الحمد لله وبعد ،
فقد قسم ابن قيم رحمه الله في كتابه " الصواعق المرسلة " التأويل الباطل عشرة أقسام ، ومثل لكل منها بمثال من تأويل أهل الباطل لنصوص الكتاب والسنة .. فرأيت أن أنقل كلامه ها هنا مختصراً لتحصل الفائدة بإذن الله .
قال رحمه الله مفرقاً بين الأصل الذي يقوم عليه التأويل الصحيح والتأويل الفاسد الباطل :
" وبالجملة فالتأويل الذي يوافق ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة ويطابقها هو التأويل الصحيح والتأويل الذي يخالف ما دلت عليه النصوص وجاءت به السنة هو التأويل الفاسد ولا فرق بين باب الخبر والأمر في ذلك وكل تأويل وافق ما جاء به الرسول فهو المقبول وما خالفه فهو المردود " .
ثم شرع رحمه الله في سرد أنواعه والتمثيل لكل نوع فقال :
(( فالتأويل الباطل أنواع :
أحدها : مالم يحتمله اللفظ بوضعه كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم : " حتى يضع رب العزة عليها قدمه " [1] بأن الرجل جماعة من الناس فإن هذا لا يعرف في شيء من لغة العرب البتة .
الثاني : مالم يحتلمه اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع وإن احتمله مفردا كتأويل قوله : { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] بالقدرة .
الثالث : مالم يحتمله سياقه وتركيبه وإن احتمله في غير ذلك السياق كتأويل قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] بأن إتيان الرب إتيان بعض آياته التي هي أمره وهذا يأباه السياق كل الإباء فإنه يمتنع حمله على ذلك مع التقسيم والترديد والتنويع .
الرابع : ما لم يؤلف استعماله في ذلك المعنى في لغة المخاطب وإن أُلِف في الاصطلاح الحادث ، وهذا موضع زلت فيه أقدام كثير من الناس وضلت فيه أفهامهم ، حيث تأولوا كثيرا من ألفاظ النصوص بما لم يؤلف استعمال اللفظ له في لغة العرب البتة وإن كان معهودا في اصطلاح المتأخرين ، وهذا مما ينبغي التنبه له فإنه حصل بسببه من الكذب على الله ورسوله ما حصل ، كما تأولت طائفة قوله تعالى { فَلَمَّا أَفَلَ } [ الأنعام : 76 ] بالحركة وقالوا استدل بحركته على بطلان ربوبيته ، ولا يعرف في اللغة التي نزل بها القرآن أن الأفول هو الحركة البتة في موضع واحد .
وكذلك تأويل الأحد بأنه الذي لا يتميز منه شيء عن شيء البتة ، ثم قالوا لو كان فوق العرش لم يكن أحدا ، فإن تأويل الأحد بهذا المعنى لا يعرفه أحد من العرب ولا أهل اللغة ، ولا يعرف استعماله في لغة القوم في هذا المعنى في موضع واحد أصلا ، وإنما هو اصطلاح الجهمية والفلاسفة والمعتزلة ومن وافقهم .
الخامس : ما أُلِف استعماله في ذلك المعنى لكن في غير التركيب الذي ورد به النص ، فيحمله المتأول في هذا التركيب الذي لا يحتمله على مجيئه في تركيب آخر يحتمله ، وهذا من أقبح الغلط والتلبيس .. كتأويل اليدين في قوله تعالى { مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] بالنعمة .
ولا ريب أن العرب تقول : لفلان عندي يد .. وقال عروة بن مسعود للصديق : " لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك " [2] .. ولكن وقوع اليد في هذا التركيب الذي أضاف سبحانه فيه الفعل إلى نفسه ، ثم تعدى الفعل إلى اليد بالباء التي هي نظير كتبت بالقلم وهي اليد ، وجعل ذلك خاصة خص بها صفيه آدم دون البشر كما خص المسيح بأنه نفخ فيه من روحه وخص موسى بأنه كلمه بلا واسطة ; فهذا مما يحيل تأويل اليد في النص بالنعمة وإن كانت في تركيب آخر تصلح لذلك ، فلا يلزم من صلاحية اللفظ لمعنى ما في تركيب صلاحيته له في كل تركيب .
السادس : اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه ، ولم يُعهد استعماله في المعنى المؤول أو عُهد استعماله فيه نادرا ، فتأويله حيث ورد وحَمْله على خلاف المعهود من استعماله باطل ، فإنه يكون تلبيسا وتدليسا يناقض البيان والهداية ، بل إذا أرادوا استعمال مثل هذا في غير معناه المعهود حفوا به من القرائن ما يبين للسامع مرادهم به لئلا يسبق فهمه إلى معناه المألوف ، ومن تأمل لغة القوم وكمال هذه اللغة وحكمة واضعها تبين له صحة ذلك .
السابع : كل تأويل يعود على أصل النص بالإبطال فهو باطل ، كتأويل قوله صلى الله عليه وسلم: " أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل " [3] بحمله على الأَمَة ، فإن هذا التأويل مع شدة مخالفته لظاهر اللفظ يرجع على أصل النص بالإبطال ، وهو قوله : " فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها " [4] ومهر الأمة إنما هو للسيد .
الثامن : تأويل اللفظ الذي له معنى ظاهر لا يفهم منه عند إطلاقه سواه ، بالمعنى الخفي الذي لا يطلع عليه إلا أفراد من أهل النظر والكلام .. كتأويل لفظ الأحد الذي يفهمه الخاصة والعامة بالذات المجردة عن الصفات التي لا يكون فيها معنيان بوجه ما ، فإن هذا لو أمكن ثبوته في الخارج لم يعرف إلا بعد مقدمات طويلة صعبة جدا ، فكيف وهو محال في الخارج وإنما يفرضه الذهن فرضا ثم يستدل على وجوده الخارجي ، فيستحيل وضع اللفظ المشهور عند كل أحد لهذا المعنى الذي هو في غاية الخفاء .
التاسع : التأويل الذي يوجب تعطيل المعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ويحطه إلى معنى دونه بمراتب كثيرة ، وهو شبيه بعزل سلطان عن ملكه وتوليته مرتبة دون الملك بكثير .. مثاله تأويل الجهمية قوله : { وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 18 ] ونظائره بأنها فوقية الشرف كقولهم الدرهم فوق الفلس والدينار فوق الدرهم . فتأمل تعطيل المتأولين حقيقة الفوقية المطلقة التي هي من خصائص الربوبية وهي المستلزمة لعظمة الرب جل جلاله وحطها إلى كون قدره فوق قدر بني آدم وأنه أشرف منهم .
وكذلك تأويلهم علوه بهذا المعنى وأنه كعلو الذهب على الفضة وكذلك تأويلهم استواءه على عرشه بقدرته عليه وأنه غالب عليه . فيالله العجب ! هل ضلت العقول وتاهت الحلام وشكت العقلاء في كونه سبحانه غالبا لعرشه قادرا عليه حتى يخبر به سبحانه في سبعة مواضع من كتابه مطردة بلفظ واحد ليس فيها موضع واحد يراد به المعنى الذي أبداه المتأولون ؟! وهذا التمدح والتعظيم كله لأجل أن يعرفنا أنه قد غلب عرشه وقدر عليه وكان ذلك بعد خلق السموات والأرض ؟! أفترى لم يكن سبحانه غالبا للعرش قادرا عليه في مدة تزيد على خمسين ألف سنة ثم تجدد له ذلك بعد خلق هذا العالم ؟!
العاشر : تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق ولا معه قرينة تقتضيه فإن هذا لا يقصده المبين الهادي بكلامه ، إذ لو قصده لحف بالكلام قرائن تدل على المعنى المخالف لظاهره حتى لا يوقع السامع في اللبس والخطأ ، فإن الله سبحانه أنزل كلامه بيانا وهدى ، فإذا أراد به خلاف ظاهره ولم تحف به قرائن تدل على المعنى الذي يتبادر غيره إلى فهم كل أحد لم يكن بيانا ولا هدى
فهذه بعض الوجوه التي يفرق بيها بين التأويل الصحيح والباطل وبالله المستعان ))
والحمد لله رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــ
[1] جزء من حديث أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 4848 ، 6661 ) ومسلم في صحيحه برقم ( 2848 ) والترمذي في سننه برقم ( 3272 ) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تزال جهنم تقول : هل من مزيد ، حتى يضع رب العزة تبارك وتعالى قدمه ، فتقول : قط قط وعزتك ، ويُزوى بعضها إلى لعض " .
وأخرجه بلفظ آخر البخاري في صحيحه بالأرقام ( 4849 ، 4850 ، 7449 ) ومسلم في صحيحه برقم ( 2846 ) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .
[2] جزء من حديث طويل في بيان قصة صلح الحديبية وقد أخرجه البخاري في صحيحه برقم ( 2731 ، 2732 ) من حديث المسور بن مخرمة ومروان رضي الله عنهما .
[3] أخرجه أبو داود في سننه ( 2083 ) والترمذي في سننه ( 1/204 ) وابن ماجه في سننه ( 1879 ) والدارمي في سننه ( 2/137 ) وأحمد في المسند ( 6/47 ، 165 ) وابن حبان في صحيحه ( 1248 ) وابن أبي شيبة في المصنف ( 7/2 ) وابن الجارود في المنتقى ( 700 ) والحاكم في المستدرك ( 2/168 ) والبيهقي في سننه ( 7/105 ) والطيالسي في مسنده ( 1463 ) من حديث عائشة رضي الله عنها ، وتمامه : " فإن دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها ، وإن اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي لها " .
[4] جزء من الحديث السابق وقد تقدم تخريجه .hgjH,dg hgfh'g : juvdt K Hrshli K Hlegji ?!
المفضلات