوة بعد الفاروق t، ولعلمهم أنه أفضل الناس على الإطلاق بعد أبي بكر وعمر رضي الله عنهم.([82])

    4-
    روى ابن سعد بإسناده إلى النزال بن سبرة t قال: قال عبد الله بن مسعود حين استخلف عثمان: استخلفنا خير من بقي ولم نأله (أي لم نقصر في اختيار الأفضل). وفي رواية أخرى قال: أمَّرنا خير من بقي ولم نألُ.([83])

    5-
    وقال الحسن بن محمد الزعفراني: سمعت الشافعي يقول: أجمع الناس على خلافة أبي بكر، واستخلف أبو بكر عمر، ثم جعل الشورى إلى ستة على أن يولوها واحدا فولوها عثمان رضي الله عنهم أجمعين.([84]) وقد نقل أبو حامد محمد المقدسي كلاما عزاه للإمام الشافعي أنه قال: واعلموا أن الإمام الحق بعد عمر t عثمان t بجعل أهل الشورى اختيار الإمامة إلى عبد الرحمن بن عوف واختياره لعثمان t، وإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وصوبوا رأيه فيما فعله، وأقام الناس على محجة الحق، وبسط العدل إلى أن استشهد t([85]).

    6-
    وذكر ابن تيمية عن الإمام أحمد أنه قال: لم يجتمعوا على بيعة أحد ما اجتمعوا على بيعة عثمان([86]).

    7-
    وقال أبو الحسن الأشعري: وثبتت إمامة عثمان t بعد عمر t بعقد من عقد له الإمامة من أصحاب الشورى الذين نص عليهم عمر، فاختاروه ورضوا بإمامته وأجمعوا على فضله وعدله([87]).

    8-
    وقال عثمان الصابوني مبينا عقيدة السلف وأصحاب الحديث في ترتيب الخلافة بعد أن ذكر أنهم يقولون أولاً بخلافة الصديق ثم عمر، قال: ثم خلافة عثمان t بإجماع أهل الشورى وإجماع الأصحاب كافة ورضاهم به، حتى جعل الأمر إليه([88]).

    9-
    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمة الله تعالى عليه وعلى جميع العلماء المصلحين-:
    وجميع المسلمين بايعوا عثمان بن عفان لم يتخلف عن بيعته أحد... فلما بايعه ذوو الشوكة والقدرة صار إماما، وإلا فلو قدر أن عبد الرحمن بايعه ولم يبايعه علي ولا غيره من الصحابة أهل الشوكة لم يصر إماما، ولكن عمر لما جعلها شورى في ستة: عثمان وعلي وطلحة والزبير وسعد وعبد الرحمن بن عوف، ثم إنه خرج طلحة والزبير وسعد باختيارهم، وبقي عثمان وعلي وعبد الرحمن لا يتولى ويولي أحد الرجلين، وأقام عبد الرحمن ثلاثا حلف أنه لم يغمض فيها بكبير نوم يشاور السابقين الأولين والتابعين لهم بإحسان يشاور أمراء الأجناد، وكانوا قد حجوا مع عمر ذلك العام، فأشار عليه المسلمون بولاية عثمان، وذكر أنهم كلهم قدموا عثمان فبايعوه لا عن رغبة أعطاهم إياها ولا عن رهبة أخافهم بها، ولهذا قال غير واحد من السلف والأئمة كأيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني وغيرهم: من قدم عليا على عثمان فقد ازدرى بالمهاجرين والأنصار، وهذا من الأدلة على أن عثمان أفضل؛ لأنهم قدموه باختيارهم واشتوارهم.([89])


    10-
    وقال الحافظ ابن كثير -رحمه الله تعالى- حاكيا إجماع الصحابة على خلافة عثمان t: ويروى أن أهل الشورى جعلوا الأمر إلى عبد الرحمن ليجتهد للمسلمين في أفضلهم ليوليه، فيذكر أنه سأل من يمكنه سؤاله من أهل الشورى، وغيرهم فلا يشير إلا بعثمان بن عفان حتى إنه قال لعلي: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به عليَّ؟ قال: بعثمان، وقال لعثمان: أرأيت إن لم أولِّك بمن تشير به؟ قال: بعلي بن أبي طالب. والظاهر أن هذا كان قبل أن ينحصر الأمر في ثلاثة، وينخلع عبد الرحمن منها لينظر الأفضل، والله عليه والإسلام ليجتهد في أفضل الرجلين فيوليه، ثم نهض عبد الرحمن بن عوف t يستشير الناس فيهما ويجمع رأي المسلمين برأي رؤوس الناس وأقيادهم جميعا وأشتاتا، مثنى وفرادى، ومجتمعين سرًّا وجهرًا, حتى خلص إلى النساء المخدرات في حجابهن، وحتى سأل الولدان في المكاتب، وحتى سأل من يَرِد من الركبان والأعراب إلى المدينة في مدة ثلاثة أيام بلياليها، لا يغتمض بكثير نوم إلا في صلاة ودعاء واستخارة وسؤال من ذوي الرأي عنهم، فلم يجد أحدا يعدل بعثمان بن عفان t، فلما كانت الليلة التي يسفر صاحبها عن اليوم الرابع من موت عمر بن الخطاب جاء إلى منزل ابن أخته المسور بن مخرمة وأمره أن ينادي له عليا وعثمان -رضي الله عنهما- فناداهما فحضرا إلى عبد الرحمن فأخبرهما أنه سأل الناس فلم يجد أحدا يعدل بهما أحدا، ثم أخذ العهد على كل منهما أيضا لئن ولاه ليعدلن ولئن وُلي عليه ليسمعن وليطيعن، ثم خرج إلى المسجد وقد لبس عبد الرحمن العمامة التي عممه بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقلد سيفا، وبعث إلى وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ونودي في الناس عامة الصلاة جامعة، فامتلأ المسجد بالناس حتى غصَّ بالناس، وتراصَّ الناس وتراصوا حتى لم يبق لعثمان موضع يجلس فيه إلا في أخريات الناس، وكان رجلا حييًّا t، ثم صعد عبد الرحمن بن عوف منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقف وقوفا طويلا ودعا دعاء طويلا لم يسمعه الناس، ثم تكلم فقال: أيها الناس، إني سألتكم سرًّا وجهرًا عن إمامكم فلم أجدكم تعدلون بأحد هذين الرجلين إما علي وإما عثمان، فقم إليَّ يا علي، فقام إليه فوقف تحت المنبر فأخذ عبد الرحمن بيده فقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم لا، ولكن على جهدي من ذلك وطاقتي، قال: فأرسل يده، وقال: قم إليَّ يا عثمان، فأخذ بيده وقال: هل أنت مبايعي على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفعل أبي بكر وعمر؟ قال: اللهم نعم، قال: فرفع رأسه إلى سقف المسجد ويده في يد عثمان، وقال: اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم اسمع واشهد، اللهم إني قد جعلت ما في رقبتي من ذلك في رقبة عثمان، وقال: وازدحم الناس يبايعون عثمان حتى غشوه تحت المنبر، قال: فقعد عبد الرحمن مقعد النبي صلى الله عليه وسلم وأجلس عثمان تحته على الدرجة الثانية، وجاء إليه الناس يبايعونه، وبايعه علي بن أبي طالب أولاً، ويقال ثانيًا.([90])

    فهذه النقول المتقدم ذكرها للإجماع عن هؤلاء الأئمة كلها تفيد إفادة قطعية أن البيعة بالخلافة تمت لعثمان
    t بإجماع الصحابة -رضوان الله عليهم أجمعين- ولم يخالف أو يعارض في ذلك أحد.([91])

    سابعًا: حكم تقديم عليّ على عثمان رضي الله عنهما:


    الذي عليه أهل السنة أن مَنْ قدَّم عليا على أبي بكر وعمر فإنه ضال مبتدع، ومن قدم عليا على عثمان فإنه مخطئ ولا يضللونه ولا يبدعونه.([92]) وإن كان بعض أهل العلم قد تكلم بشدة على من قدم عليا على عثمان بأنه قال: من قدم عليا على عثمان فقد زعم أن أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم خانوا الأمانة؛ حيث اختاروا عثمان على عليّ رضي الله تبارك وتعالى عنهما([93]).


    وقال ابن تيمية: استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة مسألة عثمان وعلي ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضل المخالف فيها هي مسألة الخلافة، وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله.([94])

    وذكر أقوال أهل العلم في مسألة تفضيل عليّ على عثمان، فقال: فيها روايتان:

    إحداهما:
    لا يسوغ ذلك، فمن فضل عليا على عثمان خرج من السنة إلى البدعة، لمخالفته لإجماع الصحابة، ولهذا قيل: من قدَّم عليا على عثمان فقد أزرى بالمهاجرين والأنصار، يروى ذلك عن غير واحد، منهم أيوب السختياني وأحمد بن حنبل والدارقطني.

    والثانية:
    لا يُبَدَّع من قدَّم عليا؛ لتقارب حال عثمان وعلي.([95])




    ([1]) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص161.

    ([2]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص122.

    ([3]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص124.

    ([4]) البداية والنهاية (4/142).

    ([5]) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص98.

    ([6]) الخلافة والخلفاء الراشدون للبهنساوي، ص213.

    ([7]) أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، ص648.

    ([8]) الطبقات لابن سعد (3/364).

    (7) المرجع السابق (3/342).

    ([10]) مسلم (3/1480).

    ([11]،3) تاريخ الطبري (5/226).



    ([13]) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، د. يحيى اليحيى، ص175.

    ([14]) الطبقات لابن سعد، (2/342).

    ([15]) مرويات أبي مخنف في تاريخ الطبري، ص176. (7) تاريخ الطبري (5/325).



    ([17]،2) تاريخ الطبري (5/225).



    ([19]،4، 5) المدينة النبوية.. فجر الإسلام والعصر الراشدي (2/97).





    ([22]) نظام الحكم في الشريعة والتاريخ الإسلامي، ظافر القاسمي (1/227، 228).

    ([23]) المصدر نفسه (1/229).

    ([24]) أوليات الفاروق، د. غالب عبد الكافي القرشي، ص127.

    ([25]) الطبقات لابن سعد (3/339), البيان والتبيين للجاحظ (2/46), الكامل في التاريخ (2/210), الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص171، 172.

    ([26]) الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب للعاني، ص174، 175.

    ([27]) الخليفة الفاروق للعاني، ص173- 175.

    ([28]) عصر الخلافة الراشدة، ص102.

    ([29]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص62، 63.

    ([30], 3) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700)

    ([31]) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم: (3700).

    ([32]) الخلفاء الراشدون للخالدي، ص106، 107.

    ([33]) ابهار: أي انتصف.

    ([34]) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).

    ([35]) شهيد الدار عثمان بن عفان، أحمد الخروف، ص37.

    ([36]) قوله: "فقال" أي عبد الرحمن مخاطبا عثمان.

    ([37]) البخاري، كتاب الأحكام، رقم: (7207).

    ([38]) التمهيد والبيان، ص26.

    ([39]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص70، 71.

    ([40]) مجلة البحوث الإسلامية، العدد (10)، ص225.

    ([41]) سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، (1/86).

    ([42]) دراسات في عهد النبوة والخلافة الراشدة، ص278.

    ([43]) الذريعة إلى تصانيف الشيعة (14/246).

    ([44]) الطبقات الكبرى لابن سعد (3/63) (3/67)، .

    ([45]) المصدر السابق، (3/340).

    ([46]، 6،7) أنساب الأشراف، البلاذري (5/18، 19).





    ([49]) المصدر السابق، (5/6).

    ([50]) أثر التشيع على الروايات التاريخية، د. عبد العزيز نور، ص321، وهو العمدة في هذه الفقرة.

    ([51]) شرح نهج البلاغة، (9/49، 50- 58).

    ([52]) المصدر السابق (9/15)

    ([53]) أثر التشيع على الروايات التاريخية، ص322.

    ([54]) صحيح سنن الترمذي (3/220)، رقم (4018).

    ([55]) البخاري، كتاب مناقب الأنصار، رقم (3780).

    ([56]) منهاج السنة النبوية لابن تيمية، (6/271، 272).

    ([57]) الطبقات الكبرى، (3/127).

    ([58]) الخلفاء الراشدون, أمين القضاة، ص78، 79.

    ([59]) مرويات أبي مخنف، ص179.

    ([60], 2) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/656).

    ([61]) عقيدة أهل السنة في الصحابة، (2/656).

    ([62]) الفصل في الملل والأهواء والنحل، (4/109، 110).

    ([63]) البخاري، رقم (3695).

    ([64]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/657).

    ([65]) سنن أبي داود (2/513).

    ([66]) المستدرك (3/99) ثم قال: حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

    ([67]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة، (2/660).

    ([68]) فضائل الصحابة (1/613) إسناده صحيح.

    ([69]) الدين الخالص، محمد صديق حسن القنوجي, البخاري (3/446).

    ([70]) فضائل الصحابة (1/605) إسناد صحيح، الترمذي (5/295).

    ([71]) تحفة الأحوذي، محمد عبد الرحمن المباركفوري (10/209).

    ([72]) فضائل الصحابة (1/605) إسناده صحيح، المستدرك (3/99) حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.

    ([73]) الدين الخالص (3/446).

    ([74]) البخاري، كتاب فضائل أصحاب النبي، رقم (3698).

    ([75]) عقيدة أهل السنة (2/664).

    ([76]) منهاج السنة النبوية لابن تيمية (3/165).

    ([77]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض حسن الشيخ (2/664).

    ([78]) المصدر نفسه (2/665).

    ([79]) المصنف (14/588).

    ([80]) كتاب الإمامة والرد على الرافضة، ص306.

    ([81]) ميزان الاعتدال في نقد الرجال، محمد بن عثمان الذهبي (2/273).

    ([82]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن على عايض (2/666).

    ([83]) الطبقات الكبرى (3/63).

    ([84]) مناقب الشافعي للبيهقي (1/434، 435).

    ([85]) الرد على الرافضة، ص319، 320.

    ([86]) منهاج السنة (3/166), السنة للخلال، ص320.

    ([87]) الإبانة عن أصول الديانة، ص68.

    ([88]) عقيدة السلف وأصحاب الحديث ضمن الرسالة المنبرية (1/139).

    ([89]) منهاج السنة (1/134).

    ([90]) البداية والنهاية (7/159- 161).

    ([91]) عقيدة أهل السنة والجماعة في الصحابة الكرام، د. ناصر بن علي عايض (2/671).

    ([92]) مجموع الفتاوى (3/101، 102).

    ([93]) حقبة من التاريخ، عثمان الخميس، ص66.

    ([94]) مجموعة الفتاوى (3/101، 102).

    ([95]) المصدر نفسه (4/267).







  7. #7
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الثاني منهج عثمان بن عفان في الحكم

    عندما بويع عثمان t بالخلافة قام في الناس خطيبا فأعلن عن منهجه السياسي، مبينا أنه سيتقيد بالكتاب والسنة وسيرة الشيخين، كما أشار في خطبته إلى أنه سيسوس الناس بالحلم والحكمة إلا فيما استوجبوه من الحدود، ثم حذرهم من الركون إلى الدنيا والافتتان بحطامها؛ خوفا من التنافس والتباغض والتحاسد بينهم، مما يفضي بالأمة إلى الفرقة والخلاف. وكان عثمان t ينظر وراء الحجب ببصيرته النفاذة إلى ما سيحدث في هذه الأمة من الفتن بسبب الأهواء وتهالك الناس بعدما بويع([1]) فقال:
    (أما بعد، فإني كلفت وقد قبلت، ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم، وسن أهل الخير فيما تسنوا عن ملأ، والكف عنكم إلا فيما استوجبتم العقوبة. وإن الدنيا خضرة وقد شهيت إلى الناس ومال إليها كثير منهم، فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها ليست بثقة، واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها) ([2]).

    وأما قول بعض الناس بأن عثمان لما خطب أول خطبة ارتج عليه فلم يدر ما يقول حتى قال: أيها الناس، إن أول مركب صعب وإن أعش فستأتيكم الخطبة على وجهها، فهو شيء يذكره صاحب العقد([3]), وغيره من يذكر طرف الفوائد، وأن إسناده غير صحيح([4]).


    أولاً: كُتُب عثمان إلى عماله وولاته وأمراء الجند وعامة الناس:


    أقر عثمان
    عمال عمر، فلم يعزل منهم أحدا عاما كاملا أخذا بوصية عمر t، والناظر في الكتب التي بعث بها إلى الولاة وعمال المال وأمراء الأجناد يقف على النهج الذي أراد السير عليه وأخذ الأمة به([5]).

    1- أول كتاب كتبه عثمان إلى جميع ولاته:


    أما بعد، فإن الله أمر الأئمة أن يكونوا رعاة، ولم يتقدم إليهم أن يكونوا جباة، وإن صدر هذه الأمة خلقوا رعاة، لم يخلقوا جباة، وليوشكن أئمتكم أن يصيروا جباة ولا يكونوا رعاة، فإذا عادوا كذلك انقطع الحياء والأمانة والوفاء، ألا وإن أعدل السيرة أن تنظروا في أمور المسلمين فيما عليهم فتعطوهم ما لهم، وتأخذوهم بما عليهم، ثم تثنوا بالذمة فتعطوهم الذي لهم وتأخذوهم بالذي عليهم، ثم العدو الذي تنتابون، فاستفتحوا عليهم بالوفاء([6]).


    والملاحظ أن عثمان
    t أكد في هذا الكتاب الموجه إلى ولاته في الأمصار واجبهم نحو الرعية، وعرفهم أن مهمتهم ليست هي جمع المال، وإنما تتمثل في رعاية مصالح الناس، ولأجل ذلك بيَّن السياسة التي يسوسون بها الأمة، وهي أخذ الناس بما عليهم من الواجبات وإعطاؤهم حقوقهم، فإذا كانوا كذلك صلحت الأمة، وإذا انقلبوا جباة ليس همهم إلا جمع المال انقطع الحياء وفقدت الأمانة والوفاء.([7]) لقد كان في كتاب عثمان للولاة التركيز على قيم العدل السياسي والاجتماعي والاقتصادي، بإعطاء ذوي الحقوق حقوقهم وأخذ ما عليهم، وإعلاء شأن مبدأ الرعاية السياسية لا الجباية وتكثير الأموال([8]).
    ونبه على ما سيكون عند تغير الولاة من رعاة إلى جباة؛ بأن ذلك سبب في تقلص مكارم الأخلاق التي مثل لها بالحياء والأمانة والوفاء، وذلك أن بين الراعي والرعية خيطا ساميا من العلاقات المتينة، ويؤكده ويثبته اتفاق الجميع على هدف واحد، وهو ابتغاء وجه الله تعالى، فالوالي يسعى لهذا الهدف بما يقدمه لإمامه من طاعة وولاء وأمانة ووفاء، ويبقى خلق الحياء الذي أشار إليه عثمان يُظلُّ الجميع فيمنعهم من ارتكاب ما يستقبح أو التعرض لجرح المشاعر والإيقاع في الحرج، ثم يوصي عثمان ولاته بالعدل في الرعية؛ وذلك بأخذ ما عليهم من الحقوق وبذل ما لهم من ذلك، ويشير إلى نقطة مهمة وهي أن الوفاء بالعهود من أهم أسباب الفتح والنصر على الأعداء، وقد بين التاريخ أثر هذا الخلق الرفيع في تفوق المسلمين الإداري والحربي([9]).

    2- كتابه إلى قادة الجنود:


    وكان أول كتاب كتبه إلى قادة الأجناد في الفروج([10]): أما بعد، فإنكم حماة المسلمين وذادتهم، وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا، بل كان على ملأ منا، ولا يبلغني عن أحد منكم تغيير ولا تبديل فيغير الله بكم، ويستبدل بكم غيركم، فانظروا كيف تكونون؛ فإني أنظر فيما ألزمني الله النظر فيه والقيام عليه([11]).

    وفي هذا الكتاب لفت النظر إلى أن الأمور لن تتغير بتغير الخليفة؛ لأن الخلفاء ومن دونهم من الولاة يسيرون على خط واحد، وهو القيام بمهمة تطبيق الإسلام في واقع الحياة، وقوله: (وقد وضع لكم عمر ما لم يغب عنا بل كان على ملأ منا)، إشارة إلى أن حكم أولئك الخلفاء يقوم على الشورى، وذلك يترتب عليه أن جميع القضايا المهمة تكون معلومة بتفاصيلها عند أهل الحل والعقد، فإذا ذهب الحاكم وخلفه حاكم آخر سار على نفس المنهج؛ لوضوح الهدف لدى الجميع. وقوله: (ولا تغيروا فيغير الله بكم) وعي لسنن الله تعالى في هذا الكون، فمعية الله -جل وعلا- لأوليائه بالتوفيق والحماية والنصر مشروطة بلزومهم شريعته واستسلامهم لأمره، فإذا تغيروا في ذلك غيَّر الله ما بهم واستبدل بهم غيرهم في الهيمنة والتمكين([12])، وفي ذلك يقول الله تعالى: "لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ" [الرعد: 11] وذكرهم بأنه على علم بواجبه يؤديه ويقوم عليه ليتلاقى عمل الرعية وعمل الراعي في الشعور بالواجب والقيام به، ويشعر كل فرد أنه يعمل لأمته كما يعمل لنفسه([13]).

    3- كتابه إلى عمال الخراج:


    وكان أول كتاب كتبه إلى عمال الخراج:

    أما بعد، فإن الله خلق بالحق فلا يقبل إلا الحق، خذوا الحق وأعطوا الحق به، والأمانة الأمانة، قوموا عليها، ولا تكونوا أول من يسلبها فتكونوا شركاء من بعدكم إلى ما اكتسبتم، والوفاء الوفاء، لا تظلموا اليتيم ولا المعاهد؛ فإن الله خصم لمن ظلمهم([14]).
    خص في هذا الكتاب وزراء المال الذين يجبونه من أفراد الأمة لينفق في مصالحها العامة، فبيَّن لهم أن الله لا يقبل إلا الحق، والحق قائم على الأمانة والوفاء، ثم ميز صنفين من الرعية هما ضعيفاها؛ اليتيم والمعاهد، فحض على التجافي عن ظلمهما؛ لأن الله هو المتولي حمايتهما.([15]) ويذكرهم بأنهم إذا ظلموهم فإنهم معرضون لنقمة الله تعالى؛ لأنه خصم لمن ظلم هؤلاء المستضعفين. وفي هذا لفتة إلى جانب من جوانب عظمة الإسلام؛ حيث يدعو إلى نصر المظلومين وإن كانوا من الكفار المعاهدين([16]).

    4- كتابه إلى العامة:


    أما بعد، فإنكم إنما بلغتم بالاقتداء والاتباع فلا تلفتنكم الدنيا عن أمركم، فإن أمر هذه الأمة صائر إلى الابتداع بعد اجتماع ثلاث فيكم: تكامل النعم، وبلوغ أولادكم من السبايا، وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الكفر في العجمة، فإذا استعجم عليهم أمر تكلفوا وابتدعوا».([17])

    وفي هذا الخطاب نلاحظ أن عثمان t رغب عامة الأمة في الاتباع وترك التكلف والابتداع، وأنه حذرهم تغير الحال إذا اجتمعت لهم ثلاث خلال: تكامل النعم الذي يبطر النفوس ويدفعها إلى الترف، ويصدها عن الاجتهاد والعمل، ويصرفها إلى الفراغ والكسل، حتى تفتر حيويتها وتخور عزائمها. وبلوغ أولادها من السبابا، وقد لمست الأمة في تاريخها أثر هؤلاء في المجتمع الإسلامي من الوجهة السياسية والاجتماعية والدينية. وقراءة الأعراب والأعاجم القرآن، وإنما يريد عثمان بذلك ما في طبائع الأعراب من جفوة وغلظ الأكباد، فلا تبلغ هداية القرآن مكان الخير من أفئدتهم، وكذلك يريد ما في الأعاجم من أخلاق موروثة وعقائد متأصلة، وعادات قديمة تباعد بينهم وبين سنن القرآن في الهداية، وقد ظهر أثر الأعراب في فرقة الخوارج الذين كانت كثرتهم من أولئك الجفاة؛ فهم كانوا أقرأ الناس للقرآن وأبعدهم عن هدايته، ثم ظهر فيمن عداهم أثر الأعاجم فيما ابتدعوه من مذاهب وتكلفوه من آراء كانت شرًّا على المسلمين في عقائدهم، ومنهم أكثر الفرق الضالة التي لعبت في تاريخ الإسلام أخطر دور.([18])

    ثانيًا: المرجعية العليا للدولة:


    أعلن ذو النورين أن مرجعيته لدولته كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء بالشيخين في هديهم، فقد قال: «... ألا وإني متبع ولست بمبتدع، ألا وإن لكم عليَّ بعد كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثا: اتباع من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم....». ([19])


    1-
    فالمصدر الأول هو كتاب الله، : "إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا" [النساء: 105]. فكتاب الله تعالى يشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تتعلق بشئون الحياة، كما يتضمن مبادئ أساسية وأحكاما قاطعة لإصلاح كل شعبة من شعب الحياة، كما بين القرآن الكريم للمسلمين كل ما يحتاجون إليه من أسس تقوم عليها دولتهم.

    2-
    المصدر الثاني: السنة المطهرة التي يستمد منها الدستور الإسلامي أصوله، ومن خلالها يمكن معرفة الصيغ التنفيذية والتطبيقية لأحكام القرآن([20]).

    3-
    الاقتداء بالشيخين: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقتدوا بالذين من بعدي: أبي بكر وعمر».([21])
    إن دولة ذي النورين خضعت للشريعة وأصبحت سيادة الشريعة الإسلامية فيها فوق كل تشريع وفوق كل قانون، وأعطت لنا صورة مضيئة مشرقة على أن الدولة الإسلامية دولة شريعة، خاضعة بكل أجهزتها لأحكام هذه الشريعة، والحاكم فيها مقيد بأحكامها لا يتقدم ولا يتأخر عنها.([22]) ففي دولة ذي النورين وفي مجتمع الصحابة الشريعة فوق الجميع، يخضع لها الحاكم والمحكوم، وطاعة الخليفة مقيدة بطاعته لله، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا طاعة في المعصية، إنما الطاعة في المعروف».([23]) وهيمنة الشريعة على الدولة من خصائص الخلافة الراشدة، فحكومة الخلافة الراشدة تتميز عن الحكومات الأخرى بعدة خصائص، منها:
    * أن اختصاص الحكومة (الخليفة) عامة؛ أي تقوم على التكامل بين الشئون الدنيوية والدينية.
    * أن حكومة الخلافة ملزمة بتنفيذ أحكام الشريعة.
    * أن الخلافة تقوم على وحدة العالم الإسلامي.([24])

    ثالثـًا: حق الأمة في محاكمة الخليفة:


    الأمر الذي لا شك فيه أن سلطة الخليفة ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بقيدين:


    1-
    ألا يخالف نصًّا صريحًا ورد في القرآن الكريم والسنة، وأن يكون الإجراء الذي يتخذه متفقا -فضلا عن ذلك- مع روح الشريعة ومقاصدها.

    2-
    ألا يخالف ما اتفقت عليه الأمة الإسلامية أو يخرج على إرادتها.
    وأساس ذلك أن الخليفة نائب عن الأمة، منها يستمد سلطانه، ويرجع إليها في تحديد هذا السلطان ومداه، فالأمة تستطيع في كل وقت أن توسع من هذا السلطان، وأن تضيق منه أو تقيده بقيود كلما رأت في ذلك مصلحة أو ضمانا لحسن القيام على أمر الله ومصلحة الأمة.([25]) ويكون ذلك من خلال مجلس شورى الأمة. وقد أكد عثمان t حق الأمة في محاسبة الخليفة في قوله: إن وجدتم في كتاب الله أن تضعوا رجلي في القيد فضعوا رجلي في القيد.([26]) وحينما أخذت طائفة عليه بعض أخطاء -في زعمها- في تصريفه لشئون الحكم وإسناد وظائفه، وتظاهرت عليه جموع منهم لمحاسبته على أعماله، فأذعن -رضوان الله عليه- لرغبتهم، ولم ينكر عليهم هذا الحق، وأبدى استعدادا كريما لإصلاح ما عسى أن يكون أخطأه التوفيق في إبرامه([27]).

    رابعًا: الشورى:


    إن من قواعد الدولة الإسلامية حتمية تشاور قادة الدولة وحكامها مع المسلمين والنزول على رضاهم ورأيهم، وإمضاء نظام الحكم بالشورى، : "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" [آل عمران: 159].


    و: "وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" [الشورى: 38]. وقد اتخذ عثمان
    t في دولته مجلسا للشورى يتألف من كبار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار.([28]) وقد طلب عثمان t من العمال والقادة قائلا: أما بعد، فقوموا على ما فارقتم عليه عمر ولا تبدلوا، ومهما أشكل عليكم فردوه إلينا نجمع عليه الأمة ثم نرده عليكم.([29]) فأخذ قادته بذلك، فكانوا إذا هموا بالغزو والتقدم في الفتوحات الإسلامية استأذنوه واستشاروه، فيقوم هو بدوره بجمع الصحابة واستشارتهم للإعداد والإقرار والتنفيذ ووضع الخطط المناسبة لذلك، ومن ثم يأذن([30]) لهم؛ فقد قام عبد الله بن أبي السرح بالكتابة إلى الخليفة عثمان t طالبا منه أن يأذن له بأن يغزو أطراف إفريقية، وذلك لقرب جزر الروم من المسلمين، فأجابه الخليفة عثمان إلى ذلك بعد المشورة وندب إليه الناس.([31]) كما أن معاوية بن أبي سفيان حين أراد فتح جزيرة قبرص ورودس فعل الشيء نفسه في استشارة القيادة العليا المركزية، وطلب الإذن بالسماح له، ولم يأته الجواب إلا بعد انعقاد مجلس الشورى وبحثه في الموضوع، ومن ثم السماح له.([32]) وكان قادة الخليفة عثمان t في إدارتهم للمعارك الحربية يتشاورون فيما بينهم؛([33]) كما شاور عثمان كبار الصحابة في جمع القرآن، وفي قتل عبيد الله بن عمر للهرمزان، وحول التدابير الكفيلة بقطع دابر الفتنة، وفي مقام القضاء، وغير ذلك من المواقف والأحداث التي سيأتي بيانها في محلها بإذن الله.

    خامسًا: العدل والمساواة:


    إن من أهداف الحكم الإسلامي الحرص على إقامة قواعد النظام الإسلامي التي تساهم في إقامة المجتمع المسلم،ومن أهم هذه القواعد العدل والمساواة؛ فقد كتب ذو النورين إلى الناس في الأمصار: أن ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، ولا يذل المؤمن نفسه، فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن شاء الله.([34]) فقد كانت سياسته تقوم على العدل بأسمى صوره؛ فقد أقام الحد على والي الكوفة الوليد بن عقبة (أخوه لأمه) عندما شهد عليه الشهود بأنه شرب الخمر، وعزله عن الولاية بسبب ذلك، وسيأتي تفصيل هذه القضية بإذن الله. وقبوله بتولية أبي موسى الأشعري مكانه؛ لأن أهل الكوفة لم يوافقوا على تولية سعيد بن العاص خلفا للوليد. وقد روي عنه أيضا أنه غضب على خادم له يوما فعرك أذنه حتى أوجعه، ولم يستطع أن ينام ليلته آنذاك إلا بعد أن دعا خادمه إلى مضجعه وأمره أن يقتص منه فيعرك أذنه، وقد أبى الخادم في بادئ الأمر، ولكن عثمان أمره ثانية في

    حزم فأطاعه([35]).

    سادسًا: الحريات:


    مبدأ الحرية من المبادئ الأساسية التي قام عليها الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، ويقضي هذا المبدأ بتأمين وكفالة الحرية العامة للناس كافة ضمن حدود الشريعة الإسلامية وبما لا يتناقض معها، فقد كانت دعوة الإسلام لحرية الناس -جميع الناس- دعوة واسعة وعريضة قلما تشتمل على مثلها دعوة في التاريخ، وفي عهد الخلفاء الراشدين كانت الحريات العامة المعروفة في أيامنا معلومة ومصونة([36])؛ كحرية العقيدة الدينية، وحرية التنقل، وحق الأمن، وحرمة المسكن، وحرية الملكية، وحرية الرأي.


    سابعًا: الاحتساب:


    اهتم أمير المؤمنين عثمان
    بالاحتساب بنفسه كما أسنده إلى غيره، فقد ثبت قيامه t بالاحتساب في مجالات عدة، منها:

    1- إنكاره على لبس الثوب المعصفر:

    ومن احتسابه أنه أنكر على محمد بن جعفر بن أبي طالب لبسه الثوب المعصفر، فعن أبي هريرة قال: راح عثمان إلى مكة حاجا، ودخلت على محمد بن جعفر بن أبي طالب امرأته، فبات معها حتى أصبح, غدا عليه ردع([37]) الطيب وملحفة معصفرة مفدمة([38])، فأدرك الناس بملل([39])، قبل أن يروحوا، فلما رآه عثمان t انتهر وأفف وقال: «أتلبس المعصفر وقد نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟!».([40])

    2- إنكاره على قاصدات العمرة والحج وهن في العدة:

    ومن احتسابه t أنه كان يرد النساء اللواتي كن يخرجن للعمرة أو الحج وهن في العدة؛ فقد روى الإمام عبد الرزاق عن مجاهد قال: كان عمر وعثمان -رضي الله عنهما- يرجعان حواج ومعتمرات من الجحفة وذي الحليفة([41]).

    3- أمره بذبح الحمام:

    ومن احتسابه أنه منع الناس من الانشغال في طيران الحمام([42]), لما بدأوا فيه مع سعة العيش، وأمرهم بذبحه؛ فقد روى الإمام البخاري عن الحسن قال: سمعت عثمان t يأمر في خطبته بقتل الكلاب وذبح الحمام([43]).

    4- احتسابه على اللعب بالنرد:

    كان عثمان t ينهى عن اللعب بالنرد وأمرهم بتحريقه أو كسره ممن كان في بيته؛ فقد روى الإمام البيهقي عن زبيد بن الصلت أنه سمع عثمان بن عفان t وهو على المنبر يقول: يا أيها الناس، إياكم والميسر -يريد النرد- فإنها قد ذكرت لي أنها في بيوت الناس منكم، فمن كان في بيته فليحرقها أو فليكسرها. وقال عثمان t مرة أخرى وهو على المنبر: يا أيها الناس، إني قد كلمتكم في هذا النرد، ولم أركم أخرجتموها، فلقد هممت أن آمر بحزم الحطب، ثم أرسل إلى بيوت الذين هم في بيوتهم فأحرقها عليهم([44]).

    5- إخراجه من يراه على شر أو يشهر سلاحا في المدينة:

    ومن احتسابه أيضا أنه كان ينكر على من يراه على شر أو كان يحمل معه سلاحا ويخرجه من المدينة؛ فعن سالم بن عبد الله t قال: وجعل عثمان لا يأخذ أحدا منهم على شر أو شهر سلاح، عصا فما فوقها إلا سيَّره.([45])

    6- ضربه لمن استخف بعم النبي صلى الله عليه وسلم:

    ففي أيام خلافته ضرب رجلا في منازعة استخف فيها بالعباس بن عبد المطلب عم الرسول صلى الله عليه وسلم، فقيل له عن مبررات ضربه، فقال: نعم، أيُفَخِّم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عمه وأرخص في الاستخفاف به، لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك ومن رضي به منه([46]).

    7- نهيه عن الخمر لأنها أم الخبائث:

    روى النسائي في سننه والبيهقي في سننه عن عثمان بن عفان أنه قال: اجتنبوا الخمر، فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم يتعبد، فعلقته امرأة أغوته، فأرسلت إليه جاريتها، فقالت له: إنها تدعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفق كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة، عندها غلام وباطية خمر، فقالت: والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع عليَّ، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام، قال: فاسقني من هذا الخمر كأسا، فسقته كأسا فقال: زيدوني فلم يرم حتى وقع عليها وقتل الغلام، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا ويوشك أن يخرج أحدهما صاحبه([47]).

    8- من خطب عثمان في المجتمع ومن حِكَمه:


    أ- خطبة في الاستعداد ليوم المعاد:

    يقول الحسن البصري -رحمه الله-: خطب عثمان بن عفان، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، اتقوا الله فإن تقوى الله غُنْم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لظلمة القبر، وليخش عبد أن يحشره الله أعمى, وقد كان بصيرا، وقد يكفي الحكيم جوامع الكلام، والأصم ينادي من مكان بعيد، واعلموا أن من كان الله معه لم يخف شيئا، ومن كان الله عليه فمن يرجو بعده([48]).
    وعن عثمان t أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الجمَّاء لتُقَصُّ من القرناء يوم القيامة» ([49]).

    ب- التذكير بمكارم الأخلاق:

    قال عثمان t: إنا والله صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في السفر والحضر فكان يعود مرضانا، ويشيع جنائزنا، ويغزو معنا، ويواسينا بالقليل والكثير، وإن ناسا يعلمونني به عسى ألا يكون أحدهم رآه قط([50]).

    ج- من حكمه التي سارت بين الناس:


    *
    قال t: لو طهرت قلوبنا ما شبعتم من كلام ربكم([51]).

    *
    وقال t: ما أسرَّ أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه، وفلتات لسانه([52]).

    *
    إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن([53]).

    *
    وكان t لا يقيم للدنيا وزنا، فقال فيها: (همُّ الدنيا ظلمة في القلب، وهمُّ الآخرة نور في القلب) ([54])

    *
    ومن حكمه البالغة: يكفيك من الحاسد أنه يغتم وقت سرورك([55]).

    *
    وقال t في أيام الفتنة: أستغفر الله إن كنت ظَلمت، وقد عفوت إن كنت ظُلمت([56]).

    *
    ومن حكمه ومواعظه t: إن لكل شيء آفة، ولكل نعمة عاهة، وإن آفة هذا الدين وعاهة هذه النعمة عيَّابون صغانون، يرونكم ما تحبون ويسرون ما تكرهون، طغام
    مثال النعام.([57])

    *
    ولما قدم عبد الله بن الزبير بفتح إفريقية، أمره عثمان بن عفان -رضي الله عنهما- فقام خطيبا، فلما فرغ من كلامه قال عثمان: انكحوا النساء على آبائهن وإخوتهن، فإني لم أر في ولد أبي بكر الصديق أشبه به من هذا([58])، وعبد الله بن الزبير أمه أسماء بنت أبي بكر. ويريد أن ابن الزبير كان شبيها بجده في الشجاعة والإقدام والفصاحة([59]).

    *
    وقال t: ما من عامل يعمل عملا إلا كساه الله رداء عمله([60]).

    *
    وقال t: إن المؤمن في خمسة أنواع من الخوف؛ أحدها من قبل الله تعالى أن يأخذ منه الإيمان، والثاني من قبل الحفظة أن يكتبوا عليه ما يفتضح به يوم القيامة، والثالث من قبل الشيطان أن يبطل عمله، والرابع من قبل ملك الموت أن يأخذه في غفلة بغتة، والخامس من قبل الدنيا أن يغتر بها وتشغله عن الآخرة([61]).
    وقال t: وجدت حلاوة العبادة في أربعة أشياء: أولها في أداء فرائض الله، والثاني في اجتناب محارم الله، والثالث في الأمر بالمعروف ابتغاء ثواب الله، والرابع في النهي عن المنكر اتقاء غضب الله([62]).

    9- عثمان
    والشعر والشعراء:
    لم تذكر لنا المصادر والمراجع سوى النزر القليل عن علاقة عثمان t مع الشعر والشعراء، مع أن فترة خلافته كانت طويلة نسبيا، ومن هذا القليل تبين لنا أنه كان ملتزما المنهج العام للعقيدة الإسلامية التي وضح معالمها الرسول صلى الله عليه وسلم، والتي سلك طريقها سلفه أبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما، ولاشك أن لكل منهم شخصيته الأدبية المميزة، فقد اشتهر أبو بكر بمعرفة الأنساب، وبعلمه الوافر وحسن مجالسته وبروايته للشعر، واشتهر عمر بالحث على تعلم الشعر، وأنه لم تكن تعرض له قضية إلا تمثل ببيت شعر، أضف إلى ذلك أنه كان شاعرا، أما عثمان بن عفان -رضوان الله عليه- فلم يؤثر عنه ذلك الانغماس الكبير في الشعر، أو تلك العلاقة الحميمة مع الشعراء. وإذا كنا نعرف أن الشعراء كانوا يتهافتون على أبواب الأمراء طمعا برضاهم وبأعطيتهم، فإننا نرى أن الشعراء أيام عثمان يتركون الحواضر ودار الخلافة ويؤثرون العودة إلى البادية.([63]) وقد ذكرت كتب الأدب والتاريخ بعض الأبيات نسبتها إلى عثمان أو كان يتمثل بها, ومن هذه الأبيات يروي أنه قال:
    واعلم أن الله ليس كصنعه

    صنيع ولا يخفى على ملحد


    وكان كثيرا ما ينشد أبياتا قالها ويطيل ذكرها لا تعرف لغيره:

    تفنى اللذائذ ممن نال صفوتها

    من الحرام ويبقى الإثم والعار

    يلقى عواقبَ سوءٍ من مغبتها

    لا خير في لذة من بعدها نار([64])


    قال يوم دخل عليه الثائرون في بيته ليقتلوه:
    أرى الموت لا يبقي عزيزا ولم يدع

    لعاد ملاذًا في البلاد ومرتعا([65])
    >

    وقال لَمَّا حوصر في داره:
    يُبيَّت أهل الحصن والحصن مغلق

    ويأتي الجبال الموت شمراخها العُلا([66])


    ويروى له أيضا:
    غنيٌّ النفس يغني النفس حتى يكُفَّها

    وإن عَضَّها حتى يضرَّ بها الفقر

    وما عسرة فاصبر لها إن لقيتها

    بكائنة إلا سيتبعها يُسْرُ


    ونلاحظ في البيت الأخير أنه يتضمن معنى قرآنيا؛ إن مع العسر يسرا، وهذا ليس غريبا على الخليفة المسلم، الذي نشأ وترعرع في أحضان محمد صلى الله عليه وسلم فهو يعاقب على شعر الهجاء والذي يتعارض وأحكام الشريعة الإسلامية، ويثني على الشعر الحسن ويحب الاستماع إليه، وكل ذلك ضمن المفاهيم الإسلامية([67]).
    وإذا كان الخليفة الراشد الثالث لم يهتم بالشعر، ولم يقرب إليه الشعراء، فإن مقتله من قبل الغوغاء فتح الباب على مصراعيه لازدهار الشعر العباسي الذي أصبح الأداة الصحافية الفاعلة في العصور الإسلامية المتلاحقة، فعند مقتله بكاه كثير من شعراء الصحابة، وسيأتي بيان ذلك بإذن الله.




    ([1]) تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة (1/392).

    ([2]) تاريخ الطبري (5/443).

    ([3]) المراد ابن عبد ربه الأندلسي، صاحب كتاب (العقد الفريد)، وهو كتاب في طرق الأخبار والحكايات والنوادر، ولا يهتم بسند الخبر أو صحته.

    ([4]) خلافة عثمان بن عفان، د. السلمي، ص34، 35، والخبر من طريق الواقدي وهو متروك.

    ([5]) تحقيق مواقف الصحابة، د. محمد أمحزون (1/393).

    ([6]) تاريخ الطبري (5/244).

    ([7]) تحقيق مواقف الصحابة (1/393).

    ([8]) الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، د. حمدي شاهين، ص246.

    ([9]) التاريخ الإسلامي مواقف وعبر، د. عبد العزيز الحميدي (12/369).

    ([10]) الفروج: يعني الأقاليم. (2) تاريخ الطبري (5/244).



    ([12]) التاريخ الإسلامي (12/370). (4) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص199.



    ([14]) تاريخ الطبري (5/244).

    ([15]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص198. (2) التاريخ الإسلامي (20/371).



    ([17]) تاريخ الطبري (5/245).

    ([18]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص199.

    ([19]) تاريخ الطبري (5/443).

    ([20]) فقه التمكين في القرآن الكريم للصلابي، ص432.

    ([21]) صحيح سنن الترمذي، (3/200).

    ([22]) نظام الحكم في الإسلام، ص227.

    ([23]) البخاري، رقم (7145).

    ([24]) فقه الخلافة، للسنهوري، ص80.

    ([25]) الدولة والسيادة، د. فتحي عبد الكريم، ص268.

    ([26]) مسند الإمام أحمد، الموسوعة الحديثية، رقم 524.

    ([27]) الدولة والسيادة، ص379.

    ([28]) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (1/277).

    ([29]) المصدر نفسه (1/277)، نقلا عن تاريخ الطبري.

    ([30]) فتوح مصر، ص83. (4) المصدر نفسه، ص183.



    ([32]، 6) الإدارة العسكرية (1/278).



    ([34]) تاريخ الطبري (4/414).

    ([35]) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، ص149.

    ([36]) المصدر نفسه، ص157، 158. (3) ردع: لطخ وأثر.



    ([38]) مفدمة: مشبعة حمرة. (5) ملل: موضع بين مكة والمدينة.



    ([40]) المسند، رقم 517، قال أحمد شاكر: إسناده صحيح، انظر: تعليقات الشيخ على المسند (1/384).

    ([41]) المصنف، رقم (12071) . (2) تاريخ الطبري (5/415).



    ([43]) الأدب المفرد، باب ذبح الحمام، رقم (1307).

    ([44]) السنن الكبرى، كتاب الشهادات، (10/215).

    ([45]) تاريخ الطبري (5/416) معظم هذه الفقرة أخذتها من كتاب الحسبة في العصر النبوي والعهد الراشدي، للدكتور فضل إلهي.

    ([46]) تاريخ الطبري (5/417).

    ([47]) سنن النسائي، كتاب الأشربة، موسوعة فقه عثمان، ص52.

    ([48]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص107.

    ([49]) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد، رقم (520).

    ([50]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص107.

    ([51]) جامع العلوم والحكم، ص363.

    ([52]) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص269.

    ([53]) الكامل في اللغة والأدب (1/157).

    ([54]) الاستعداد ليوم المعاد، ص9.

    ([55]) مجمع الأمثال للميداني (2/453).

    ([56]) تاريخ خليفة بن خياط، ص171.

    ([57]) مجمع الأمثال للميداني (20/453).

    ([58]) البيان والتبيين (2/95).

    ([59]) فرائد الكلام، ص271.

    ([60]) الزهد للإمام أحمد، ص185.

    ([61], 3) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص278.

    ([62]) فرائد الكلام للخلفاء الكرام، ص278.

    ([63]) أدب صدر الإسلام، واضح الصمد، ص99.

    ([64]) شعراء الخلفاء، نبال تيسير الخماش، ص27.

    ([65], 3) البداية والنهاية (7/192).

    ([66]) البداية والنهاية (7/192).

    ([67]) أدب صدر الإسلام، واضح الصمد، ص102.





  8. #8
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    المبحث الثالث أهـــــــــم صفاتـــــــــــه

    إن شخصية ذي النورين تعتبر شخصية قيادية، وقد اتصف بصفات القائد الرباني، ونجملها في أمور ونركز على بعضها بالتفصيل، فمن أهم هذه الصفات: إيمانه العظيم بالله واليوم الآخر، والعلم الشرعي، والثقة بالله، والقدوة والصدق، والكفاءة والشجاعة، والمروءة، والزهد، وحب التضحية، والتواضع، وقبول النصيحة، والحلم، والصبر، وعلو الهمة، والحزم، والإرادة القوية، والعدل، والقدرة على حل المشكلات، والقدرة على التعليم وإعداد القادة، وغير ذلك من الصفات. وبسبب ما أودع الله فيه من صفات القيادة الربانية استطاع أن يحافظ على الدولة ويقمع الثورات التي حدثت في الأراضي المفتوحة، وينتقل -بفضل الله وتوفيقه- بالأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، ومن أهم تلك الصفات التي نحاول تسليط الأضواء عليها في هذا المبحث هي:

    أولاً: العلم والقدرة على التوجيه والتعليم:

    يعتبر عثمان
    من كبار علماء الصحابة في القرآن الكريم والسنة النبوية، وسيأتي الحديث عن اجتهاداته الفقهية في المجال القضائي والمالي والجهادي بإذن الله تعالى، وكان حريصا على اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ فعن عروة بن الزبير، أن عبيد الله بن عدي بن الخيار أخبره أن المسور بن مخرمة وعبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث قالا له: ما يمنعك أن تكلم خالك يكلم أمير المؤمنين عثمان في الوليد بن عقبة، وقد أكثر الناس فيما فعل؟ قال عبيد الله: فاعترضت لأمير المؤمنين عثمان حين خرج إلى الصلاة فقلت له: إن لي إليك حاجة هي نصيحة، قال: يا أيها المرء، إني أعوذ بالله منك. قال: فانصرفت، فلما قضت الصلاة جلست إلى المسور وابن عبد يغوث فحدثهما بالذي قلت لأمير المؤمنين وقال لي، فقالا: قد قضيت الذي عليك، فبينما أنا جالس معهما جاءني رسول أمير المؤمنين عثمان فقالا لي: قد ابتلاك الله، فانطلقت حتى دخلت على عثمان، فقال: ما نصيحتك التي ذكرت لي آنفا؟ قال: فتشهدت ثم قلت له: إن الله -عز وجل- بعث محمدا بالحق وأنزل عليه الكتاب، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ورأيت هديه وقد أكثر الناس في شأن الوليد، فحق عليك أن تقيم عليه الحد، قال: فقال لي: ابن أختي، أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: فقلت: لا، ولكن خلص إليَّ من علمه واليقين ما يخلص إلى العذراء في سترها، قال: فتشهد ثم قال: أما بعد، فإن الله بعث محمدا بالحق، فكنت ممن استجاب لله ولرسوله وآمن بما بعث محمد صلى الله عليه وسلم، ثم هاجرت الهجرتين كما قلت، ونلت صهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف بعده أبو بكر فبايعناه فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلف عمر فوالله ما عصيته ولا غششته حتى توفاه الله، ثم استخلفني الله أفليس لي عليكم مثل الذي كان لهم عليَّ؟ قال: فقلت: بلى، قال: فما هذه الأحاديث التي تبلغني عنكم؟ فأما ما ذكرت من شأن الوليد فسنأخذ فيه -إن شاء الله- بالحق، قال: فجلد الوليد أربعين سوطا، وأمر عليا بجلده فكان هو يجلده([1]).

    لقد لازم ذو النورين النبي صلى الله عليه وسلم فاستفاد من علمه وهديه، مما جعله من كبار علماء الصحابة رضي الله عنهم جميعا، وكان
    t قادرا على توجيه رعيته توجيها مفيدا، وتعليمهم واجباتهم ونقل آرائه النابعة من علمه وخبرته وتجاربه وممارسته إليهم؛ حتى يرتقوا في مجال الدعوة والتربية والتعليم والجهاد والاستعداد للقاء الله عز وجل.

    ومن توجيهات عثمان
    ما تضمنته خطبة خلافته التي قال فيها بعد أن حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم: إنكم في دار قلعة، وفي بقية أعمار فبادروا آجالكم بخير ما تقدرون عليه، فلقد أتيتم صبحتم أو مسيتم، ألا وإن الدنيا طويت على الغرور، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، واعتبروا بمن مضى ثم جدوا ولا تغفلوا، أين أبناء الدنيا وإخوانها الذين أثاروها وعمروها ومتعوا بها طويلا؟ ألم تلفظهم؟ ارموا الدنيا بالذي هو خير([2]), : "وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِرًا ` الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً" [الكهف: 45، 46].

    ولقد كان المعنى الذي يدور حوله توجيه الخليفة الثالث
    t في هذه الخطبة هو الحض على الإقبال على الله والزهد في الدنيا، وهذا هو المناسب لخطبته في ذلك الوقت الذي ألقى فيه الإسلام بجرانه([3]) في أقطار المعمورة وفتحت البلدان وأقبلت الدنيا بنعيمها، وبدأ الناس في التنافس فيها وبخاصة غير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان المقال مناسبا للمقام.([4])

    وقد روى عثمان
    t أحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم انتفعت بها الأمة؛ فهذا أبو عبد الرحمن السلمي يحدثنا عن حديث سمعه من عثمان فعمل به، فعن سعد بن عبيدة عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن عثمان t، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه».([5]) قال: وأقرأ أبو عبد الرحمن في إمرة عثمان حتى كان الحجاج، قال: وذاك الذي أقعدني مقعدي هذا. وفي رواية عن شعبة قال أبو عبد الرحمن: فذاك الذي أقعدني مقعدي هذا، وكان يعلم القرآن.([6]) وكان عثمان t يروي أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسلمين كل في محله ومناسبته، ومن هذه الأحاديث:

    1- أهمية الوضوء:

    توضأ عثمان على البلاط، ثم قال: لأحدثنكم حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم, لولا آية في كتاب الله ما حدثتكموه، سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ فأحسن الوضوء، ثم دخل فصلى، غفر له ما بينه وبين الصلاة الأخرى حتى يصليها» ([7]).


    2- تقليده لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الوضوء:

    عن حمران بن أبان، عن عثمان بن عفان: أنه دعا بماء فتوضأ ومضمض واستنشق، ثم غسل وجهه ثلاثا، وذراعيه ثلاثا ثلاثا، ومسح برأسه وظهر قدميه، ثم ضحك، فقال لأصحابه: ألا تسألوني عما أضحكني؟ فقالوا: مم ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا بماء قريبا من هذه البقعة، فتوضأ كما توضأت ثم ضحك، فقال: «ألا تسألوني ما أضحكني؟» فقالوا: ما أضحكك يا رسول الله؟ فقال: «إن العبد إذا دعا بوضوء فغسل وجهه، حط الله عنه كل خطيئة أصابها بوجهه، فإذا غسل ذراعيه كان كذلك، وإن مسح برأسه كان كذلك، وإن طهر قدميه كان كذلك».([8])

    3- كفارات الوضوء:

    عن عثمان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أتم الوضوء كما أمره الله -عز وجل- فالصلوات المكتوبات كفارات لما بينهن» ([9]).

    4- الوضوء وصلاة ركعتين ومغفرة الذنوب:

    دعا عثمان بماء وهو على المقاعد, فسكب على يمينه فغسلها، ثم أدخل يمينه في الإناء فغسل كفيه ثلاثا، ثم غسل وجهه ثلاث مرار، ومضمض واستنثر، وغسل ذراعيه إلى المرفقين ثلاث مرار، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه إلى الكعبين ثلاث مرار، ثم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من توضأ نحو وضوئي هذا، ثم صلى ركعتين لا يحدث نفسه فيهما، غفر الله ما تقدم من ذنبه» ([10]).

    5- كلمة الإخلاص وكلمة التقوى:

    قال عثمان t: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأعلم كلمة لا يقولها عبد حقًا من قلبه إلا حُرم على النار»، فقال له عمر بن الخطاب: أنا أحدثك ما هي؟ هي كلمة الإخلاص التي ألزمها الله -تبارك وتعالى- محمدا صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وهي كلمة التقوى التي أَلاَصَ([11]) عليها نبي الله صلى الله عليه وسلم عمه أبا طالب عند الموت: شهادة أن لا إله إلا الله([12]).

    6- العلم بالله يدخل العبد الجنة:

    عن عثمان بن عفان، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله
    دخل الجنة» ([13]).


    7- الحسنات والباقيات:

    عن الحارث مولى عثمان قال: جلس عثمان يوما وجلسنا معه فجاءه المؤذن، فدعا بماء في إناء أظنه سيكون فيه مُدّ، فتوضأ ثم قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وضوئي هذا ثم قال: «ومن توضأ وضوئي هذا، ثم قال فصلى صلاة الظهر، غفر له ما كان بينها وبين الصبح، ثم صلى العصر غفر له ما بينها وبين صلاة الظهر، ثم صلى المغرب غفر له ما بينها وبين صلاة العصر، ثم صلى العشاء غفر له ما بينها وبين صلاة المغرب، ثم لعله أن يبيت يتمرغ ليلته، ثم إن قام فتوضأ وصلى الصبح غفر له ما بينها وبين صلاة العشاء، وهن الحسنات يذهبن السيئات». قالوا: هذه الحسنات، فما الباقيات يا عثمان؟ قال: هن لا إله إلا الله، وسبحان الله، والحمد لله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله.([14])

    8- خطورة الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    عن عثمان t قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تعمد عليَّ كذبا، فليتبوأ بيتًا في النار» ([15]).
    هذه بعض الأحاديث التي رواها عثمان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتدل على علم عثمان وحرصه على الاستزادة من الهدي النبوي، وفقه الشريعة الغراء.

    ثانيًا: الحلم:

    إن الحلم ركن من أركان الحكمة، وقد وصف الله نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: "إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ" [آل عمران: 155] وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم في حلمه وعفوه الغاية المثالية، وكان الخليفة الراشد عثمان بن عفان شديد الاقتداء في أقواله وأفعاله وأحواله برسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت له مواقف كثيرة تدل على حلمه وضبطه لنفسه، ومن أوضح المواقف التي تدل على حلمه قصته في حصار الثائرين عليه؛ حيث أمر من عنده من المهاجرين والأنصار أن ينصرفوا إلى منازلهم ويدعوه وكانوا قادرين على منعه، وكان حلمه مبنيا على شوقه إلى لقاء ربه، وإرادته حقن دماء المسلمين ولو بقتله([16]).

    ثالثـًا: السماحة:

    عن عطاء بن فروخ مولى القرشيين: أن عثمان t اشترى من رجل أرضا فأبطأ عليه، فلقيه فقال: ما منعك من قبض مالك؟ قال: إنك غبنتني فما ألقى من الناس أحدًا إلا وهو يلومني، فقال: أو ذلك يمنعك؟ قال: نعم، قال: فاختر بين أرضك ومالك، ثم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أدخل الله الجنة رجلا كان سهلا مشتريا وبائعا، وقاضيا ومقتضيا». ([17]) فهذا مثل رفيع في السماحة في البيع والشراء، وهو يدل على ما جبل عليه عثمان t من الكرم وعدم التعلق بالدنيا، فهو يستعبد الدنيا لخدمة مكارم الأخلاق التي من أهمها الإيثار، ولا تستعبده الدنيا، فتجعل منه أنانيا يؤثر مصالحه الخاصة وإن أضر بالناس([18]).

    رابعًا: اللين:

    امتن الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بأن رزقه صفة اللين رحمة منه به وبعباده، : "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" [آل عمران: 159].
    أفادت الآية الكريمة أن صفة اللين رحمة من الله يرزق بها من شاء من عباده، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد رزق هذه الصفة رحمة من الله به وبعباده الذين بعثه إليهم، ويفهم من الآية أن المتصف باللين يحبه الناس ويلتفون حوله ويقبلون منه ما يأمرهم به أو ينهاهم عنه ([19])؛ فاللين من الصفات الطيبة التي اتصف بها عثمان t، فكان t لينًا على رعيته عطوفًا على أمته، يخاف أن يصاب أحد دون علمه فلا يتمكن من تلبية حاجته، وكان يتتبع أخبار الناس، فينصر الضعيف، ويأخذ الحق من القوي .

    خامسًا: العفو:


    عن عمران بن عبد الله بن طلحة: أن عثمان بن عفان
    t خرج لصلاة الغداة فدخل من الباب الذي كان يدخل منه، فزحمه الباب فقال: انظروا، فنظروا فإذا رجل معه خنجر أو سيف، فقال له عثمان t: ما هذا؟ قال: أردت أن أقتلك، قال: سبحان الله!! ويحك، علام تقتلني؟ قال: ظلمني عاملك باليمن، قال: أفلا رفعت ظلامتك إليَّ فإن لم أنصفك أو أعديك على عاملي أردت ذلك مني؟ فقال لمن حوله: ما تقولون؟ فقالوا: يا أمير المؤمنين، عدو أمكنك الله منه، فقال: عبد همَّ بذنب فكفه الله عني، ائتني بمن يكفل بك، لا تدخل المدينة ما وليت أمر المسلمين، فأتاه برجل من قومه فكفل به فخلى عنه.([20])

    فهذا تسامح كبير من أمير المؤمنين عثمان بن عفان
    t؛ حيث عفا عمن أراد قتله، والعفو عند المقدرة صفة من صفات الكمال في الرجال، وهو دليل على التجرد من حظ النفس وتقلص الأنانية، وضعف الارتباط بالدنيا، وقوة الارتباط بالآخرة، وهذا الخلق إضافة إلى أنه عمل صالح يرفع من درجات صاحبه في الآخرة فإنه سياسة حكيمة في الدنيا؛ إذ أن هذا الرجل الذي أراد الاعتداء لو أنه قتل أو عوقب عقوبة بليغة لربما أحدث فتنة بإيغار صدور أفراد قبيلته واستعدادهم للانتقام إذا سنحت لهم الفرصة، لكن العفو عنه يجعل أفراد قبيلته وأبناء بلده يعذلونه ويعنفونه على ما حاول الإقدام عليه، وبذلك تنطفئ الفتنة قبل تصاعدها، ويكسب صاحب العفو قلوب الناس وولاءهم([21]).

    سادسًا: التواضع:


    : "وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا" [الفرقان: 63].

    جعل المولى -عز وجل- صفة التواضع أولى صفات عباده المؤمنين، ولقد كان الخليفة الراشد عثمان متصفا بهذه الصفة، وكانت هذه الصفة تنبع من إخلاصه لله سبحانه وتعالى؛ فعن عبد الله الرومي قال: كان عثمان بن عفان يأخذ وضوءه لنفسه إذا قام من الليل، فقيل له: لو أمرت الخادم كفاك، قال: لا، الليل لهم يستريحون فيه.([22]) فهذا مثل من اتصاف أمير المؤمنين عثمان t بالرحمة، فهو مع كبر سنه وعلو منزلته الاجتماعية يخدم نفسه في الليل ولا يوقظ الخدم، وإن وجود الخدم من تسخير الله تعالى للمخدومين، وإن مما ينبغي للمسلم الذي سخر الله تعالى من يخدمه أن يتذكر أن الخادم إنسان مثله له طاقة محدودة في العمل، وله مشاعر وأحاسيس فينبغي له أن يراعي مشاعره، وأن ييسر له الراحة كاملة في النوم، وأن لا يشق عليه بعمل.([23]) وكان t من تواضعه واحترامه لعم النبي صلى الله عليه وسلم إذا مر به وهو راكب نزل حتى يزول العباس احتراما وتقديرا له([24]).

    سابعًا: الحياء والعفة:

    الحياء من أشهر أخلاق عثمان t وأحلاها، تلك الصفة النبيلة التي زينه الله بها، فكانت فيه منبع الخير والبركة، ومصدر العطف والرحمة، فقد كان t من أشد الناس حياء.([25]) فقد ذكر الحسن البصري -رحمه الله- عثمان بن عفان يوما وشدة حيائه فقال: إنه ليكون في البيت، والباب عليه مغلق، فما يضع عنه ثوبه ليفيض عليه الماء، يمنعه الحياء أن يقيم صلبه.([26])

    ومن حيائه
    t ما روته بنانة -وهي جارية لامرأته- تقول: كان عثمان إذا اغتسل جئته بثيابه فيقول لي: لا تنظري إلي، فإنه لا يحل لك.([27]) وقد وردت الأحاديث النبوية التي تحدثت عن حيائه وقد ذكرتها في موضعها.

    وأما عن عفته وبعده عن مساوئ الأخلاق فحدث في ذلك بما شئت ولا حرج، فإنه
    t لم يعرف طريق الفحشاء في الجاهلية ولا في الإسلام، يقول عثمان t: ما تغنيت ولا تمنيت([28])، ولا مسست ذكري بيميني منذ بايعت بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا شربت خمرا في جاهلية ولا في الإسلام، ولا زنيت في جاهلية ولا في الإسلام([29]).

    ثامنًا: الكرم:


    كان عثمان
    من أكرم الأمة وأسخاها، وله في ذلك مواقف ومآثر لا تزال غرة في جبين التاريخ الإسلامي؛ فقد مر معنا ما قام به في غزوة تبوك، وشراؤه لبئر رومة وتصدقه به على المسلمين، وتوسيعه للمسجد النبوي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم, وتصدقه بالقافلة المحملة بالخيرات في عصر الصديق t، وكان t يعتق كل جمعة رقبة في سبيل الله منذ أسلم، فجميع ما أعتقه ألفان وأربعمائة رقبة تقريبا.([30]) وقد روى أنه كان له على طلحة بن عبيد الله -وكان من أجود الناس- خمسون ألفا، فقال له طلحة يوما: قد تهيأ مالك فاقبضه، فقال له عثمان: هو لك معونة على مروءتك.([31]) لقد كان سخاء عثمان وجوده صفة أصلية في شخصيته الفذة t، فقد وظف أمواله في خدمة دين الله فلم يبخل في تأسيس الدولة الإسلامية والجهاد في سبيل الله تعالى، وخدمة المجتمع ابتغاء رضوان الله تعالى.

    تاسعًا: شجاعته:


    يعد عثمان
    من الشجعان، والدليل على ذلك:

    1- خروجه للجهاد في سبيل الله،
    وحضوره المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا اتهم بتخلفه عن بدر فقد سبق أن قلنا إن ذلك كان بأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم عده رسول الله صلى الله عليه وسلم من الذين شهدوها وأعطاه سهمه منها، ونال أجره إن شاء الله، وليس بعد كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كلام.

    2- سفارة رسول الله صلى الله عليه وسلم له إلى قريش في الحديبية:

    امتثل عثمان t -كما مر معنا- لطلب الرسول صلى الله عليه وسلم وذهب إلى قريش وهو يعرف ما أقدم عليه، غير أن رجولته وبطولته قد أبتا عليه إلا الامتثال والطاعة.
    إن من يقبل السفارة في مثل تلك الظروف لشجاع عظيم، وبطل من الأبطال النوادر، صحيح أنها أمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها في الوقت نفسه شجاعة لا يمكن أن يقبل بها جبان أو رجل عادي([32]).

    3- الفداء بالنفس:

    عندما حوصر t في داره طلب منه المارقون التنازل عن الخلافة لا خيار غيره أو القتل، أو عزل ولاته وتسليم بعضهم، فأصر على موقفه مضحيا بنفسه من أن تصبح الخلافة بيد ثلة تزيح من ترغب، وتعين من تحب، أو تنزع الخلافة من صاحبها الذي اختارته الأمة، ويصبح ذلك قاعدة.([33]) فأصر على موقفه وهو يرى الموت في سيوف المحاصرين، وإن الذي يقف هذا الموقف لهو الشجاع وإنه لصاحب حق، ولن يقف هذا الموقف رجل جبان أو محب للدنيا أبدا، فالحياة عند هؤلاء الجبناء أفضل من المكانة ومن الدنيا كلها([34])، ولكن هذا الإصرار العجيب والعزيمة النافذة، والشجاعة الفائقة من عثمان t ثمرة إيمان قوي بالله
    -عز وجل- واليوم الآخر وقر في قلبه، وجعله يستهين بكل شيء في هذه الحياة حتى
    بالحياة نفسها([35]).

    4- الجهاد بالمال:

    إن الجهاد بالنفس اقترن مع الجهاد بالمال، وربما قدم عليه، : "لاَ يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا" [النساء: 95].
    وهناك آيات كثيرة تقرن المال بالنفس، وإن الذي ينفق المال في سبيل الله بسخاء إنما هو مجاهد وشجاع، وقد أنفق عثمان t الكثير حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم» مرتين([36]).
    لقد كان عثمان t شجاعا لا يهاب الموت، جريئا يواجه الباطل في تحدٍّ سافر، حليما لا يجهله حمق الحمقى([37]).

    عاشرًا: الحزم:


    إن صفة الحزم في شخصية ذي النورين أصيلة، ونجد الصديق
    t عندما عرض عليه الإسلام قال له: ويحك يا عثمان إنك رجل حازم، ما يخفى عليك الحق من الباطل، ما هذه الأوثان التي يعبدها قومنا.([38]) وفي سنة 26 هـ زاد عثمان في المسجد الحرام ووسعه، وابتاع من قوم وأبى آخرون، فهدم عليهم، ووضع الأثمان في بيت المال، فصيحوا بعثمان، فأمر بهم بالحبس، وقال: أتدرون ما جرأكم عليَّ؟ ما جرأكم علي إلا حلمي، قد فعل هذا بكم عمر فلم تصيحوا به، ثم كلمه فيهم عبد الله بن خالد بن أسيد، فأخرجوا.([39])

    ومن المواقف التي تدل على حزمه: حمايته لنظام الخلافة من الضياع، فلم يجب الخارجين إلى خلع نفسه من الخلافة، فكان بذلك يمثل الثبات واستمرار النظام؛ لأنه لو أجاب الخارجين إلى خلع نفسه لأصبح منصب الإمامة العظمى ألعوبة في أيدي المفتونين الساعين في الأرض بالفساد، ولسادت الفوضى واختل نظام البلاد، ولكان ذلك تسليطا للرعاع والغوغاء على الولاة والحكام. لقد كانت نظرة عثمان
    t بعيدة الغور، فلو أجابهم إلى ما يريدون لسن بذلك سنة، وهي كلما كره قوم أميرهم خلعوه، ولألقى بأس الأمة بينها، وشغلها بنفسها عن أعدائها, وذلك أقرب لضعفها وانهيارها، على أنه لم يجد سوى نفسه يفدي بها الأمة، ويحفظ كيانها وبنيانها من التصدع، ويدعم بهذا الفداء نظامها الاجتماعي ويحمي سلطانها الذي تساس به من أن تمتد إليه يد العبث والفوضى. ومما لا شك فيه أن هذا الصنع من عثمان كان أعظم وأقوى ما يستطيع أن يفعله رجل ألقت إليه الأمة مقاليدها؛ إذ لجأ إلى أهون الشرين وأخف الضررين ليدعم بهذا الفداء نظام الخلافة وسلطانها.([40]) وسيأتي بيان ذلك في محله بإذن الله.

    حادي عشر: الصبر:


    اتصف عثمان
    بصفة الصبر، ومن المواقف الدالة على هذه الصفة ثباته في الفتنة؛ إذ كان موقفه إزاء تلك الأحداث التي ألمت به وبالمسلمين المثل الأعلى لما يمكن أن يقدمه الفرد من تضحية وفداء في سبيل حفظ كيان الجماعة، وصون كرامة الأمة، وحقن دماء المسلمين؛ فقد كان بإمكانه أن يقي نفسه ويخلصها لو أنه أراد نفسه ولم يرد حياة الأمة، ولو كان ذاتيا ولم يكن من أهل الإيثار لدفع بمن هب للذود عنه من الصحابة وأبناء المهاجرين والأنصار إلى نحور الخارجين المنحرفين عن طاعته، ولكنه أراد جمع شمل الأمة، ففداها بنفسه صابرا محتسبا، وقد أعلن عثمان t أنه سيواجه الفتنة العارمة بالصبر الجميل([41]) ممتثلا قوله سبحانه: "الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ" [آل عمران: 173].

    إن عثمان
    كان قوي الإيمان بالله، كبير النفس، نفاذ البصيرة، نبيل الصبر، حيث فدى الأمة بنفسه، فكان ذلك من أعظم فضائله عند المسلمين.([42]) قال ابن تيمية -رحمه الله-: ومن المعلوم بالتواتر أن عثمان كان من أكف الناس عن الدماء، وأصبر الناس على مَنْ نال مِنْ عرضه, وعلى من سعى في دمه، فحاصروه وسعوا في قتله وقد عرف إرادتهم لقتله، وقد جاءه المسلمون ينصرونه ويشيرون عليه بقتالهم، وهو يأمر الناس بالكف عن القتال، ويأمر من يطيعه أن لا يقاتلهم. وقيل له: تذهب إلى مكة, فقال: لا أكون من ألحد في الحرم، فقيل له: تذهب إلى الشام، فقال: لا أفارق دار هجرتي، فقيل له: فقاتلهم، فقال: لا أكون أول
    من خلف محمدا في أمته بالسيف. فكان صبر عثمان حتى قتل من أعظم فضائله
    عند المسلمين([43]).

    ثاني عشر: العدل:


    واتصف عثمان
    t بصفة العدل؛ فعن عبيد الله بن عدي بن الخيار أنه دخل على عثمان t وهو محصور فقال له: إنك إمام العامة وقد نزل بك ما ترى، وهو ذا يصلي بنا إمام فتنة -عبد الرحمن بن عديس البلوى- وأنا أخرج من الصلاة معه، فقال له عثمان: إن الصلاة أحسن ما يعمل الناس، فإذا أحسن الناس فأحسن معهم، وإذا أساءوا فاجتنب إساءتهم.([44])

    وروى ابن شبة بإسناده، قال: دخل عثمان بن عفان على غلام له يعلف ناقة، فرأى في علفها ما كره، فأخذ بأذن غلامه فعركها، ثم ندم، فقال لغلامه: اقتص فأبى الغلام، فلم يدعه حتى أخذ بأذنه فجعل يعركها، فقال له عثمان: شد حتى ظن أنه قد بلغ منه مثل ما بلغ منه، ثم قال عثمان
    t: واهًا لقصاص قبل قصاص الآخرة([45]).

    ثالث عشر: عبادته:


    كان عثمان
    من المجتهدين في العبادة، وقد روى من غير وجه أنه صلى بالقرآن العظيم في ركعة واحدة عند الحجر الأسود أيام الحج، وقد كان هذا من دأبه t.([46]) ولهذا روينا عن ابن عمر أنه قال في قوله تعالى: "أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ" [الزمر: 9] قال: هو عثمان بن عفان.([47]) وقال ابن عباس في قوله تعالى: "هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ" [النحل: 76] قال: هو
    عثمان.([48]) وكان t يفتتح القرآن ليلة الجمعة، ويختمه ليلة الخميس([49])، وكان t يصوم الدهر ويقوم الليل إلا هجعة من أوله([50]).

    رابع عشر: خوفه من الله وبكاؤه ومحاسبته لنفسه:


    فقد جاء في إحدى خطبه: أيها الناس، اتقوا الله؛ فإن تقوى الله غنم، وإن أكيس الناس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، واكتسب من نور الله نورا لقبره، ويخشى أن يحشره الله أعمى وقد كان بصيرا.([51]) وقد روى عنه قوله: لو أني بين الجنة والنار لا أدري إلى أيتها يؤمر بي لتمنيت أن أصير رمادا قبل أن أعلم إلى أيتهما أصير.


    وكانت روحه ترتجف وعَبَراته تفيض عندما يذكر الآخرة، وعندما يتخيل نفسه وقد انشق قبره ونسل من جدثه إلى العرض والحساب([52])؛ فعن هاني مولى عثمان، قال: كان عثمان إذا وقف على قبر بكى حتى تبتل لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار وتبكي من هذا؟ قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن القبر أول منازل الآخرة، فإن نجا منه فما بعده أيسر منه، وإن لم ينج منه فما بعده أشد منه». قال: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «والله ما رأيت منظرا إلا والقبر أفظع منه». قال: وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه، ثم قال: «استغفروا لأخيكم وسلوا له بالتثبيت؛ فإنه الآن يسأل». ([53]) وهذا من فقه القدوم على الله الذي استوعبه عثمان
    t وعاش به في حياته، وما أحوجنا إلى هذا الفقه العظيم الذي به تحيا النفوس
    وتنفجر الطاقات.


    خامس عشر: زهده:


    اشتهر أمير المؤمنين عثمان
    t بأنه من أهل الغنى والثروة، ولكن مع هذه الشهرة فإنه قد رويت عنه أخبار تدل على أنه كان من الزاهدين في الدنيا، فعن حميد ابن نعيم، أن عمر وعثمان -رضي الله عنهما- دعيا إلى طعام، فلما خرجا قال عثمان لعمر: قد شهدنا طعاما لوددنا أنا لم نشهده، قال: لِمَ؟ قال: إني أخاف أن يكون صنع مباهاة.([54]) فهذا فقه من عثمان t بمجالات السخاء الإسلامي؛ فالسخاء في الإسلام لا يكون بالتفاخر بالكرم والتباهي بنوع الطعام أو كثرته، وإنما يكون ببذل المال من غير إسراف ولا خيلاء، مع شكر المنعم -جل وعلا- والتواضع للناس. وهذه النظرة من عثمان تعتبر من التزهيد بالجاه الدنيوي، وهذا يدل على أنه كان من الزاهدين في ذلك.([55]) ومن زهد عثمان t وتواضعه ما أخرجه الإمام أحمد من حديث ميمون بن مهران قال: أخبرني الهمداني أنه رأى عثمان بن عفان عليه بغلة وخلفه غلامه نائل وهو خليفة.([56]) وكذلك ما أخرجه من حديث الهمداني قال: رأيت عثمان نائما في المسجد في ملحفة ليس حوله أحد وهو أمير المؤمنين.([57]) كما أخرج من حديث شرحبيل بن مسلم أن عثمان بن عفان t كان يطعم الناس طعام الإمارة، ويدخل إلى بيته فيأكل الخل والزيت([58]).

    فهذه أمثلة جليلة من زهد أمير المؤمنين عثمان
    t، وحينما يكون الزاهد متوسطا في المعيشة فإن زهده لا يلفت النظر كثيرا ولا يثير العجب، ولكن حينما يكون غنيا فإن زهده يكون مدهشا للمتأملين وعبرة للمعتبرين؛ ذلك لأن كثرة المال تغري بالانصراف نحو الملذات والتوسع في النفقات، فلا بد ليكون الغني زاهدا من استيعابه لفقه القدوم على الله حتى يكون مهيمنا على نفسه مذكرا لقلبه، فتكبر الآخرة في عينه وتصغر الدنيا في نفسه، وهكذا كان عثمان t الذي كان من أعظم الأثرياء في الإسلام، قد غلبت قوة إيمانه شهوته وهواه فكان من أعظم الزاهدين، وضرب من نفسه مثلا لجميع الأغنياء بإمكان الجمع بين الغنى والزهد في الدنيا.([59])

    سادس عشر: الشكر:


    كان عثمان
    كثير الشكر لله تعالى باللسان والجنان والأركان، دعى ذات يوم إلى قوم على ريبة، فانطلق ليأخذهم فتفرقوا قبل أن يبلغهم، فأعتق رقبة شكرا لله أن لا يكون جرى على يديه خزي مسلم([60]).
    سابع عشر: تفقد أحوال الناس:

    كان
    ودودا رؤوفا يسأل عن أحوال المسلمين، ويتعرف على مشكلاتهم ويطمئن على غائبهم، ويواسي قادمهم، ويسأل عن مرضاهم؛ فقد روى الإمام أحمد، عن موسى بن طلحة قال: رأيت عثمان بن عفان وهو على المنبر، وهو يستخبر الناس يسألهم عن أخبارهم وأسعارهم.([61]) وروى ابن سعد في الطبقات عنه أيضا قال: رأيت عثمان بن عفان يخرج يوم الجمعة عليه ثوبان أصفران، فيجلس على المنبر، فيؤذن المؤذن، وهو يتحدث يسأل الناس عن أسفارهم وعن قادمهم وعن مرضاهم.([62]) وكان t يهتم بشئون الرعية، ويصل ذوي الحاجة، ويفرض العطاء للمواليد من بيت المال([63])؛ فقد روى عن عروة بن الزبير أنه قال: أدركت زمن عثمان، وما من نفس مسلمة إلا ولها في مال الله حق. يعني بيت المال([64]).

    ثامن عشر: تحديد الاختصاصات:


    المراد بتحديد الاختصاص تقسيم وظائف العمل على العاملين، بحيث يكون كل موظف عالِمًا بالعمل الذي كلفه ليقوم به دون تقصير فيه، ولا يتجاوز إلى عمل آخر مسند إلى سواه. وتقسيم الوظائف سنة كونية ربانية عمل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون من بعده؛ ففي عهد عثمان
    t وزعت الوظائف والأعمال على المسلمين كل في ميدانه كما سيأتي بيانه بإذن الله؛ ففي مؤسسة القضاة والمال، والجيش وولاية الأمصار ظهرت الصفة القيادية في تحديد الاختصاصات عند الخليفة الراشد عثمان t، فقد تم تقسيم الأعمال وحددت قواعد بين العاملين كانت من أهم عوامل النجاح في دولة الخلفاء الراشدين، وبذلك تعامل الخليفة الراشد عثمان مع السُنَّتين الكونية والشرعية في تحديد الاختصاصات([65]).

    تاسع عشر: الاستفادة من أهل الكفاءات:


    إن الإشادة بالأكفاء وإرشاد الأمة إلى احترامهم، وتكريمهم ووضعهم في مواضعهم وعدم هضمهم، والاستفادة من طاقاتهم واختصاصاتهم، إن ذلك مما جعل أهل القرون المفضلة من سلف هذه الأمة ينالون العز والمجد والتمكين في هذه المعمورة.([66]) وقد ظهرت هذه الصفة في شخصية عثمان
    t عندما استفاد من كفاءات زيد بن ثابت واللجنة التي عينت معه في جمع القرآن على حرف واحد.
    هذه بعض الصفات التي تلاحظ في شخصية عثمان t وهي محل قدوة وأسوة لقادة المسلمين وعوامهم، لمن يريد أن يتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين في هذه الحياة.

    إن معرفة صفات الخلفاء الراشدين ومحاولة الاقتداء بهم، خطوة صحيحة لمعرفة صفات القادة الربانيين الذين يستطيعون أن يقودوا الأمة نحو أهدافها المرسومة بخطوات ثابتة، فمن أسباب التمكين لهذا الدين العمل على إيجاد قادة ربانيين، جرى الإيمان في قلوبهم وعروقهم، وانعكست ثماره على جوارحهم، وتفجرت صفات التقوى في أعمالهم وسكناتهم وأحوالهم؛ فالقيادة الربانية الحكيمة هي التي تسعى لتحكيم شرع الله وتفجير طاقات الأمة وتوجيهها، وهي التي تحتضن الإسلام وتنهجه قلبا وقالبا، جوهرا ومنظرا، وعقيدة وشريعة، ودينا ودولة، وهي التي تصبح وتمسي وهمها عقيدتها وأمتها، وهي التي تسعى بكل ما تملك لحل المشاكل التي تواجهها، وتعمل بكل جهد وإخلاص للقضاء على عوائق التمكين الداخلية والخارجية.





    ([1]) فضائل الصحابة (1/597) رقم (791)، إسناده صحيح.

    ([2]) البداية والنهاية (7/153).

    ([3]) جرانه: أي ثبت واستقر.

    ([4]) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، للقادري، ص93.

    ([5]) البخاري رقم (5028).

    ([6]) الخلافة الراشدة، د. يحيى اليحيى، ص420، 421.

    ([7]) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد، رقم (400)، إسناده صحيح.

    ([8]) الموسوعة الحديثية، مسند أحمد رقم (415) صحيح لغيره.

    ([9]) الموسوعة الحديثية، مسند الإمام أحمد رقم (406)، إسناده صحيح.

    ([10]) المصدر نفسه رقم (418) إسناده صحيح.

    ([11]) ألاص: أي راوده فيها.

    ([12]) مسند أحمد رقم (447)، إسناده قوي.

    ([13]) مسند أحمد رقم (464)، إسناده صحيح.

    ([14]) مسند أحمد رقم (513) إسناده حسن.

    ([15]) مسند أحمد رقم (507) إسناده صحيح.

    ([16]) الكفاءة الإدارية في السياسة الشرعية، د. عبد الله قادري، ص65.

    ([17]) مسند أحمد رقم (410)، حسن لغيره.

    ([18]) التاريخ الإسلامي (17، 18/126).

    ([19]) الكفاءة الإدارية، ص69.

    ([20]) التاريخ الإسلامي (18،17/22) نقلا عن تاريخ المدينة المنورة، ص (1027، 1028).

    ([21]) التاريخ الإسلامي (17، 18/22).

    ([22]) فضائل الصحابة رقم (742)، إسناده صحيح وهو رواية أخرى.

    ([23]) التاريخ الإسلامي (17، 18/62).

    ([24]) التبيين في أنساب القرشيين (152).

    ([25]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص48، 49.

    ([26]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، ص43.

    ([27]) طبقات ابن سعد (3/59)، خبر لا بأس به.

    ([28]) تغنيت: من الغناء، تمنيت: من التمني، وهو الكذب واختلاق الباطل.

    ([29]) صحيح التوثيق، ص44.

    ([30]) الصواعق المحرقة لابن حجر الهيثمي (1/237).

    ([31]) البداية والنهاية (7/227).

    ([32]) الأمين ذو النورين، ص194- 196.

    ([33]،3) المصدر نفسه، ص197.



    ([35]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، محمد الوكيل، ص304.

    ([36]) سنن الترمذي، رقم (3785).

    ([37]) جولة تاريخية في عصر الخلفاء الراشدين، ص304.

    ([38]) عثمان بن عفان، صادق عرجون، ص47.

    ([39]) تاريخ الطبري (5/250).

    ([40]) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/474).

    ([41]) سير الشهداء للسخستياني، ص57، 58.

    ([42]) تحقيق مواقف الصحابة من الفتنة (1/472).

    ([43]) منهاج السنة (3/202، 203).

    ([44]) البخاري رقم (695).

    ([45]) أخبار المدينة، لابن شبة (3/236).

    ([46]) الطبقات الكبرى (3/76)، تاريخ الإسلام، عهد الخلفاء، الذهبي، ص476.

    ([47]) تفسير ابن كثير (4/47).

    ([48]) تفسير ابن كثير (2/579).

    ([49]) علو الهمة (3/93).

    ([50]) صفة الصفوة للإمام ابن الجوزي (1/302).

    ([51]) صحيح التوثيق في سيرة وحياة ذي النورين، مجدي فتحي السيد، ص107.

    ([52]) نظام الحكم في عهد الخلفاء الراشدين، حمد محمد الصمد، ص205.

    ([53]) فضائل الصحابة رقم (773)، إسناده حسن.

    ([54]) الزهد للإمام أحمد، ص126.

    ([55]) التاريخ الإسلامي (17، 18/48).

    ([56]، 3) الزهد، ص127. (4) المصدر نفسه، ص129.





    ([59]) التاريخ الإسلامي (17، 18/49). (6) علو الهمة (5/481).



    ([61]) فضائل الصحابة رقم (812)، إسناده صحيح.

    ([62]) الطبقات (3/59).

    ([63]) تحقيق مواقف الصحابة (1/396).

    ([64]) المصنف في الحديث لابن شيبة (3/1023).

    ([65]) الكفاءة الإدارية، ص117.

    ([66]) المصدر نفسه، ص157.





  9. #9
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي



    يتبع. . .





  10. #10
    سرايا الملتقى
    الصورة الرمزية قاصِف
    قاصِف غير متواجد حالياً
    رقم العضوية : 3130
    تاريخ التسجيل : 31 - 12 - 2010
    الدين : الإسلام
    الجنـس : ذكر
    المشاركات : 2,291
    شكراً و أعجبني للمشاركة
    التقييم : 12
    معدل تقييم المستوى : 16

    افتراضي


    الفصل الثالث المؤسسة المالية والقضائية في عهد عثمان

    المبحث الأول المؤسســـة الماليــــــــــــة

    لما تولى عثمان الخلافة لم يغير من سياسة عمر المالية، وإن كان قد سمح للمسلمين باقتناء الثروات وتشييد القصور وامتلاك المساحات الشاسعة من الأراضي، فقد زالت عن المسلمين شدة عمر التي كانت ترهبهم وتخيفهم، والتي كانت تحول دون الكثير مما يشتهون، وكان عهده عهد رخاء على المسلمين([1]).

    أولاً: السياسة المالية التي أعلنها عثمان عندما تولى الحكم:

    وجه عثمان كتابا إلى الولاة وكتابا آخر إلى عمال الخراج، وأذاع كتابا على العامة، وقد ذكرتُ نصوصها عند حديثي عن منهجه في الحكم، وفي ضوء تلك النصوص تكون عناصر السياسة المالية العامة التي أعلنها ثالث الخلفاء الراشدين قد قامت على الأسس العامة التالية:
    * تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية.
    * عدم إخلال الجباية بالرعاية.
    * أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين.
    * إعطاء المسلمين ما لهم من بيت مال المسلمين.
    * أخذ ما على أهل الذمة لبيت مال المسلمين بالحق، وإعطاؤهم ما لهم، وعدم ظلمهم.
    * تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء.
    * تفادي أية انحرافات مالية يسفر عنها تكامل النعم لدى العامة([2]).
    ونفصل فيما يلي هذه الأسس:

    1- نية عثمان بن عفان تطبيق سياسة مالية عامة:


    مما لا شك فيه أن الخليفة الثالث عثمان بن عفان عزم على تطبيق سياسة مالية عامة إسلامية؛ فقد بويع
    t على أساس تطبيق حكم الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وسياسة الخليفتين قبله، وقد طبق أبو بكر t ما نزل به القرآن وما سنَّه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يتعلق بالسياسة المالية وغيرها من الأحكام، وقام عمر بتطوير المؤسسة المالية ونظم قواعدها وأرسى مبادئها وزاد مواردها ورشد إنفاقها، ونهج عثمان طريقهم, واجتهد في بعض الأمور القابلة للاجتهاد، فنفذ حكم الله في الأرض في قضايا الأموال وغيرها؛ فأشرف على دفع الزكاة لبيت المال، وتوزيعها على مستحقيها، وأهل الكتاب في دفعهم الجزية لبيت مال الدولة الإسلامية، وبذلك يدخلون في ذمتها تحميهم وتوفر لهم الأمان وتضفي عليهم سائر خدماتها العامة، والمجاهدون يغنمون الأموال ويرسلون خمسها لبيت مال المسلمين، ويقوم بيت المال بتوزيعها على اليتامى والمساكين وأبناء السبيل وغيرها من وجوه الإنفاق طبقا لقوله تعالى:

    "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وغير ذلك من مصادر الدولة المعروفة. وقد تميزت المالية العامة في عهد ذي النورين والخلفاء الراشدين بأنها مرتبطة بالإسلام وتطبيق تعاليمه وحماية إيراداته، ويساند الإنفاق العام فيها نشر راية الإسلام وخير المسلمين، وهي مرشدة للإنفاق؛ لأن تعاليم الإسلام تمنع الإسراف وتحاربه، والله لا يحب المسرفين، وتمنع السفهاء من التحكم في الأموال وهي مالية عامة خيرة؛ لأن بعض مواردها العامة توجه للبنية الضعيفة من الرعية، وهي نقية من الدنس، ولا تتضمن مواردها كسبًا من حرام؛ لأن الله لا يبارك

    الكسب الحرام.

    2- عدم إخلال الجباية بالرعاية:


    ينبه عثمان بن عفان
    t في كتابه للولاة أن جباية أموال بيت المال كادت تطغى على الواجب الأول للولاة وهي رعاية الرعية، وذلك أن الجباية أحد واجبات الرعية المكلف بها رئيس الدولة الإسلامية، فلا يصح أن تطغى على سائر الواجبات.([3]) وقد استنبط الفقهاء من الهدي النبوي والعهد الراشدي تكاليف الرعاية؛ أي واجبات الخليفة لتحقيق رعاية الأمة كما يلي:

    قال الماوردي:
    والذي يلزمه من الأمور العامة عشرة أشياء:

    أحدها:
    حفظ الدين على أصوله المستقرة وما أجمع عليه سلف الأمة.

    والثاني:
    تنفيذ الأحكام بين المتشاجرين وقطع الخصام بين المتنازعين؛ حتى تعم النصفة فلا يتعدى ظالم ولا يضعف مظلوم.

    والثالث:
    حماية البيضة والذب عن الحريم؛ ليتصرف الناس في المعاش وينتشروا في الأسفار، آمنين من تغرير بنفس أو حال.

    والرابع:
    إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده من إتلاف واستهلاك.

    والخامس:
    تحصين الثغور بالعدة المانعة والقوة الدافعة؛ حتى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون فيها محرما، أو يسفكون فيها لمسلم أو معاهد دمًا.

    والسادس:
    جهاد من عاند الإسلام بعد الدعوة إليه حتى يسلم أو يدخل الذمة، ليقام بحق الله تعالى في إظهاره (الإسلام) على الدين كله.

    والسابع:
    جباية الفيء والصدقات على ما أوجبه نصًّا واجتهادا من غير خوف ولا عسف.

    والثامن:
    تقدير العطايا وما يستحق من بيت المال من غير سرف ولا تقتير، ودفعه في وقت لا تقديم فيه ولا تأخير.

    والتاسع:
    استكفاء الأمناء وتقليد النصحاء فيما يفوض إليهم من الأعمال، ويكله إليهم من الأموال؛ لتكون الأعمال بالكفاءة مضبوطة والأموال بالأمناء محفوظة.

    والعاشر:
    أن يباشر بنفسه مشارفة الأمور وتصفح الأحوال؛ لينهض بسياسة الأمة وحراسة الملة، ولا يعول على التفويض تشاغلا بلذة أو عبادة([4]).
    وبإيجاز، فإن واجبات الخليفة تتفرع عن شرطي عقد البيعة، وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا([5]) اللذين هما مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو خليفته، وإن كان الماوردي والفراء المتعاصران قد تطابقت تحديداتهما لواجبات الإمام، فإنما ذلك اجتهاد منهما حسب حاجة الأمة في عصرها، ولا ينبغي أن تقتصر حقوق الأمة على ما عدده عالم من علمائها أو أكثر مهما بلغ من فضل وسعة علم، ومهما كانت نظرته للموضوع شاملة، هذا إن كان العالم معاصرًا، فكيف إن كانت آراؤه واجتهاداته قد سبقنا بها بقرون.([6]) ولذا فينبغي أن تحدد واجبات الإمام بناء على الشرطين العامين لصحة عقده وهما حراسة الدين وسياسة الدنيا، وينبغي أن تقوم لجان من علماء الأمة بتحديد ذلك لأهل زمانهم([7]).

    هذه بعض تكاليف الرعاية كما أوردها الفقهاء، وهي قابلة للتطوير بما يلائم
    تطور الأزمان والعصور بحيث لا يخالف التطوير نصًّا من نصوص القرآن أو حكمًا من أحكام الدين([8]).

    3- أخذ ما على المسلمين بالحق لبيت مال المسلمين:

    عمال الخراج نواب عن الدولة في استئداء حقوق بيت المال، فإذا أخذوا ما على المسلمين بالحق أدوا واجبهم المنوط بهم، وإذا غالوا في جباية حقوق بيت المال ظلموا الممولين وألحقوا بهم الضرر وحمَّلوهم فوق ما يطيقون، والرسول صلى الله عليه وسلم يحذر من المغالاة في استئداء حقوق بيت المال؛ فقد نهى عن جباية كرائم الأموال في الزكاة، وأمر بالتخفيف في استئداء زكاة الثمر([9]).


    4- إعطاء المسلمين ما لهم من بيت المال بالحق:


    عطاء بيت المال للمسلمين إما أن يكون مباشرا كصرف الزكاة للمستحقين لها، وما يقضي به نظام الأعطيات من توزيع فائض الأموال على المسلمين، أو يكون العطاء العام غير مباشر يتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للرعية، وهذه ينفق عليها من بيت مال المسلمين. وفي كلا العطاءين ينبغي أن يتسم العطاء بالحق، فلا يجوز في العطاء المباشر أن
    يخالف الأسس التي تحددت لوضعه محاباة لبعض الأفراد أو حرمانا أو نقصانا للبعض الآخر دون مبرر، ولا يجوز أن يتأخر العطاء عن موعده بسبب تعقد الإجراءات أو كثرة الحجب التي تحجب أرباب الظلامات عن الوصول لمن بيدهم أمر العطاء لبحث ظلامتهم من تأخير العطاء أو قلته، أو عدم وصوله إليهم، ولا يجوز في العطاء غير المباشر المتمثل في الخدمات العامة التي تؤديها الدولة للشعب أن تكون المنفعة لفرد معين؛ بل يجب أن يعود نفعها على الأمة جمعاء([10]).

    5- عدم ظلم أهل الذمة وأخذ ما عليهم لبيت المال بالحق وإعطاؤهم حقوقهم بالحق كذلك:


    لا يجوز ظلم أهل الكتاب عند أخذ الجزية منهم؛ لأن أهل الكتاب من الذميين الذين يقيمون في الدولة الإسلامية وهم في ذمتها ورعايتها ما داموا يؤدون الجزية، وقد أوصى بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ول
    ى عبد الله بن أرقم على جزية أهل الذمة، فلما ولى عنده ناداه فقال: ألا من ظلم معاهدًا أو كلفه فوق طاقته أو انتقصه أو أخذ منه شيئًا بغير طيب نفسه فأنا حجيجه يوم القيامة. ([11]) واستنادا لذلك فقد أوصى بهم عمر بن الخطاب t حين موته: أوصى الخليفة من بعدي بأهل الذمة خيرا، أن يوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يُكلفوا فوق طاقتهم([12]).

    فإذا آذى عمال الجزية الذميين أو كلفوهم فوق طاقاتهم أو عذبوهم، أو أخذوا الجزية من الشيخ الكبير الذي لا شيء له ولا يستطيع العمل
    ، أو أخذوها من الذمي الذي أسلم، كان هذا لونا من ألوان الظلم الذي نبه عليه الخليفة الثالث في كتابه إلى عمال الخراج بعد ارتكابه مستندا في ذلك لتعاليم الرسول صلى الله عليه وسلم([13]).
    هذا وعلاوة على الجزية يؤدي أهل الذمة الذين يزرعون أرض الخراج -وهي التي آلت للدولة الإسلامية كغنيمة نتيجة للفتح الإسلامي- ما يستحق عليها من خراج لبيت مال المسلمين، ويجب أن يراعى عمال الخراج الحق في تحديد قيمته المستحقة على الأراضي التي يزرعها أهل الذمة، وذلك بمراعاة العوامل التي تحكم تحديده؛ لأن إغفالها كلها أو بعضها يوقع الظلم بأهل الذمة الذين يزرعونها، وهذه العوامل أربعة:

    *
    ما يختص بالأرض من جودة يزكو بها زرعها أو رداءة يقل بها ريعها.

    *
    ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه من الحبوب والثمار، فمنها ما يكثر ثمنه ومنها ما يقل ثمنه فيكون الخراج بحسبه.

    *
    ما يختص بالسقي والشرب؛ لأن ما التزم المئونة في سقية النواضح والدوالي لا يحتمل من الخراج ما يحتمله سقي السيوح والأمطار.

    *
    أن لا يستقضي في وضع الخراج غاية ما تحمله ليجعل فيها لأرباب الأرض بقية يجبرون بها في النوائب والجوائع([14]).

    هذا وإذا كانت الدولة الإسلامية قد أبرمت عهدا أو عقدت صلحا مع أهل الكتاب، فواجب الدولة الإسلامية وعمال خراجها أن يلتزموا بما ورد بها من شروط, ومنها الشروط التي تحدد قيمة ما يدفعونه من جزية أو خراج؛ لأن المسلمين إذا أبرموا عقدا أو عهدوا عهدا التزموا بالوفاء بالعقود والعهود([15]).


    6- عدم ظلم اليتيم:


    لليتيم حقوق في المال العام بنصوص القرآن الكريم، فهو من المستحقين لأموال الزكاة إن كان فقيرا، : "إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ" [التوبة: 60].


    ولليتيم نصيب في خمس الغنائم تطبيقا لقوله جل وعلا: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] ولليتيم نصيب في عطاء بيت المال، فقد كان يفرض للأطفال عموما ومنهم يتامى الأطفال، وإذا كان اليتيم غنيا فيؤدي الزكاة المفروضة على أمواله إذا توافرت, وواجب المصدق أن يأخذ الزكاة بالحق والعدل حتى لا يذهب ظلمه بمال اليتيم أو جزء منه بغير وجه حق([16]).


    7- تخلق عمال الخراج بالأمانة والوفاء:


    : "إِنَّ اللهَ يَأمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا" [النساء: 58].

    و: "وَالَّذِينَ هُمْ لأمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ" [المؤمنون: 8].

    طالب الخليفة الراشد عثمان بن عفان
    عمال الخراج أن يتحلوا بالأمانة وهي صفة لازمة لجميع من يشتغلون بالأموال العامة، وإذا لم تتوافر فيهم هذه الصفة جاروا على حقوق بيت المال وجاروا على الممولين، وانتكست العلاقة بين بيت المال والممولين. والقرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة تنبه وتحض على التزام الأمانة، وطالب الخليفة عثمان كذلك عمال الخراج بأن يتحلوا بالوفاء. وقد ورد الوفاء مطلقا في كتاب الخليفة؛ فيشمل الوفاء لبيت المال بمراعاة أخذ حقوقه كاملة من الرعية، والوفاء للممولين بعدم ظلمهم بالمغالاة في تحديد الفرائض المالية المطلوبة منهم، والوفاء لأهل الذمة بالرفق وحسن المعاملة وتطبيق ما تضمنته شروط الصلح معهم من جزية وخراج دون زيادة([17]).

    8- أثر تكامل النعم على مسار الأمة:


    لم يرد عثمان بن عفان
    أن يترك العامة دون تبصيرهم، فحذرهم من أن تجذبهم الدنيا إلى ملاذها ومتاعها، وخشي أن أمر الأمة صائر إلى الابتداع بعد أن توفرت لهم ثلاث: وهي تكامل النعم، وبلوغ أولاد السبايا، وقراءة الأعاجم.([18]) فعثمان t أدرك أن تكامل النعم لدى البعض سيميل بأولي النعم عن المسار السليم؛ لأن تكامل النعمة بزيادة الأموال لدى أفراد الرعية قد يفسدهم بسبب ما ينفقونه على الترف والفساد([19]), : "وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا" [الإسراء: 16].

    9- المقارنة بين السياسة العمرية والعثمانية:


    هذه السياسة المالية التي أعلنها ذو النورين تكاد تتفق مع السياسة العامة المالية التي نفذها الفاروق حين ولي أمر المسلمين، فقد أعلن ونفذ: أن المال العام لا يصلحه إلا خِلالٌ ثلاث؛ أن يؤخذ بالحق ويعطى في الحق ويمنع في الباطل.([20]) فالسياسة العمرية والعثمانية في المال تنبعان من مشكاة واحدة، وهي مشكاة الإسلام ومبادئه وأصوله وقواعده([21]).


    ثانيًا: توجيهات عثمانية توضح للناس قواعد زكاتهم:


    قال عثمان
    : هذا شهر زكاتكم، فمن كان عليه دين فليؤده حتى تخرجوا زكاة أموالكم، ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا، ومن أخذ منه حتى يأتي هذا الشهر من قابل، قال إبراهيم بن سعد: آراه يعني شهر رمضان.([22]) وقال أبو عبيد: وقد جاءنا في بعض الأثر أن هذا الشهر الذي أراده عثمان هو المحرم،([23]) وبهذا القول أكد عثمان t المبادئ التالية:

    أ-
    مبدأ سنوية الزكاة؛ إذ يشترط لأداء الزكاة -ما عدا زكاة الزروع- حوَلانَ الحول، ويظهر ذلك من قول عثمان أن من أخذ منه لا يؤدي زكاة عن أمواله حتى يأتي نفس الشهر في السنة التالية، فلا تتكرر عليه الزكاة في عام واحد.

    ب-
    إذا أخذنا بقول أبي عبيد أن الشهر الذي قصده عثمان بن عفان هو شهر محرم، فكأنه أراد أن تكون السنة المالية الإسلامية مطابقة للسنة الهجرية؛ فعلى المسلمين بعد مرور سنة هجرية كاملة على ما لديهم من أموال أن يسددوا ما عليها من زكاة في أول السنة الهجرة التالية، وهو شهر المحرم إذا توافرت شروطها.

    ج-
    ويدعو عثمان بن عفان t الناس إلى حساب وعاء الزكاة، فيطلب منهم أداء ما عليهم من ديون حتى تؤخذ الزكاة على الباقي.([24]) ولعل عثمان أراد أن يستحث الناس على أداء ما عليهم من ديون؛ وفاء منهم للدائنين، وتسهيلا لحساب المال الخاضع للزكاة، وحتى يقطع بجدية الدين وعدم تطرق الصورية إليه([25]).

    د-
    يقول عثمان t: ومن لم تكن عنده لم تطلب منه حتى يأتي بها تطوعا. وبذلك يفتح عثمان بن عفان الدعوة إلى التطوع، فقد يرى بعض المسلمين أنهم لا يستحق عليهم زكاة، ومع ذلك يرون التطوع بأداء صدقات من أموالهم يؤدونها لبيت المال، فيقبلها منهم ويضمها إلى موارد الزكاة، وتصرف الدولة منها على نفس مصارف الزكاة.([26]) وقد يكون قول عثمان t: ومن أخذنا منه لم نأخذ منه حتى يأتينا بها تطوعا، أنه يقصد أن لا يجبى بيت المال صدقة الذهب والفضة إلا إذا أتى بها صاحبها لبيت المال، وأما الصدقة التي يكره الناس عليها ويجاهدون على منعها فهي صدقة الماشية والحرث والنخل، وبذلك يكون عثمان قد ترك لأصحاب الأموال أداء الزكاة على ما يعرف بالأموال الباطنة، وهي أموال الذهب والفضة والتجارة، ولا يقبلها منهم إلا إذا أتى بها صاحبها تطوعا([27]). يقول في ذلك أبو عبيد: ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان يبعث مصدقيه إلى الماشية فيأخذونها من أربابها بالكره منهم وبالرضا، وكذلك كانت الأئمة بعده، وعلى منع صدقة الماشية قاتلهم أبو بكر، ولم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد بعده أنهم استكرهوا الناس على صدقات الصامت، إلا أن يأتوا بها غير مكرهين وإنما هي أماناتهم يؤدونها، فعليهم فيها أداء العين والدين؛ لأنها ملك أيمانهم وهم مؤتمنون عليها، وأما الماشية فإنها حكم يحكم بها عليهم، وإنما تقع الأحكام فيما بين الناس على الأموال الظاهرة وهي فيما بينهم وبين الله على الظاهرة والباطنة جميعا([28]).

    1- رأيه في زكاة دين الدائن:

    عن السائب بن يزيد أن عثمان كان يقول: إن الصدقة في الدين الذي لو شئت تقاضيته من صاحبه، والذي هو ملئ تدعه حياء أو مصانعة ففيه الصدقة.([29])
    وعن عثمان t قال: زكِّه -يعني الدين- إذا كان عند الملئ([30]).
    فمن هذين القولين لعثمان بن عفان يبين أن الصدقة واجبة على الدين للدائن على المدين الملئ، ويستطيع أن يحصل من المدين على دينه ولكن يستحي أن يذكر المدين به, أو أن الدائن يدع دينه للمدين مصانعة له، والمصانعة تعني سكوت الدائن عن المطالبة بدينه نظير منفعة يحصل عليها من المدين([31]).

    2- اقتراضه من مصرف الزكاة وإنفاقه للمصالح العامة:

    أخذ عثمان t من أموال الزكاة فأنفق منها في الحرب وفي غير الحرب على المرافق العامة، فأنفق على الجهاد على أن يرد ذلك إذا اتسع المال لرده، ومن حق الإمام أن يقترض من مصرف لمصرف، لا يخالف بذلك الدين، ولا يغير سنة موروثة ما دام مصمما على أن يرد على أموال الصدقة ما أخذ منها.([32])
    وتذهب بعض الآراء إلى أن أحد مصارف الزكاة وهو مصرف «في سبيل الله» يعطي للغازي في سبيل الله من أموال الزكاة؛ لأن انقطاعه للجهاد أقعده عن العمل والكسب، وليس هذا من باب التشجيع على البطالة، فهذا الصنف قد آثر مصلحة الإسلام على مصلحة نفسه, وترك العمل لشخصه ليعمل في مجال أرحب وأوسع وهو العمل لإعلاء كلمة الله ونشر دينه في المعمورة. ويرى بعض العلماء جواز صرف الزكاة في المنافع العامة وما تقتضيه حاجات الأمة([33]).

    3- الإنفاق من الزكاة على الطعام للفقراء وأبناء السبيل:

    سَنَّ عثمان t سُنَّة جديدة، فكان يضع الطعام في المسجد في رمضان وقال: للمتعبد الذي يتخلف في المسجد، وابن السبيل، والمعترين.([34]) والخليفة عثمان t بذلك يكرم المسلمين من بيت المال، وفي ذلك اقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان أجود الناس وأجود ما يكون في رمضان. وهذه السنة التي استنها عثمان ترغب المسلمين في الاعتكاف في المساجد ما دام أكلهم معدًّا، وفي ذلك تشجيع على إحياء سنة الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في الاعتكاف([35]).

    4- إنشاء منازل للضيافة من أموال الزكاة:

    بلغ عثمان أن أبا سمال الأسدي ومعه نفر من أهل الكوفة ينادي مناد لهم إذا قدم الميار([36]): أن من كان من القبائل ليس لقومهم بالكوفة منزل فمنزله على أبي سمال، فاتخذ عثمان بعض الدور كمنازل للضيافة ينزل بها الغرباء ممن ليس لهم منزل، ومن هذه الدور منزل عبد الله بن مسعود في هذيل، وكان الأضياف ينزلون داره في هذيل إذا ضاق عليهم ما حول المسجد([37]).

    5- العطاء من بيت المال لكل مملوك:

    مما زاد عثمان t على يده أن رد على كل مملوك بالكوفة من فضول الأموال ثلاثة من كل شهر يتسعون بها من غير أن ينقص مواليهم من أرزاقهم.([38]) والغالب على أن مصدر هذه الأموال التي وزعها عثمان على كل مملوك هو أموال الزكاة باعتبار أن لهم فيها نصيبا؛ لأنهم أحد المصارف الثمانية التي حددتها آية الزكاة، وهي مصرف "وَفِي الرِّقَابِ"[التوبة: 6]([39]).

    ثالثـًا: خمس الغنائم:


    بدأ الجهاد في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم, واستمر في عهد أبي بكر وعمر, وكذلك في عهد الخليفة عثمان بن عفان، وكانت نتيجة ذلك انتشار الإسلام واتساع رقعة الدولة الإسلامية، وكانت فتوحات عهد عثمان كبيرة حققت غنائم كثيرة إلى بيت المال، منها الخمس، كما أنه آل إلى بيت المال جزية من آثر البقاء على دينه من أهل الكتاب ولم يحارب، فهناك ارتباط إذن بين بيت المال والفتوحات الإسلامية، فقد قام بيت المال في عهد عثمان في تمويل هذه الفتوحات، سواء بما كان يدفعه للجنود من مرتبات أو لشراء الأسلحة والعتاد بجانب التطوع بالأموال والأنفس، وإذا تحقق النصر فرضت الجزية على من لم يسلم من أهل الكتاب والخراج على الأرض التي أخذت عنوة، وإذا أسلم أهل البلاد سددوا الزكاة إذا بلغت أموالهم نصابا وتوافرت شروطها باعتبارها من أركان الإسلام، ولا يكمل إسلام المسلم إلا بأدائها، وهذه كلها تساهم في زيادة الإيرادات العامة للدولة الإسلامية، وأحل الله للمسلمين غنائم الحرب، ويوزع أربعة أخماسها بين الفاتحين، والخمس الباقي يؤول لبيت مال المسلمين([40]).

    وفيما يلي بعض المسائل التي أسفر عنها تطبيق السياسة المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بشأن خمس غنائم الفتوحات:

    1- لم يسهم للصبي في الغنائم في عهد عثمان بن عفان:

    عن تميم بن المهري قال: شهدت فتح الإسكندرية في المرة الثانية، فلم يسهم لي حتى كاد أن يقع بين قومي وبين قريش منازعة، فقال بعض القوم: أرسلوا إلى بصرة الغفاري وعقبة بن عامر الجهني، فإنهما من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسألوهما عن هذا، فأرسلوا إليهما فسألوهما فقالا: انظروا فإن كان أنبت([41]) فأسهموا له، فنظر إليَّ بعض القوم فوجدوني قد أنبت فأسهموا لي([42]).
    ومعنى ذلك أنه لا يسهم للصبي ولا للمرأة، إنما يرضخ لهم؛ أي يعطون شيئا قليلا لمساعدتهم في غزوات المسلمين، وهذا ما كان يطبق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم([43]).

    2- السلب للقاتل في عهد عثمان كما كان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم:

    السلب هو ما كان على القتيل في الحرب وما كان من سلاح، وما كان تحته من فرس، وقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلب للقاتل؛ فعن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم حنين: «من قتل قتيلا له بينة فله سلبه». ([44]) ومفاد هذا الحديث أنه لا يستحق للقاتل السلب إلا بعد أن يقيم البينة على أنه هو
    الذي قتله، حتى إذا تنازع اثنان كل منهما يدعى أنه قتله فالسلب لمن يقيم البينة منهما([45]).


    وقد حدث بعد انتقاض الإسكندرية وجاءت الروم وعليهم منويل الحصى وأرسوا بالإسكندرية، وتركهم عمرو حتى يسيروا إليه فيصيبوا من مروا به في البلاد فخزي الله بعضهم ببعض، فخرجوا من الإسكندرية ومعهم من نقض من أهل القرى، فجعلوا ينزلون القرية فيشربون خمورهم، ويأكلون أطعمتها وينتهبون ما مروا به، فلم يعرض عمرو حتى بلغوا نفيوس فلقوهم في البر والبحر، فحاربوا بالنشاب ثم خرجوا من البحر، فاجتمعوا هم والذين في البر واستمروا في حرب النشاب، وبرز بطريق ممن جاء من أرض الروم على فرس له عليه سلاح مذهب، فدعا إلى البراز فبرز له رجل من زبيد يقال له (حومل) يكنى أبا مذجح، فاقتتلا طويلا برمحين يتطاردان، ثم ألقى البطريق الرمح وأخذ السيف، وألقى حومل رمحه وأخذ بسيفه، وجعل عمرو يصيح: أبا مذجح فيجيبه: لبيك، والناس على شاطئ النيل في البر على تعبئتهم وصفوفهم، فتجاولا ساعة بالسيفين ثم حمل عليه البطريق فاحتمله، ثم أخذ حومل خنجرا كان في منطقته أو في ذراعه فضرب به نحر عدوه فأوتر قوته فأثبته ووقع عليه فأخذ سلبه، ثم مات حومل بعد ذلك بأيام رحمة الله عليه، ثم شد المسلمون حتى ألحقوهم بالإسكندرية، ففتح الله عليهم وقتل منويل الحصى([46]).


    3- قيمة الغنائم ونصيب بيت المال في أحد فتوحات عثمان:

    من حديث عبد الملك بن مسلمة عن غيره قال: غزونا مع عبد الله بن سعد إفريقية فقسم بيننا الغنائم بعد إخراج الخمس، فبلغ سهم الفارس ثلاثة آلاف دينار، للفرس ألفا دينار ولفارسه ألف دينار، وللراجل ألف دينار، فقسم لرجل من الجيش توفى بذات الحمام فدفع لأهله بعد موته ألف دينار.([47]) ومن حديث لعثمان بن صالح وغيره قال: فكان جيش عبد الله بن سعد ذلك عشرين ألفا، ومن المعروف أن يؤول الخمس لبيت المال، استنادا إلى قول الله تعالى: "وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" [الأنفال: 41] وقد رفع نصيب الرسول صلى الله عليه وسلم وذي القربى في عهد أبي بكر t بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم ووجِّه إلى السلاح والكراع، وسايره عمر بن الخطاب t من بعده في التطبيق، وكذا عثمان بن عفان t، والأربعة أخماس الباقية من الغنائم توزع على الفاتحين بنسبة 3 للفارس وفرسه، 1 للراجل. فمن الحديثين السابقين يمكن حساب قيمة الخمس الذي آل لبيت المال وكذلك قيمة الغنائم كلها، فبافتراض أن الفوارس عشر الجيش الذي بلغ عشرين ألفا، وأن الباقين من الراجلين يكون الحساب كالآتي:

    2000 فارس صلى الله عليه وسلم 3000 دينار = 6000.000 دينار.


    18000 راجل صلى الله عليه وسلم 1000 دينار = 18000.000 دينار.


    مجموع ما خص المحاربين = 24 مليون دينار، وهو ما يمثل أربعة أخماس قيمة الغنائم، ويكون نصيب بيت المال خمس الغنائم؛ أي = 6 ملايين دينار، ويكون مجموع ما غنمه المسلمون = 30 مليون دينار([48]).


    4- الإنفاق العام من خمس الغنائم:

    ينفق خمس الغنائم طبقا لنص الآية للرسول صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل بحق الخمس لكل منهم، وأنه بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم آل نصيبه ونصيب ذي القربى إلى بيت المال لينفق منها على الكراع والسلاح، وقد استنفد الخليفة الراشد عثمان t نصيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وذي القربى الذي آل إلى بيت المال على الإنفاق على الكراع والسلاح لكثرة الفتوحات التي تمت في عهده وما استلزمته من أسلحة وخيول.([49])

    5- نجاح السياسة المالية في تمويل فتوحات الإسلام في عهد عثمان:

    من ضمن التحديات التي واجهها عثمان t انتكاس بعض البلاد المفتوحة، واستطاع عثمان t إجبار البلاد التي نقضت العهد على الالتزام بعهودهم مع الدولة الإسلامية والانصياع لحكمها.

    وفي ضوء ما تم من فتوحات جديدة فإنه يمكن القول: إن تنفيذ السياسة المالية فيما يتعلق بهذه الفتوح قد أسفر عن قيام المالية العامة في عهد عثمان بن عفان بالمطلوب منها، سواء من ناحية تمويلها لهذه الفتوح أو بما حققته الانتصارات من غنائم كثيرة حصل بيت المال على نصيبه منها أو من موارد أخرى، وهي زكاة من أسلم من أهل الأمصار، وجزية من أبى الإسلامَ من أهل الكتاب وخراج أراضيهم([50]).

    رابعًا: الإيرادات العامة من الجزية في عهد عثمان:

    1- استقرار المسائل الفنية للجزية في عهد عثمان
    :
    استقرت أحكام الجزية وقواعدها ونظام تطبيقها وتحصيلها في عهد عمر بن الخطاب، ولذلك كان دور بيت المال في عهد عثمان أن يتلقى ما يتم تحصيله من جزية بعد الاتفاق على قيمتها، وأن تقر الدولة ما تم عقده من صلح في عهود سابقة أو إقرار صلح جديد، وأن تتكفل الدولة لمن أدوا الجزية بالحقوق التي تترتب على هذا الأداء([51]).

    2- نماذج مما آل لبيت المال من إيرادات الجزية:


    أ-
    غزا الوليد بن عقبة في إمارته على الكوفة في عهد عثمان أذربيجان، وصالح أهلها على ثمانمائة ألف درهم حبسوها عند وفاة عمر، فوطئهم بالجيش وانقادوا له وقبض
    منهم المال([52]).

    ب-
    لما وجه عثمانُ عبدَ الله بن سعد إلى إفريقية كان الذي صالحهم عليه بطريق إفريقية جرجير ألفي ألف دينار وخمسمائة ألف دينار وعشرين ألف دينار، وكان الذي صالحهم عليه عبد الله ثلثمائة قنطار ذهب (ولعل ذلك يعادل المبلغ الأول). ([53])

    ج-
    صلح قبرص وقع على جزية سبعة آلاف دينار يؤدونها إلى المسلمين([54]).

    ح-
    صالح سعيد بن صالح أهل جرجان وكان يجبون أحيانا مائة ألف، ويقولون: هذا صلحنا، وأحيانا مائتي ألف وأحيانا ثلاثمائة ألف([55]).

    د-
    غلب عبد الله بن عامر على نيسابور وخرج إلى سرخس، فأرسل إليه أهل مرو يطلبون الصلح، فبعث إليهم ابن حاتم فصالح مرزبان مرو على ألفي ألف، وقال آخر: صالحهم على ستين ألف درهم([56]).

    و-
    سار الأحنف بن قيس إلى بلخ فحاصرهم، فصالحه أهلها على أربعمائة ألف، فرضي منهم بذلك، واستعلم ابن عمه وهو أسيد بن المتشمس ليأخذ منهم ما صالحوه عليه([57]).

    3- عثمان بن عفان ينفذ كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم لأهل نجران:

    كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أقر أهل نجران على شروط اشترطها عليهم واشترطوها هم، وكتب لهم بذلك كتابا يوضح هذه الشروط ومنها دفعهم الجزية ومقدارها، ثم جاءوا بعد الرسول صلى الله عليه وسلم فكتب لهم أبو بكر t كتابا بهذه الشروط، ثم جاءوا من بعد أن استخلف عمر t إليه، وكان عمر قد أجلاهم عن نجران اليمن وأسكنهم بنجران العراق؛ لأنه خافهم على المسلمين وكتب لهم كتابا،([58]) فلما قُبض عمر t واستخلف عثمان بن عفان t أتوه إلى المدينة، فكتب لهم إلى الوليد بن عقبة وهو عامله الكتاب التالي: (بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عثمانَ أميرِ المؤمنين إلى الوليد بن عقبة سلام الله عليك، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن الأسقف والعاقب وسراة أهل نجران الذين بالعراق أتوني، فشكوا إليَّ وأروني شرط عمر لهم، وقد علمت ما أصابهم من المسلمين، وإني قد خففت عنهم ثلاثين حلة من جزيتهم وتركتها لوجه الله تعالى جل ثناؤه، وإني وفيت لهم بكل أرضهم التي تصدق عليهم عمر عقبى مكان أرضهم باليمن، فاستوصِ بهم خيرا فإنهم أقوام لهم ذمة. وكانت بيني وبينهم معرفة، وانظر صحيفة كان عمر كتبها لهم فأوفهم ما فيها، وإذا قرأت صحيفتهم فارددها عليهم، والسلام.([59]) وكان ذلك في النصف من شعبان سنة سبع وعشرين. ([60])

    ومما سبق يتضح منه أمور:


    أ-
    أن عثمان t أوفى بعهد الرسول صلى الله عليه وسلم، وعهد صاحبه -رضي الله عنهما- من بعده، وأن ذلك ينبع من مبدأ عام في الإسلام، وهو أن من عقد عقدا أو عهد عهدا أو وعد وعدا أوفى به.

    ب-
    خفف عثمان عنهم الجزية ووفى لهم بكل أرضهم، وطلب من عامله الوليد بن عقبة أن يوفي لهم بما ورد في كتاب عمر t، وأن يستوصي بهم خيرا لأنهم أقوام لهم ذمة([61]).

    4- أهل الكتاب في ذمة المسلمين ما داموا يؤدون الجزية:

    بعد انتصار عمرو بن العاص في الإسكندرية، وكان قد جمع من القرى أثناء الحرب ما أصاب أهل القرى، فجاءه أهل تلك القرى ممن لم يكن نقض، فقالوا: قد كنا على صلحنا، وقد مر علينا هؤلاء اللصوص (أي الروم) وأخذوا متاعنا ودوابنا، وهو قائم بين يديك، فرد عليهم عمرو ما كان لهم من متاع عرفوه، وأقاموا عليه البينة. وقال بعضهم لعمرو بن العاص: ما حل لك ما صنعت بنا، كان لنا أن تقاتل عنا لأنا في ذمتك ولم ننقض، فأما من نقض فأبعده الله([62]). فانظر كيف نظام الجزية يرتب حقوقا تمسكوا بها، وهي حمايتهم نظير ما يدفعون بالرغم من أنهم لا يشتركون في الدفاع عن البلاد مع المسلمين، وإنما يدفعونها نظير حقوق يحصلون عليها من الدولة الإسلامية، ومن هذه الحقوق حق الحماية وحق الرعاية، وقد أقرهم عمرو بن العاص على هذه الحقوق ورد إليهم أموالهم.([63])

    5- مشاركة أهل الذمة في الأعباء العامة في عهد عثمان:

    ومما يذكر بشأن فتح الإسكندرية الثاني في خلافة عثمان بن عفان مما يتصل بالجزية أن صاحب اخنا -وكان اسمه طلما-، قدم على عمرو بن العاص فقال: أخبرنا ما على أحدنا من الجزية فيصبر لها؟ فقال عمرو -وهو يشير إلى ركن كنيسة-: إنما أنتم خزانة لنا إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، فغضب صاحب اخنا فخرج إلى الروم فقدم بهم، فهزمهم الله وأسر، فأتي به إلى عمرو، فقال له الناس: اقتله، فقال: لا، وقيل: إن عمرا لما أتى به سوَّره وتوَّجه وكساه برنس أرجوان، وقال له: ائتنا بمثل هؤلاء، فرضى بأداء الجزية، فقيل لطلما: لو أتيت ملك الروم، فقال: لو أتيته لقتلني، وقال: قتلت أصحابي([64]).
    وعندما نحلل قول عمرو بن العاص: إنما أنتم خزانة لنا، إن كثر علينا كثرنا عليكم، وإن خفف عنا خففنا عنكم، نستنتج بعض المبادئ للسياسة المالية في عهد عثمان بالنسبة لغير المسلمين، منها:

    أ-
    أهل الذمة يساهمون في بيت مال المسلمين بما يؤدونه من جزية، فهم خزانة لبيت المال، يحصل منها بيت المال على نصيبه في أموالهم على هيئة جزية.

    ب-
    أن هذا النصيب في أموال أهل الذمة يتحدد في ظل الأعباء الملقاة على الدولة، فإن كبر هذا العبء ارتفعت قيمة الجزية، وإن خف هذا العبء خفت قيمة الجزية.

    ج-
    هذا التحول في قيمة الجزية -ارتفاعا وانخفاضا- مع أعباء الحكم ينبثق من مبدأ المشاركة المالية من مواطني الدولة في الأعباء، بحيث يساهم كلٌّ على قدر طاقته وبما يحقق العدالة في توزيع الأعباء، وفي ظل الوصايا التي أوصى بها الرسول الكريم بحسن معاملة أهل الذمة عامة([65]).

    خامسًا: الإيرادات العامة من الخراج والعشور في عهد عثمان:


    1- الخراج:

    امتدت فتوحات الإسلام في عهد عثمان بن عفان t، ونتج عن هذه الفتوحات أن دخلت الأرض الزراعية للبلاد المفتوحة في حوزة الدولة الإسلامية، وكان عمر t قد اعتبرها فيئا للمسلمين، وأبقى عليها أهلها من أهل الكتاب الذين آثروا الإبقاء على دينهم يزرعونها، ويؤدون عنها خراج الأرض لبيت مال المسلمين، وقد ساهم خراج هذه الأراضي في زيادة إيرادات بيت المال في عهد عثمان t بسبب امتداد الفتوحات الإسلامية في عصره([66]).

    2- عشور التجارة:

    استقر نظام العشور في عهد الفاروق على الأسس والقواعد التي وضعها عمر t، وفي عهد عثمان بن عفان يبدو بصفة عامة أن إيرادات بيت المال زادت من عشور التجارة نتيجة لزيادة رقعة الدولة الإسلامية، بسبب الفتوحات التي تمت في عهده ونتيجة لزيادة الثروات لدى البعض، مما زاد القوة الشرائية بصفة عامة خصوصا في السنوات الأولى في عهد عثمان بن عفان التي اتسمت بالاستقرار، وزيادة القوة الشرائية تزيد الطلب على السلع، وزيادة الطلب على السلع تدعو إلى تنشيط استيرادها وخضوعها لعشور التجارة متى توافرت شروط الإخضاع، ومن العوامل التي أدت إلى زيادة حصيلة عشور التجارة في عهد عثمان بن عفان ارتفاع الأسعار، وارتفاع أسعار السلع يؤدي بالتالي إلى زيادة حصيلة عشور التجارة منها, لأنها ضريبة قيمية تؤخذ نسبة معينة على قيمة السلعة، وليس نوعية تؤخذ من نوع السلعة([67]).

    سادسًا: سياسة عثمان بن عفان في إقطاع الأرض:

    مضى أبو بكر t في تطبيق السياسة النبوية في إقطاع الأراضي للناس طلبا لاستصلاحها؛ فقد أقطع الزبير بن العوام أرضا مواتا ما بين الجرف وقناة([68])، وأقطع مجاعة ابن مرارة الحنفي الخضرمة (قرية كانت باليمامة). ([69]) وأراد إقطاع الزبرقان بن بدر، ثم عدل عن ذلك لاعتراض عمر t، كما أراد إقطاع عيينة بن حصن الفزاري والأقرع بن حابس التميمي أرضا سبخة (ليس فيها كلأ ولا منفعة) أرادا استصلاحها، ثم عدل عن ذلك أخذًا برأي عمر t في عدم الحاجة لتأليفهما على الإسلام، وقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ ذليل، وإن الله -عز وجل- قد أعز الإسلام فاذهبا فاجهدا جهدكما.

    ومن الواضح أن اعتراض عمر ليس على مبدأ الإقطاع لاستصلاح الأراضي بل على أشخاص بعينهم لا يرى تأليفهم على الإسلام، وقد توسع عمر
    t في إقطاع الأرض لغرض استصلاحها جريا على السياسة النبوية، فقد أعلن: يا أيها الناس، من أحيا أرضًا ميتًا فهي له.([70]) وهناك آثار ضعيفة تؤكد انتزاع عمر t ملكية الأرض المقطعة إذا لم يتم استصلاحها.([71]) وتحدد رواية ضعيفة لذلك ثلاث سنوات من تاريخ الإقطاع، وقد ثبت إقطاع عمر t لخوان بن جبير أرضا مواتا, وللزبير بن العوام أرض العقيق جميعها، ولعلي بن أبي طالب أرض ينبع، فتدفق فيها الماء الغزير فأوقفها علي t صدقة على الفقراء.([72])

    ولما تولى عثمان
    t الخلافة توسع في الإقطاع وخاصة في المناطق المفتوحة؛ حيث ترك عدد من الملاكين أراضيهم فارين، فصارت صوافي تقوم الدولة باستثمارها، فأقطع عثمان t منها خوفا من بوارها([73])، ولكن الإمام أحمد يرى أنه أقطع من السواد أيضا، ومما لا شك فيه أن الصوافي قد يقع كثير منها في أرض السواد، وعلى أية حال فإن الإقطاع من الصوافي رفع غلتها من تسعة ملايين درهم (9000000 درهم) سنويا في خلافة عمر t إلى خمسين مليون درهم (50.000.000 درهم) في خلافة عثمان t، مما يدل على نجاح سياسته في إدارة الصوافي. وتذكر المصادر قائمة بأسماء الذين أقطعهم عثمان t ومعظمهم ليسوا من قريش، ومعظم الروايات في إقطاع عثمان t ضعيفة، وهي بالجملة تثبت توسعه في الإقطاع، ومن المفيد ذكر أسماء المقطعين وهم:

    *
    عبد الله بن مسعود الهذلي (أرض بين نهري بيل وبين السواد).

    *
    عمار بن ياسر (أستينيا).

    *
    خباب بن الأرت التميمي (صعنبي – قرية بالسواد).

    *
    عدي بن حاتم الطائي (الروحاء – قرية من قرى بغداد على نهر عبس)

    *
    سعد بن أبي وقاص الزهري القرشي (قرية هرمز ببَرِّ فارس).

    *
    الزبير بن العوام.

    *
    أسامة بن زيد الكلبي.

    *
    سعيد بن زيد العدوي القرشي.

    *
    جرير بن عبد الله البجلي (أرض على شاطئ الفرات).

    *
    ابن هبار.

    *
    طلحة بن عبيد الله التميمي القرشي (النشاستبح - ضيعة بالكوفة).

    *
    وائل بن حجر الحضرمي (أرض توالي قرية زرارة بالكوفة).

    *
    خالد بن عرفطة القضاعي (أرض عند حمام أعين بالكوفة).

    *
    الأشعث بن قيس الكندي (طيزنباذ - موضع بين الكوفة والقادسية).

    *
    أبو مريد الحنفي (أرض بالأهواز على نهر تيري).

    *
    نافع بن الحارث بن كلدة الثقفي (قطيعة بشط عثمان بالبصرة)

    *
    أبو موسى الأشعري (قطيعة بحمام عمرة).

    *
    عثمان بن أبي العاص الثقفي (شط عثمان بالبصرة).

    ويبدو أن جلاء أهل هذه الأراضي عنها صيَّرها مواتا، وأقطعها عثمان
    t لإحيائها، ويبدو أن معاوية بن أبي سفيان أقطع قطائع في سواحل الشام لتعميرها وإعدادها لمواجهة هجمات الروم، وكذلك أقطع قطائع بأنطاكية بأمر عثمان، وآخر بقاليقلا([74])، وأما إقطاعه فدك لمروان بن الحكم فلم يعرف من طريق صحيحة، وقيل: إن الذي أقطع فدك لمروان هو معاوية بن أبي سفيان([75]).

    إن سياسة عثمان في إقطاع الأراضي ساهم في زيادة موارد بيت مال المسلمين بما يؤديه الجميع من زكاة على أموالهم إذا توافرت شروطها، وقد نجح مشروع عثمان في إقطاع الأرض بدليل زيادة إيراد الدولة من أملاكها الخاصة في العراق؛ إذ بلغت خمسين ألف ألف درهم بعد أن كانت 900.000 درهم في عهد الفاروق([76]).


    سابعًا: سياسة عثمان في حمى الأرض:

    وهي أراض خصصت لرعي الإبل والخيل التي تملكها الدولة، وقد استمرت حماية وادي النقيع في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما؛ حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حماه للخيل([77]), وطوله ثمانون كيلومترا، ويبدأ جنوب المدينة بـ 40 كيلومترا.([78]) وقد كثرت المناطق المحمية في خلافة عمر t لكثرة ما تملكه الدولة من الإبل والخيل المعدة للجهاد، ومن ذلك حمى الربذة لنعم الزكاة، وعين عليه مولاه هنِّي وأوصاه بالسماح لأصحاب الإبل القليلة بالرعي فيه دون الأغنياء، وحمى أرضا في ديار بني ثعلبة رغم احتجاجهم على ذلك فقد أجابهم: البلاد بلاد الله، تحمى لنعم مال الله.([79]) ونهج عثمان نهج من سبقه في الحمى بسبب اتساع الدولة وازدياد الفتوحات في عهده، وقد اقتصر في الحمى على صدقات المسلمين لحمايتها، وعلى هذا فإن عثمان t زاد في الحمى لما زادت الرعية، وإذا جاز أصله للحاجة إليه جازت الزيادة لزيادة الحاجة([80]).

    ولما كان أبو بكر وعمر قد حميا دون أن ينكر عليهم أحد ذلك، فإن عثمان وسع الحمى لكثرة إبل الصدقة وماشيتها، وكثرة الخصومات بين رعاة ماشية الصدقة، فلا اعتراض على فعله([81]), بل ما فعله أبو بكر وعمر وعثمان في الحمى قد اشتهر ذلك بين الصحابة فلم ينكر عليهم منكر، ويعتبر ذلك إجماعا.([82]) وقد حكى الإجماع ابن قدامة([83]).


    ثامنًا: أنواع النفقات العامة في عهد عثمان:


    1- نفقات الخليفة:

    كان عثمان t لا يأخذ من بيت مال المسلمين شيئا؛ فقد كان أكثر قريش مالا وأجدهم في التجارة، فكان ينفق على أهله ومن حوله من ماله الخاص.

    2- صرف مرتبات الولاة من بيت المال:

    في عهد عثمان t كانت الدولة الإسلامية مقسمة إلى ولايات، وكان على كل ولاية وال يعينه الخليفة يأخذ مرتبه من بيت المال، ويدير شئون الولاية طبقا لأحكام الشريعة الإسلامية، وإذا لم يعين الخليفة ممثلا له على بيت مال الولاية، فإنه يدخل في اختصاص الوالي الإشرافُ على جباية موارد الولاية، وهي الجزية والخراج وعشور التجارة ينفق منها على شئون الولاية، والفائض يرسله إلى بيت مال المسلمين في المدينة، أما الزكاة التي تحصل من أغنياء الولاية فكانت تصرف على فقرائهم([84]).

    3- الإنفاق من بيت المال على مرتبات الجند:

    كان بيت المال يدفع مرتبات للجند علاوة على ما يحصلون عليه من نصيب في الغنائم، وكان جند كل ولاية يحصلون على مرتباتهم من بيت مال الولاية، فمثلا بالنسبة لجند مصر كتب عثمان ابن عفان إلى عبد الله بن سعد والي مصر الكتاب التالي لصرف مرتبات الجند المرابطين في الإسكندرية: (قد علمت كيف كان هم أمير المؤمنين بالإسكندرية وقد نقضت الروم مرتين، فالزم الإسكندرية رابطتها ثم أجرِ عليهم أرزاقهم وأعقب بينهم في كل ستة أشهر) ([85]).

    4- الإنفاق العام على الحج من بيت المال:

    كان الإنفاق العام على الحج في عهد عثمان t من بيت المال، وكانت كسوة الكعبة من القباطي، وهو ثياب من كتان من نسيج مصر([86]).

    5- تمويل إعادة بناء المسجد النبوي من بيت المال:

    كلم الناس عثمان بن عفان أول ما تولى الخلافة أن يزيد في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ كان يضيق بالناس في صلاة الجمعة بسبب امتداد الفتح وزيادة سكان المدينة زيادة عظيمة، فاستشار عثمان أهل الرأي فأجمعوا على هدم المسجد وبنائه وتوسيعه، فصلى عثمان الظهر بالناس ثم صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إني قد أردت أن أهدم مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأزيد فيه وأشهد أني سمعت رسول الله يقول: «من بنى مسجدا بنى الله له بيتا في الجنة» ([87]), وكان لي فيه سلف وإمام سبقني وتقدمني عمر بن الخطاب كان قد زاد فيه وبناه، وقد شاورت أهل الرأي من أصحاب رسول الله، فأجمعوا على هدمه وبنائه وتوسيعه، فحسن الناس يومئذ ذلك ودعوا له، فأصبح فدعا العمال وباشر ذلك بنفسه([88]).

    6- تمويل توسعة المسجد الحرام من بيت المال:

    كانت الكعبة أيام الرسول صلى الله عليه وسلم قائمة وليس حولها إلا فناء ضيق يصلي الناس فيه، وظل المسجد كذلك في خلافة أبي بكر، وفي عهد عمر وسع المسجد فاشترى دورا حول الكعبة وهدمها وأدخلها في بيت الله الحرام وأحاطها بجدار قصير، وأدخل إنارة المسجد ليلا؛ وذلك لأن المسجد كان قد ضاق بالحجاج الذين يأتون لأداء فريضة الحج بعد أن امتدت فتوحات الإسلام ودخل الناس في دين الله أفواجا، فلما ضاق المسجد ثانية في عهد عثمان احتذى بمثل عمر وأضاف إلى الكعبة دورا اشتراها وأحاطها بجدار قصير لا يرتفع إلى قامة الرجل كما فعل عمر من قبل.([89]) كما كان الولاة يبنون المساجد في ولاياتهم وينفقون عليها من بيت مال الولاية، كما حدث عند بناء مسجد الرحمة بالإسكندرية، ومسجد في اصطخر في فتوحات المشرق([90]).

    7- الإنفاق على إنشاء أول أسطول بحري:

    ساهم بيت مال المسلمين في إنشاء أول أسطول بحري في الإسلام في عهد عثمان، وسيأتي دور هذا الأسطول في الفتوحات الإسلامية بإذن الله تعالى عند حديثنا عن الفتوحات([91]).

    8- الإنفاق على تحويل الساحل من الشعيبة إلى جدة:

    في سنة ست وعشرين هجرية كلم أهل مكة عثمان t أن يحول الساحل من الشعيبة وهي ساحل مكة قديما في الجاهلية إلى ساحلها اليوم وهي جدة لقربها من مكة، فخرج عثمان إلى جدة ورأى موضعها وأمر بتحويل الساحل إليها، ودخل البحر واغتسل فيه وقال إنه مبارك، وقال لمن معه: ادخلوا البحر للاغتسال إلا بمئزر، ثم خرج من جدة من طريق عسفان إلى المدينة وترك الناس ساحل الشعيبة في ذلك الزمان واستمرت جدة بندرا إلى الآن لمكة المشرفة([92]).

    9- تمويل حفر الآبار من بيت مال المسلمين:

    ومن الأعمال التي مولها بيت مال المسلمين في عهد عثمان حفر بئر للشرب بالمدينة، وتسمى بئر أريس وهي على ميلين من المدينة وكان ذلك في سنة ثلاثين هجريا، وحدث أن قعد عثمان على رأس البئر وكان بإصبعه خاتم رسول الله، فانسل الخاتم من إصبعه فوقع في البئر، فطلبوه من البئر ونزحوا ما فيها من الماء فلم يقدروا عليه، فجعل فيه مالا عظيما لمن جاء به، واغتم لذلك غما شديدا فلما يئس من العثور على الخاتم صنع خاتما آخر مثله من فضة على مثاله وشبهه ونقش عليه (محمد رسول الله) فجعله في أصبعه حتى قتل، فلما قتل ذهب الخاتم من يده فلم يدر من أخذه([93]).

    10- الإنفاق على المؤذنين من بيت المال:

    كان عثمان t أول من رزق المؤذنين من بيت المال، قال الإمام الشافعي: (قد أرزق المؤذنين إمام هدى عثمان بن عفان([94])، وقد جعل عثمان t على الأذان جعالة، ولا يستأجر استئجارا) ([95]).

    11- تمويل أهداف الإسلام العليا:

    يتضح من دراسة النفقات العامة السابقة من بيت المال أنها ساهمت في تمويل الأهداف العليا للدولة الإسلامية، فضلا عن الإنفاق العام على إدارة الدولة ومصالح الرعية، ثم الإنفاق على نشر الإسلام كي تكون كلمة الله هي العليا. وتم تمويل إنشاء أول أسطول بحري للدولة الإسلامية، كما تم تعمير بيوت الله بالإنفاق على إقامة المساجد وتجديدها ورزق المؤذنين، والولاة، والقضاة والجند، وعمال الدولة، كما تم الصرف على رحلات الحج إلى بيت الله الحرام، وكسوة الكعبة وهي قبلة الإسلام والمسلمين، كما أن بيت مال المسلمين قدم أمواله لحفر الآبار ليشرب منها الغادي والرائح من مواطني الدولة الإسلامية، ومن مصادر الدولة، كالزكاة وخمس الغنائم، ثم تمويل شرائح المجتمع الضعيفة في الدولة الإسلامية وهم الفقراء والمساكين واليتامى، وفي مساندة الغرباء وأبناء السبيل وفك الرقاب([96]).

    تاسعًا: استمرار نظام الأعطيات في عهد عثمان بن عفان:


    استمر نظام الأعطيات في عهد عثمان كما كان في عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، فقد اعتمد السابقة في الدين أساسا للعطاء، وكتب بذلك لواليه على الكوفة بقوله: أما بعد، ففضل أهل السابقة والقدمة ممن فتح الله عليه تلك البلاد، وليكن من نزلها بسببهم تبعا لهم، إلا أن يكونوا تثاقلوا عن الحق وتركوا القيام به، وقام به هؤلاء، واحفظ لكل منزلته، وأعطهم جميعا بقسطهم من الحق، فإن المعرفة بالناس بها يصاب العدل.([97]) وحين اتسعت الفتوحات الإسلامية في عهده كثرت موارد الدولة المالية، مما أدى ذلك بالخليفة عثمان
    t أن يتخذ له الخزائن([98])، فانعكس ذلك بدوره على العطاء، فزاد في أرزاق الجند بمقدار مئة درهم لكل منهم، فهو أول خليفة زاد الناس في العطاء واستن به الخلفاء من بعده في الزيادة.([99])

    قال الحسن: وشهدت منادي عثمان ينادي: يا أيها الناس، اغدوا على كسوتكم فيأخذون الْحُلَل، واغدوا على السمن والعسل. قال الحسن: أرزاق دارَّة، وخير كثير، وذات بين حسن، ما على الأرض مؤمن يخاف مؤمنا إلا يوده وينصره ويألفه.([100]) واهتم الخليفة عثمان بأمر الثغور والمرابطة فيها، فكان يأمر قادته بإجراء الأرزاق والعطاء ومضاعفته للجند المرابطين([101]).


    عاشرًا: أثر تدفق الأموال على الحياة الاجتماعية والاقتصادية:


    في عهد عثمان كثر الخراج وأتاه المال من كل وجه، فاتخذ له الخزائن، وأثر ذلك بدوره في الأثر الاقتصادي والاجتماعي؛ فعن أبي إسحاق أن جده مر على عثمان فقال له: كم معك من عيالك يا شيخ؟ قال: معي كذا، قال: قد فرضنا لك في خمس عشرة، يعني ألفا وخمسمائة، وفرضنا لعيالك مئة مئة.([102]) وعن محمد بن هلال المديني قال: حدثني أبي عن جدتي أنها كانت تدخل على عثمان فافتقدها يوما فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة غلاما، فقالت: فأرسل إليَّ بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية، ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت به سنة رفعناه إلى مائة.([103]) كما وسع
    t على عيال أهل العوالي بالمدينة المنورة في القوت والكسوة.([104]) وحين قام القائد قطن بن عمرو الهلالي بإعطاء الجيش الذي برفقته -وعدده أربعة آلاف جندي- أربعة آلاف درهم كتشجيع لهم استكثر ذلك والي البصرة عبد الله بن عامر وكتب بالخبر إلى الخليفة عثمان t فأجازها وقال: ما كان معونة في سبيل الله فجائز، فصارت الجائزة
    اسما للعطية([105]).

    وقام عثمان بتوريث عطاء الجندي الإسلامي لورثته من بناته وزوجاته، فقد قال الزبير ابن العوام للخليفة عثمان بعدما مات عبد الله بن مسعود -رضي الله عنهم-: أعطني عطاء عبد الله؛ فعيال عبد الله أحق به من بيت المال، فأعطاه خمسة عشر ألفا([106]).


    هذا وقد نشطت الحركة الزراعية والصناعية والتجارية في عهد الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وبسبب ما من الله به على المسلمين من فتوح، أصبح أهل المدينة خاصة والمسلمون عامة في نعمة ويسار، وكان يقترن بهذا الثراء ضروب واسعة من الحضارة لم تعرفها الجزيرة العربية قبل الفتوحات الكبيرة. لقد اطلع المسلمون على ما عند الأمم الأجنبية واقتبسوا منهم، وبدأ هذا الاقتباس يتسع في خلافة عثمان، فبنى بعض الصحابة الدور والمنازل الكبيرة، وساهم الأجانب الذين سُبُوا في الفتوح في تطوير الحياة الاجتماعية والاقتصادية([107]).


    حادي عشر: عثمان وأقاربه والعطاء من بيت المال:


    اتهم عثمان
    t من قبل الغوغاء والخوارج بإسرافه في بيت المال وإعطائه أكثره لأقاربه، وقد ساند هذا الاتهام حملة دعائية باطلة قادها السبئيون والشيعة الروافض ضده، وتسربت في كتب التاريخ وتعامل معها بعض المفكرين والمؤرخين على كونها حقائق وهي باطلة لم تثبت؛ لأنها مختلفة, والذي ثبت من إعطائه أقاربه أمور تعد من مناقبه لا من المثالب فيه:

    1-
    إن عثمان كان ذا ثروة عظيمة وكان وَصُولا للرحم([108]) يصلهم بصلات وفيرة، فنقم عليه أولئك الأشرار وقالوا بأنه إنما كان يصلهم من بيت المال، وعثمان قد أجاب عن موقفه هذا بقوله: وقالوا إني أحب أهل بيتي وأعطيهم، فأما حبي لهم فإنه لم يمل معهم إلى جور، بل أحمل الحقوق عليهم، وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس، وقد كنت أعطي العطية الكبيرة الرعية من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر، وأنا يومئذ شحيح حريص، أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي([109]) وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا؟!([110])

    وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية، وجعل ولده كبعض من يعطي، فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف، فأخذوا مائة ألف، وأعطى بني عثمان مثل ذلك، وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي بني حرب.([111]) فهذه النصوص وغيرها مما اشتهر عنه وما صح من الأحاديث في فضائله الجمة، تدل على أن كل ما قيل فيه من إسرافه في بيت المال وإنفاق أكثره على نفسه وأقاربه وقصوره في حكايات بدون زمام ولا خطام يطول ذكرها مفترى عليه، مع براءة عثمان مما نسب إليه، قال تقي الدين بن تيمية: إن سهم ذوي القربى ذهب بعض الفقهاء إلى أنه لقرابة الإمام كما قال الحسن وأبو ثور، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعطي أقاربه بحكم الولاية فذوو القربى في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذوو قرباه، وبعد موته هم ذوو قربى من يتولى الأمر بعده؛ وذلك لأن نصر ولي الأمر والذب عنه متعين، وأقاربه ينصرونه ويذبون عنه ما لا يفعله غيرهم. وقال: وبالجملة، فعامة من تولى الأمر بعد عمر كان يخص بعض أقاربه إما بالولاية أو بمال.([112])

    وقال: إن ما فعله عثمان في المال له ثلاثة مآخذ: أحدها: أنه عامل عليه والعامل يستحق مع الغنى، والثاني: أن ذوي القربى هم ذوو قربى الإمام، والثالث: أن قرابة عثمان كانوا قبيلة كبيرة كثيرة ليسوا مثل قبيلة أبي بكر وعمر، فكان يحتاج إلى إعطائهم وولايتهم أكثر من حاجة أبي بكر وعمر إلى تولية أقاربهما وإعطائهم.. وهذا مما نقل عن عثمان بن عفان
    t الاحتجاج به([113]).

    2-
    جاء في تاريخ الطبري أن عثمان لما أمر عبد الله بن سعد بن أبي سرح بالزحف من مصر على تونس لفتحها قال له: إن فتح الله عليك بإفريقية فلك مما أفاء الله على المسلمين خمس الخمس من الغنيمة نفلا، فخرج بجيشه، حتى قطعوا أرض مصر وأوغلوا في أرض إفريقية وفتحوها وسهلها وجبالها، وقسم عبد الله على الجند ما أفاء الله عليهم وأخذ خمس الخمس، وبعث بأربعة أخماسه إلى عثمان مع ابن وثيمة النضري، فشكى وفد ممن كان معه إلى عثمان ما أخذه عبد الله، فقال لهم عثمان: إنما أمرت له بذلك، فإن سخطتم فهو رد. قالوا: إنا نسخطه، فأمر عثمان عبد الله أن يرده فرده.([114]) وقد ثبت في السنة تنفيل أهل الغناء والبأس في الجهاد([115]).

    3-
    وكان قد بقى من الأخماس والحيوان -في فتح أفريقية- ما يشق حمله إلى المدينة، فاشتراه مروان بمائة ألف درهم، ونقد أكثرها وبقيت منه بقية، وسبق إلى عثمان مبشرا بالفتح، وكانت قلوب المسلمين في غاية القلق خائفة من أن يصيب المسلمين نكبة من أمر أفريقية، فوهب له عثمان ما بقي جزاء بشارته. وللإمام أن يعطي البشير ما يراه لائقا بتعبه وخطر بشارته، هذا هو الثابت في عطية عثمان لمروان، وما ذكروه من إعطائه خمس أفريقية فكذب.([116]) لقد كان عثمان t شديد الحب لأقاربه، ولكن ذلك لم يمل به إلى غشيان محرم أو إساءة السيرة والسياسة في أمور المال أو غيرها، وإنما دست في كتب التاريخ أكاذيب باطلة كان خلفها الدعاية السبئية والشعبية الرافضية ضد عثمان.

    إن سيرة عثمان في أقاربه تمثل جانبا من جوانب الإسلام الكريمة الرحيمة لقوله تعالى: "ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ" [الشورى: 23]، وقوله جل ثناؤه: "وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا" [الإسراء: 26] كما أنها تمثل جانبا عمليا من سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فقد رأى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم من حاله ما لم ير أو يعلم غيره من منتقديه، وعقل من الفقه ما لم يعقله مثله من جمهرة الناس، وكان مما رأى شدة حب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقاربه وبره لهم وإحسانه إليهم، وقد أعطى عمه العباس ما لم يعط أحدا عندما ورد عليه مال البحرين.([117]) وولى عليا وهو ابن عمه وصهره، ولعثمان وسائر المؤمنين في رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم القدوة([118]).

    يقول ابن كثير -رحمه الله-: وقد كان عثمان
    t كريم الأخلاق ذا حياء كثير، وكرم غزير، يؤثر أهله وأقاربه في الله تأليفا لقلوبهم من متاع الدنيا الفاني، لعله يرغبهم في إيثار ما يبقى على ما يفنى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يعطي أقواما ويدع آخرين إلى ما جعل في قلوبهم من الهدى والإيمان، وقد تعنت عليه بسبب هذه الخصلة أقوام، كما تعنت بعض الخوارج على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الإيثار([119])؛ فعن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- قال: بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنيمة بالجعرانة([120])، إذ قال له رجل: اعدل، فقال: «شقيت إن لم أعدل».

    ([121])
    ويحتج عثمان
    t لبره أهل بيته وقرابته مخاطبا مجلس الشورى بقوله: أنا أخبركم عني وعما وليت، إن صاحبيّ اللذين كانا قبلي ظلما أنفسهما ومن كان منهما سبيل احتسابا، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعطي قرابته وأنا في رهط أهل عيلة وقلة معاش، فبسطت يدي في شيء من ذلك لما أقوم به فيه، فإن رأيتم ذلك خطأ فردوه([122]).

    وقد رد ابن تيمية -رحمه الله- على من اتهم عثمان بتفضيله أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال فقال: «وكان يؤثر أهله بالأموال الكثيرة من بيت المال حتى أنه دفع إلى أربعة نفر من قريش زوجهم بناته أربعمائة ألف دينار، ودفع إلى مروان ألف ألف دينار (مليون دينار)، فالجواب يقال: أين النقل الثابت بهذا؟!! نعم كان يعطي أقاربه ويعطي غير أقاربه أيضا، وكان يحسن إلى جميع المسلمين، وأما هذا القدر الكثير فيحتاج إلى نقل ثابت، ثم يقال ثانيًا: هذا من الكذب البين، فإنه لا عثمان ولا غيره من الخلفاء الراشدين أعطوا أحدا ما يقارب هذا المبلغ) ([123]).





    ([1]) مبادئ الاقتصاد الإسلامي، سعاد إبراهيم صالح، ص217.

    ([2]) السياسية المالية لعثمان t، قطب إبراهيم، ص61.

    ([3]) السياسة المالية لعثمان t، ص62.

    ([4]) الأحكام السلطانية والولايات الدينية، أبو الحسن الماوردي، ص 17،16.

    ([5]) مقدمة ابن خلدون، ص191.

    ([6]) الخلافة بين التنظير والتطبيق، محمد المرداوي، ص66.

    ([7]) المصدر نفسه، ص67.

    ([8]) السياسة المالية لعثمان، ص62.

    ([9]) المصدر نفسه، ص64.

    ([10]) السياسة المالية لعثمان، ص66. (2) المنتخب من السنة، ص261.



    ([12]) السياسة المالية لعثمان، ص67. (4) المصدر نفسه، ص67.



    ([14], 2) السياسة المالية لعثمان، ص67.

    ([15]) السياسة المالية لعثمان، ص67.

    ([16]) المصدر نفسه، ص68.

    ([17]) السياسة المالية لعثمان، ص69.

    ([18]) تاريخ الطبري (5/245).

    ([19]) السياسة المالية لعثمان، ص70.

    ([20]) السياسة المالية لعمر بن الخطاب، قطب إبراهيم محمد، ص23، وما بعدها.

    ([21]) السياسة المالية لعثمان، ص76.

    ([22]) الأموال لأبي عبيد، ص534.

    ([23]) المصدر نفسه، ص535.

    ([24]، 6) السياسة المالية لعثمان t، ص76.

    ([25]) السياسة المالية لعثمان t، ص76.

    ([26]) السياسة المالية لعثمان، ص77.

    ([27]،3، 4) الأموال لأبي عبيد، ص537.





    ([30]) المنتخب من السنة (6/301).

    ([31]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص79.

    ([32]) السياسة المالية لعثمان، ص80.

    ([33]) المصدر نفسه، ص81.

    ([34]) تاريخ الطبري (5/245)، المعتر: الفقير، المتعرض للمعروف بدون سؤال.

    ([35]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص82، 83.

    ([36]) الميار: جمع مائر وهو جالب الميرة، والميرة: الطعام.

    ([37]) تاريخ الطبري، (5/273).

    ([38])المصدر نفسه، (5/275).

    ([39]) السياسة المالية لعثمان، ص84.

    ([40]) المصدر نفسه، ص86، 87.

    ([41]) أنبت: أي ظهر شعر في وجهه.

    ([42]) فتوح مصر وأخبارها، ص121.

    ([43]) السياسة المالية لعثمان، ص93.

    ([44]) البخاري، كتاب المغازي، رقم (4322).

    ([45]) السياسة المالية لعثمان، ص93.

    ([46]) فتوح مصر وأخبارها، ص119، 120.

    ([47]) المصدر نفسه، ص125.

    ([48]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص95.

    ([49]) المصدر نفسه، ص97.

    ([50]) المصدر نفسه، ص99.

    ([51]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص103.

    ([52]) تاريخ الطبري، (5/246). (3) المصدر نفسه، (5/255).



    ([54]،5) المصدر نفسه، (5/261).



    ([56]) المصدر نفسه، (5/318) (7) المصدر نفسه، (5/307).



    ([58]، 2) الخراج لأبي يوسف، ص74.



    ([60]،4) السياسة المالية لعثمان، ص105.



    ([62]) المصدر نفسه، ص106.

    ([63]) السياسية المالية لعثمان، ص106.

    ([64]) فتوح مصر وأخبارها، ص102.

    ([65]) السياسة المالية لعثمان، ص107.

    ([66]) السياسة المالية لعثمان، ص113.

    ([67]) المصدر نفسه، ص123.

    ([68]) الطبقات الكبرى لابن سعد، (3/104).

    ([69]) عصر الخلافة الراشدة للعمري، ص220.

    ([70]) عصر الخلافة للعمري، ص221.

    ([71]) المصدر نفسه، ص221.

    ([72]) المصدر نفسه، ص222.

    ([73]) المصدر نفسه، ص223.

    ([74]) عصر الخلافة الراشدة، ص224. (2) المصدر نفسه، ص225.



    ([76]) السياسة المالية لعثمان، ص118.

    ([77]) صحيح سنن أبي داود، الألباني (2/595). (2) عصر الخلافة الراشدة، ص225، 226.



    ([79]) الطبقات (3/326)، والأثر صحيح.

    ([80]) نظام الخلافة في الفكر الإسلامي، د. مصطفى حلمي، ص78.

    ([81]) المصدر نفسه، ص78.

    ([82]) نظام الأراضي في صدر الدولة الإسلامية، ص169. (7) المغني لابن قدامة، (5/581).



    ([84]) السياسة المالية لعثمان، ص130. (2) المصدر نفسه، ص140.



    ([86]) المصدر نفسه، ص140، 141. (4) المسند رقم (434) إسناده صحيح.



    ([88]) البداية والنهاية (7/60)، تاريخ الطبري (5/267).

    ([89]) تاريخ الطبري (5/250), ذو النورين، محمد رشيد، ص25.

    ([90]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص147، 148.

    ([91]) المصدر نفسه، ص148.

    ([92]) ذو النورين عثمان بن عفان، محمد رشيد، ص26.

    ([93]) البداية والنهاية (7/161)، تاريخ الطبري (5/284).

    ([94], 3) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص14.

    ([95]) موسوعة فقه عثمان بن عفان، ص14.

    ([96]) السياسة المالية لعثمان بن عفان، ص150.

    ([97]) تاريخ الطبري، (5/280).

    ([98]) الإدارة العسكرية في الدولة الإسلامية (2/6836)، النجوم الزاهرة (1/87).

    ([99]) تاريخ الطبري (5/245).

    ([100]) مجمع الزوائد (9/93، 94)، فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص52.

    ([101]) فتوح مصر، ص192، فتح البلدان للبلاذري (1/152-157).

    ([102]) الإدارة العسكرية (2/768).

    ([103]) المصدر نفسه (2/769).

    ([104]) الطبقات (3/298).

    ([105]) الأوائل للعسكري (2/26، 27).

    ([106]) الإدارة العسكرية (2/770).

    ([107]) الحضارة العربية الإسلامية، د. وضاح الصمد، ص114.

    ([108]) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص82.

    ([109]) جاوزت أعمارهم.

    ([110]) تاريخ الطبري (5/356).

    ([111]) المصدر نفسه (5/356).

    ([112]) منهاج السنة (3/187، 188).

    ([113]) المصدر نفسه (3/237), الدولة الأموية، حمدي شاهين، ص163.

    ([114]) تاريخ الطبري (5/253).

    ([115]، 3) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص84.

    ([116]) فصل الخطاب في مواقف الأصحاب، ص84.

    ([117]) البخاري، كتاب الجزية.

    ([118]، 2) البداية والنهاية (7/201).

    ([119]) البداية والنهاية (7/201).

    ([120]) ماء بين الطائف ومكة، وهي إلى مكة أقرب.

    ([121]) البخاري، كتاب فرض الخمس.

    ([122]) الطبقات الكبرى (3/64).

    ([123]) منهاج السنة (3/190).





 

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

المفضلات

المفضلات

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك
  •  
RSS RSS 2.0 XML MAP HTML