يردد اليوم بعض كُتّاب الشيعة قضية هدم السلطان صلاح الدين الأيوبي لعدد من أهرامات الجيزة؛ للطعن في شخص الرجل، واتهامه أنه جَارَ على المصريين وكان بمنزلة محتل أجنبي لمصر، وأنه عمد لهدم هذه الأهرامات؛ لكي يطمس ذكر من كان قبله من الملوك والحكام.
وهذه المطاعن الهدف من تناولها من جانب هؤلاء الكُتّاب هو محاولة خلخلة رموز المجاهدين السُّنَّة في عقول المصريين تمهيدًا لمحاربة المنهج ككل؛ ولهذا يسعى هؤلاء الكتّاب لقديم الدولة الفاطمية الشيعية التي أسقطها صلاح الدين كنموذج بديل، وهي محاولة يشترك فيها كُتّاب شيعة ومتعصبون نصارى وعدد من أرباع المثقفين من الإعلاميين العلمانيين، الذين اعتقدوا أن قراءة كتاب واحد كافية لتجعلهم أهلاً للإفتاء في مجال التاريخ.
وعندما نتناول هذه القضية يجب أن نوضح أن الحكم على الشخصيات التاريخية لا يكون بإبراز الأخطاء والمثالب، أو التغاضي عن هذه الأخطاء، بل الموازنة بين الأعمال ومعرفة حجمها؛ حتى يمكن تقييم الدور التاريخي للسلاطين والحكام. كذلك يجب أن نضع في الحسبان ونحن نقيّم المواقف والأحداث مقاييس العصر والظرف التاريخي التي اتخذت فيه القرارات، وعند هذه النقطة نقيّم ما يُقال عن هدم صلاح الدين لعدد من أهرامات الجيزة لبناء سور لحماية القاهرة وبناء قلعته المعروفة وبناء عدد من القناطر بالجيزة؛ لا تعتبر جريمة في ذلك الزمن..
فالأهرام لم تكن تمثل قيمة اقتصادية كما في عصرنا الحاضر، كما أنها لم تكن قيمة ثقافية أو مصدرًا لمعلومات تاريخية؛ بسبب عدم معرفة أهل ذلك الزمان للغات المنقوشة على الأهرام، وعدم استقائهم أية معلومات تاريخية منها، فكل ما عُرف عن بناة الأهرام كانت روايات أسطورية، حيث ذكر البعض أن بناءها كان قبل الطوفان، وقيل إنها كانت مخازن للقمح في عصر سيدنا يوسف عليه السلام.
كما أن الأهرامات لم تكن تمثل قيمة عقائدية أو دينية للمصريين في هذه الفترة؛ ولهذا لم ينجم عن هدمها أية أضرار نفسية للعامة، ومن ثَمّ يمكن أن نقول: إن الأهرام كانت تمثل مظهرًا من مظاهر الترف الفكري في خضم الحروب الصليبية، وما ألقي على كاهل صلاح الدين من إعادة بناء الدولة المصرية لمواجهة الغزو الخارجي.
نشير أيضًا أن صلاح الدين كما تحدثت الروايات استغل الأحجار في بناء سور وقلعة لحماية القاهرة، حيث وصل الصليبيون لأبواب القاهرة عام (564هـ/ 1168م)، كما قام الصليبيون بحملتين على مصر: الأولى على دمياط عام (565هـ/ 1169م)، والثانية على الإسكندرية عام (569هـ/ 1174م). وإن كان من يطعن في صلاح الدين من الشيعة لا يرى أولوية لبناء القلعة وحماية مصر في ظل حالة الحرب، فعليه أن يفسر حرق الفاطميين للفسطاط، وتهجير الأهالي منها أثناء قدوم الصليبيين لغزو مصر في الحملة التي وصلت للقاهرة التي أشير إليها.
كذلك يحاول هؤلاء استغلال الحدث لتصوير صلاح الدين كمحتل أجنبي، يعمل على محو سير من سبقه، ولو كان صلاح الدين بهذه الصورة، لكان عليه تدمير مشاهد وقبور أهل البيت والعلويين الموجودة بمصر نكايةً في بقايا الفاطميين، وإذلالاً للمصريين الذين يفخرون بهذه المشاهد. ولكن الرحالة الأندلسي ابن جبير الذي زار مصر في عصر صلاح الدين وصف هذه المشاهد بقوله: "روضات بديعة الإتقان، عجيبة البنيان، قد وكل بها قومه يسكنون فيها ويحفظونها، ومنظرها منظر عجيب، والجرايات متصلة لقوامها في كل شهر".
أخيرًا عندما نراجع المصادر التاريخية التي ذكرت الحدث نجد أن أقدم نص تكلم عن هدم صلاح الدين لعدد من الأهرامات الصغيرة بالجيزة والمجاورة للهرمين الكبيرين المعروفين لاستخدام أحجارها، كان الرحالة عبد اللطيف البغدادي الذي زار مصر في أواخر عصر صلاح الدين، وفي عصر الأفضل ابنه الذي تولى الحكم من بعده، وما نقل عن سيرة عبد اللطيف البغدادي وزيارته لمصر في عهد صلاح الدين لم يذكر فيها أن عبد اللطيف البغدادي أثناء زيارته لمصر في المرة الأولى زار الأهرامات، ولكن زيارة عبد اللطيف البغدادي للأهرام كما ذكرها في كتابه (الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة) جاءت في عصر الأفضل؛ مما لا يجعله شاهد عيان على التاريخ الذي ذكره لعملية هدم الأهرام؛ فتاريخ الهدم -كما يتبين من كلام عبد اللطيف- كان عام (572هـ/ 1176م)، وعبد اللطيف البغدادي زار الأهرامات تقريبًا عام (593هـ/ 1196م)، وهو ما يؤكد أنه ليس شاهد عيان..
وربما كان مصدر معلوماته روايات ذات طابع أسطوري حيكت حول بهاء الدين قراقوش المهندس المباشر لبناء القلعة، والذي نَسب له عبد اللطيف البغدادي عمليه الهدم، خاصة أننا نملك روايتين لرجلين زارا الأهرام وحضرا عملية بناء القلعة ولم يذكرا قصة هدم الأهرام؛ الأول هو العماد الكاتب الذي زار مصر مع السلطان صلاح الدين عام (572هـ/ 1176م)، وهو التاريخ الذي بدأ فيه السلطان ببناء القلعة. والثاني هو الرحالة ابن جبير الأندلسي الذي زار القاهرة والأهرامات عام (578هـ/ 1183هـ)، حيث شاهد عملية بناء القلعة، ولم يتكلم عن أي آثار لعملية هدم في الجيزة، أو وجود طرق لنقل الأحجار.
أخيرًا، إذا كان منهج هؤلاء الكتّاب هو تضخيم الأحداث ووضعها في غير إطارها التاريخي والزماني لتشويه السلطان صلاح الدين، لوجب عليهم أن يوجهوا سهام الطعن للفاطميين الذين توجهت جيوشهم لحصار القيروان بتونس وقامت بتخريب المدينة، وهو ما عرف بتغريبة بني هلال عام (449هـ/ 1057م)، أو أن يتكلموا عن الصراعات التي دارت بين الجنود الأتراك والسودانيين في عصر الخليفة المستنصر الفاطمي، والتي كان البيت الحاكم جزءًا منها؛ مما أدى لخراب القاهرة وإحراق العديد من الأسواق وغياب الأمن وتخطف الناس في الطرقات، وتفاقم المجاعة في مصر بداية من عام (454هـ/ 1062م).
http://islamstory.com/ar/node/27129wghp hg]dk hgHd,fd ,hgadum ,hgHivhlhj
المفضلات