الباب الثانى: الجماعات الوظيفية والحلولية والعلمانية الشاملة
الجماعات الوظيفية والثنائية الصلبة
الجماعة الوظيفية تدور في إطار الرؤية الحلولية الكمونية، ولذا يتبدى من خلالها نمط الواحدية الذاتية والموضوعية، والثنائية الصلبة بشكل متبلور. فثنائية الأنا والآخر والتمركز حول الذات والتمركز حول الموضوع من السمات الأساسية للجماعة الوظيفية ولأعضائها. وبإمكان القارئ أن يجد رصداً لهذا الجانب في مداخل هذا الباب.
الحلولية الكمونية الواحدية والجماعات الوظيفية
من الظواهر الجديرة بالملاحظة، والتي تحتاج إلى مزيد من الدراسة، أن رؤية أعضاء الجماعات الوظيفية للكون تنحو منحى حلولياً كمونياً (ثنائياً صلباً) في رؤيتهم لذاتهم (الساموراي والبوذية من طراز الزن ـ الإنكشارية والبكتاشية ـ جماعات التجار والتصوف الحلولي... إلخ). وقد حاولنا في دراستنا لهذه الظاهرة التركيز على الجماعات اليهودية في أنحاء العالم. ومن هنا، فإن تعميماتنا تستند إلى دراسة هذه الحالة أساساً، وإن كنا قد درسنا بعض الحالات الأخرى بشكل أقل تَعمُّقاً.
يتبنَّى أعضاء الجماعة الوظيفية رؤية حلولية كمونية واحدية (ثنائية صلبة) تَرُدُّ العالم بأسره إلى مبدأ واحد كامن في العالم، وتختزل الواقع بكل تعينه وتركيبيته إلى مسـتوى واحد. هذا المبدأ الواحد بالنسبة لأعضاء الجماعة الوظيفية هو الوظيفة نفسها، أو الوظيفة باعتبارها تَجسُّداً للمبدأ الواحد، وتحل الوظيفة محل الأرض في الثالوث الحلولي. فبدلاً من الثالوث الحلولي التقليدي (الشعب ـ الإله ـ الأرض)، يكون الثالوث الوظيفي هو: الجماعة الوظيفية ـ الإله ـ الوظيفة. ولذا، يمكننا أن نتحدث عن «الحلولية الكمونية الوظيفية» وعن «الواحدية الوظيفية»، فعلاقة عضو الجماعة الوظيفية بجماعته وبوظيفته علاقة حلولية كمونية عضوية (روحية). والوظيفة هي المبدأ الواحد (الإله)، قوة شاملة بسيطة، لا انقطاع فيها ولا فراغات ولا ثنائيات، تزود عضو الجماعة الوظيفية برؤية للكون وتوجِّه سلوكه. وعلاقة عضو الجماعة الوظيفية بوظيفته لا تختلف كثيراً عن علاقة عضو الشعب المختار بشعبه وبأرض الميعاد، وكما أن أرض الميعاد تنتظر شعبها المقدَّس المختار ولا يمكن أن تسترد حياتها إلا من خلاله، ولا يمكنه هو أن يحيا حياته كاملة إلا فيها، فإن أعضاء الجماعة الوظيفية هم وحدهم القادرون على الاضطلاع بوظيفتهم وهم يستمدون كينونتهم منها. وحين يتوحد عضو الجماعة الوظيفية بالمبدأ الواحد، أي الوظيفة فإنه يفنى فيها ويجسدها في الوقت نفسه، وفي كلتا الحالتين فإنه يتم اختزاله إلى مستوى واحد أو وظيفة "مقدَّسة" واحدة يكتسب منها هويته، فهو جزء من كل، يفقد ذاته فيها، ويخضع للقوانين النابعة منه والكامنة فيه. وحين تجسد الجماعة الوظيفية المبدأ الواحد تصبح مرجعية ذاتها، علة ذاتها، مكتفية بذاتها، فيمكنها أن تلغي الآخر وتراه غائباً أو ترى حضوره بغير معنى. وبحلول القداسة الكاملة في الجماعـة الوظـيفية يصبح أعـضاؤها ذوي قيمـة نهائية كامنة لا تظهر لأعضاء الأغلبية الموجودين خارج دائرة القداسة. إن الرؤية الحلولية الكمونية تحل لأعضاء الجماعة الوظيفية إشكاليات عاطفية ومعرفية عميقة وتُعقلن وضعهم كعنصر بشري منبوذ متحوسل، فهي رؤية تجعلهم أو تجعل جماعتهم (الوظيفية) أو وظيفتهم موضع قداسـة خــاصة وكامنة فيهم، بل ركيزة نهائية في الكون. كما أنها تفسر لهم تَحوْسلهم وتَحوُّلهم إلى أداة، فقداستهم هي سبب تَحْوسلهم (تماماً كما أن عملية النبذ هي إحدى علامات الاختيار في اليهودية التي يعاني منها الشعب العضوي المختار وحده دون غيره من الشعوب غير المختارة غير المقدَّسة غير المنبوذة)، وهي تفسر أيضاً وجودهم في المجتمعات الإنسانية (المادية) وعدم انتمائهم لها، فهم ينتمون إلى الشعب الوظيفي المقدَّس وحسب. فأعضاء الجماعة الوظيفية يجعلون أنفسهم موضع قداسة خاصة، أما أعضاء المجتمع المضيف فهم محرومون تماماً من القداسة، فهم مادة صرف، يعيشون في وحدة وجـود مادية دون إله.
hgdi,] ,hgdi,]dm ,hgwid,kdm ,hgwihdkm hg[.x hgehkd
المفضلات