حوار مع المستشار طارق البشري
حاورته: د. ليلى بيومي
17/11/2006
- طارق البشري: الصحوة الإسلامية أضافت الكثير لحياتنا
- احترامي للشريعة عصمني من الاستمرار في العلمانية.
- العلمانية تجرد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته.
- وسطية الإسلام عصمة الأمة من الانشقاق والتصدع عبر تاريخها.
- الشعارات مقبولة إذا كان وراءها وضوح سياسي.
- نحن مستعدون أن ننسى ماضي الغرب معنا شرط ألا يتكرر.
- اتهام الإسلاميين بالسطحية ظلم وتحامل.
- ليس أمامنا طريق سوى مقاومة المخططات الصهيونية والأمريكية.
- أول شرط للديمقراطية هو أن تكون صناعة محلية كاملة.
مفكرة الإسلام : المستشار طارق البشري قاض مصري متميز، ومؤرخ رصين أضاف للمكتبة العربية والإسلامية العديد من الكتب التي أرخت للحركة الوطنية في مصر قبل ثورة يوليو وبعدها، وهو مع ذلك مفكر لا يُشق له غبار، وكانت لإسهاماته الفكرية منطلقة من المعين الإسلامي الصافي، فاستقبلها الناس قبولاً حسناً وتفاعلوا معها.
وكانت العلامة الفارقة في حياته يوم تحول من العلمانية إلى الإسلام وأصبح قيمة مضافة للفكر الإسلامي.
عن هذه الرحلة الثرية، وعن العديد من المسائل الفكرية والسياسية نحاوره في هذه السطور.
** كيف كان اختيارك لطريق العلمانية؟ وكيف تحولت من العلمانية إلى الإسلام؟
* بعد تخرجي ونتيجة لقراءاتي كانت علاقتي بالعلمانية أنني أقرؤها بدون أن أعاديها لكن الكتابات العلمانية الفجة أو المغالية كنت أشعر بشيء من الغضاضة نحوها, ولم يكن في ذهني أن هذا ضد الإسلام. والخصومة مع العلمانية لم تكن حادة وواضحة إلى هذا الحد الذي هو قائم الآن. وقويت قراءاتي باللغة الإنجليزية وكان لدى إلمام بالتاريخ الأوروبي السياسي وبحركات السياسة الموجودة، وتعمقت هذه المعرفة بالتكوين الفكري الفلسفي والاقتصادي وخرجت من مجموع هذه القراءات علماني الفكر السياسي, وقد صاحبتني هذه الفترة في حياتي لمدة عشر سنوات من عام 1960 حتى عام 1970 وأبرز قراءاتي كانت في الفكر السياسي الغربي وفي حركات السياسية الغربية وفي حركات الاشتراكية وتجارب ثورات العالم، وكانت أيامها حركات التحرر في العالم منتصرة ودول عدم الانحياز قوية, وبدأت كتاباتي في الحركة السياسية وبدأت أكتب في مجلة الطليعة ككاتب عام 1964- 1965 ، والنشر في هذه الفترة كان متقطعًا ومحدوداً كما هو حادث الآن، وكتابي الحركة السياسية بمقدمته يوضح كيف كنت أفكر, فكان تفكيري تفكيرًا وطنيًا فيه فكرة الاشتراكية قوية من حيث أنها عدالة اجتماعية ومن حيث أنها بناء وطني مستقل من الناحية الاقتصادية والسياسية.
وإذا نظرنا في الصلة بين الفترتين السابقة وهذه الفترة نجد أن تفكيري في الناحية السياسية بدأ بفكرة الاستقلال الوطني السياسي لكنه متصل بحركة استقلال عالمية وبوحدة عربية وبحركة بناء اقتصادي مستقل وقوي في الداخل، ففكرتا الاستقلال السياسي والاقتصادي أصبحتا مندمجتين ولم يكن في ذهني بعد العنصر الثالث وهو الاستقلال العقيدي. كنت علمانيًا قحًا في الفكر السياسي لأنني أكره التضارب والخلط وكان لدي فكر إسلامي في أمور ثلاثة رئيسية هي معرفتي بالفقه والفقه يقودني إلى الشريعة وهذا الأمر بقي لي كأساس مهني واحترام بالغ لدور الفقهاء الإسلاميين وقدرتهم غير العادية كنسق قانوني.. والأمر الثاني يتعلق بالرزق الذي ظل دائمًا في قلبي وعقلي أنه يتعلق بقدر الله سبحانه.. ولم أشعر أني أعمل العمل العام مقابل أجر وإنما على أساس أنه واجب والأجر هو رزق يأتيني من عند الله .. والأمر الثالث هو الصحة والموت وأنهما أمر مرهون بقدر الله.
** لكن ما هي المحطة التاريخية والنقطة الفارقة التي جعلتك تنجذب ناحية الإسلام؟
* إذا كانت حرب 1956 جعلتني أقف وأفكر فإن حرب وهزيمة 1967 جعلتني أفكر مرة أخرى لأسال نفسي عن مسلماتي وسألت نفسي من أين أتت الهزيمة, هل لأن الاستعمار ضربنا؟ أم لأننا كانت لدينا قابلية لذلك, ولم أكن أشك في وطنية عبد الناصر. ومن هذه النقطة بدأت أفكر في كتابي الحركة السياسية وبدأت قراءاتي تختلف وبدأ فكري يختلف وبعد أن كان الاهتمام بالأدب العربي ثم الأدب الأجنبي والمسرح والقصة فقدت اهتمامي بالمتابعة الأدبية وأصبحت أشعر أنها لا تغذيني ولا تجيب على الأسئلة التي في ذهني وبدأت أسأل نفسي من نحن؟ إننا نريد أن نستقل أي أن تكون إرادتنا السياسية ملكًا لنا، وإذا أردنا ذلك فعلينا أن تكون لقمة عيشنا ملكًا لنا أيضا, ولكن قبل ذلك هناك مجموعة من العقائد وشعور الجماعة بتميزها وبترابطها وبإحساسها بالانتماء المشترك لكن من أين يأتي هذا؟ أنه يأتي من الجانب العقيدي والتاريخي والحضاري والصيغة العلمانية لم تعطه حقه. إن العلمانية حينما تقول لي استقل سياسيًا واقتصاديًا تفقدني الهوية التي بها استقل وتفقدني إرادة الاستقلال، فاستقلالي هنا لا يكون بإرادة استقلال حقيقية، ومن هنا بدأت استعادتي لهويتي وبدا لي الفكر العلماني في مأزق لأنه يؤدي إلى تجريد الإنسان من هويته المرتبطة بعقيدته وحضارته، بالإضافة إلى أنها مناقضة لقيم الديمقراطية لأن الديمقراطية في النهاية تكوينات شعبية لها استقلالية ذاتية في إدارة شئونها الخاصة وانصياع لحكم الغالبية من الناس الذين قد اختاروا الموقف الديني والموقف العقائدي أساسًا لرؤيتهم ودنياهم.
وكانت قمة استعادتي لهويتي الإسلامية رحلة الحج التي قمت بها عام 1983 ولم أسافر للحج إلا بعد أن وجدت نفسي خلصت لهذا الأمر وأعدت بنائي الفكري والسلوكي على أساس إسلامي.. وقد أخذ مني ذلك وقتًا كبيرًا حتى أسافر وأنا نظيف وهناك شعرت كأنني خرجت من جاذبية كوكب معين إلى جاذبية كوكب آخر وحينما رأيت الكعبة سألت نفسي: من الذي آتى بي إلى هنا؟ وشعرت بهداية الله وتذكرت قوله تعالى: [ثم تاب عليهم ليتوبوا].
** ما هو الأمر الأساسي الذي عصم الأمة المسلمة من الذوبان والانهيار والتفكك؟
* وسطية الإسلام هي التي عصمت الجماعة الإسلامية على طول العصور وتعدد القرون من الانشقاق والتصدع وجعلت رباط الإسلام شديدا وثيقا يضم التنوع الكبير في المدارس والمذاهب والتشكيلات الاجتماعية والثقافية وهذا الرباط الوثيق يضم التكوينات الكبرى في الفكر والسياسة لا ينفك عنها ولا تنفك عنه وأعظمها في التاريخ الإسلامي أهل النص وأهل العقل وأهل الشريعة وأهل الحقيقة وأهل السنة, فالقصد من الرباط الوثيق يرجع إلى عدد من الظواهر وهي أن الخلاف من شأنه أن يستقطب بين طرفيه ويؤدي إلى سيطرة المغالين وإلى نوع من الاتهام المتبادل يوجهه كل طرف للآخر, ومرونة الفكر الإسلامي العقدي وشمول إحاطته للاحتياجات البشرية والاجتماعية كافة في صورها الثقافية والفكرية والعلمية والوجدانية وفي تنوعها الاجتماعي والسياسي عبر الأزمان والعصور وعبر الأمصار والأصقاع أفسح للعنصرين بأن يضمهما الإطار الإسلامي ويجد كلاهما فيه مكانا فسيحا للوجود. وقد وجد كل اتجاه من تقوم دعوته على تأكيد العناصر المشتركة وإعلائها ووضع المناهج التي تمكن من الوجود المتجاور داخل الإطار العام للمفاهيم الإسلامية, إضافة إلى ذلك أن الخلافات السابقة بقيت في إطار تنوع الآراء والمذاهب داخل الإطار العام للعقيدة الإسلامية, ولذا لم نر في الإسلام انشقاقات من نوع ما حدث في المسيحية.
* هل استطاعت الصحوة الإسلامية في السنوات العشرين الماضية أن تضيف شيئًا له أهمية في حياتنا الثقافية والفكرية والسياسية والاجتماعية؟ أم أنها كانت عبئًا على المجتمع؟
** طبعًا أضافت وأضافت الكثير فيما يتعلق بحياتنا السياسية والفكرية والثقافية والاجتماعية. فالصحوة الإسلامية حركة شعبية وحركة فكرية في نفس الوقت والوجود السياسي وجود معترف به اجتماعيًا وجماهيريًا والعنصر الإسلامي أساسي في الحوارات الدائرة ولا يستطيع أحد أن ينكره والقلة القليلة التي تستطيع أن تكسر بعض منابر الكتابة في هذا الموضوع وتنكر هذا الأمر لا تجد مجالاً لإقناع غيرها بذلك. وعلى مدى العشرين سنة الماضية صار الإسلام في وعي الناس أكثر مما كان علي المستوى السياسي والثقافي وهناك ظواهر كثيرة تؤكد هذا المعنى فعندما نقارن عدد المصلين في المساجد في رمضان سواء في صلاة الفجر أو صلاة التراويح الآن بعدد المصلين في المساجد في الستينات سنجد فرقًا كبيرًا.
أيضًا الحجاب على المستوى الشعبي كان انتشاره تلقائيًا ولم تفرضه جهة معينة وإنما بأساليب الدعوة المختلفة احتل الحجاب مكانته بين النساء والفتيات والملاحظ هنا أن كثيرًا من الأمهات الحاسرات تحجبن بعد بناتهن والغريب أن الحركة النسائية لا تعترف بأن الحجاب ظاهرة من ظواهر الحركة النسائية أيضًا كما لو كانت الحركة النسائية مقتصرة على السفور. إن النساء اللاتي أسفرن من قبل تحجبن الآن على يد بناتهن.. وهؤلاء هن أنفسهن الحركة النسائية، لقد أخذت الحركة النسائية مدلولاً علمانيًا لا يعترف أن هناك نسوة أخريات تحجبن 'وهن أنفسهن' الحركة النسائية فلقد تحجبن بمحض إرادتهن واقتناعهن الشخصي والأسري وفرض وجودهن في المدارس والجامعات ودواوين الحكومة, والحجاب أكثر ما يكون بين المرأة العاملة والمرأة المتعلمة, ولم يكن الحجاب عائقًا في التعليم لذلك انتشر بين المتعلمات ولم يكن عائقًا للمرأة عن العمل ولذلك انتشر بين العاملات وهذه كلها أمثلة شعبية بحتة على نجاح الصحوة الإسلامية ولا يدخل فيها عنصر التوجيه السياسي والموقف السياسي إنما هو قلب يزداد امتلاؤه بالإيمان فيزداد انصياعه لحكم الإسلام وإذا كان البعض يرى أن الصحوة الإسلامية كانت عبئًا على المجتمع فلا أدري حجم المقتنعين بهذا الكلام... الكتابات كثيرة ولكن المقتنعين بها قليل.
* كثيرًا ما يوجه انتقاد لفصائل التيار الإسلامي بأنهم يعيشون أسرى لشعارات براقة ومطاطة وهلامية ولا يمتلكون برامج محددة هل توافق على هذا الاتهام؟
** طالما نتحدث في السياسة فلابد أن يكون هناك قدر من الوضوح في الأهداف والمواقف السياسية المختلفة وفكرة الشعار لا تنفي وضوح البرامج لأن الشعار يلخص المواقف والأهداف في كلمات قليلة.
فالشعارات مقبولة إن كان وراءها وضوح سياسي والوضوح السياسي لا يشترط فيه فيما أتصور أن يكون عن طريق برامج مكتوبة فيمكن أن يتحدد الوضوح السياسي بتحدد المواقف السياسية في القضايا المختلفة ويستخلص منها الأهداف السياسية, والذي يؤكد عليه الجانب الإسلامي هو إعادة المرجعية وإعادة الشرعية لإطارها المرجعي الإسلامي وهذا هو المفتقد في السياسات الموجودة والذي يركز عليه ويتميز به التيار الإسلامي, فحينما تأتي حركة إسلامية وترفع شعار الشريعة الإسلامية فهي تقصد بذلك إعادة المرجعية السياسية والاجتماعية مرجعية النظم والمعاملات للإطار الشرعي الإسلامي وبقدر ما تتبنى الجماهير هذا الشعار تتأكد جدية الهدف ويتأكد أيضًا مدى الاحتياج إليه.
* الدولة في عالمنا العربي سعيدة بالعلمانية لأنها لا تفرض عليها مرجعية وهوية محددة بينما العلمانية في أوروبا هي التي أزاحت الكنيسة وأقامت الديمقراطية والمؤسسات.. لماذا اختلف الأمر في الحالتين؟
** في أوروبا نشأت المرجعية الوضعية الجديدة خارج إطار الدولة عندما قامت حركة الصراع ضد الحكم الاستبدادي الملكي والإقطاعي وحكم الكنيسة وأنشأت لها داخل الأطر الاجتماعية وجودًا منفصلاً عن الدولة ونشأت الدولة داخل هذا الوجود. إن الدولة العلمانية نشأت في أوروبا امتثالاً لحركة رأي عام قوية مثلت أسسًا ومرجعيات وضعية وفرضتها على الدولة من خلال مؤسسات أهلية واجتماعية مختلفة سواء كانت أحزابًا أو نقابات أو تنظيمات مختلفة أو حتى برلمانات.. هكذا نشأت العلمانية في أوروبا. أما العلمانية في بلادنا فنشأت بشكل آخر مختلف وفي سياق تاريخي آخر. فالعلمانية في بلادنا أزاحت الإسلام كمرجعية سياسية وكمرجعية فكرية للمجتمع.. وتم هذا بواسطة الدول عندنا في القرن التاسع عشر وتم عن طريق الاحتلال وبناء أجهزة الدولة وفق ما يبتغي المحتلون الأجانب فأصبحت الشرعية العلمانية لدينا شرعية إجرائية وليست شرعية ناتجة عن خارج الدولة كما هو واضح في الحالة الأوروبية والعلمانية عندنا جعلت الدولة تستمد شرعيتها من داخلها وليس من إطار مرجعي أو فلسفات خارج هذا الإطار. وهكذا أصبحت المرجعية الشرعية في بلادنا عن طريق مرجعية إجرائية.. يعني في النظام الديمقراطي الذي عرفناه بسلطاته الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية.. فإن السلطة التشريعية تضع القوانين ويكفي أن يكون القانون صادرًا من السلطة التشريعية لكي يكون مرجعية تشريعية كاملة بصرف النظر عن الأسس قام عليها هذا القانون والتي تحميها مؤسسات الدولة ومؤسسات المجتمع المدني. وعلى سبيل المثال فإن القانون في مصر في فترة الخمسينات والستينات كان كافيًا أن يصدر عن رئيس الجمهورية وهذا يضفي عليه شرعية كاملة. والقانون قبل عام 1952 كان يصدر من البرلمان وهذا يضفي عليه شرعية كاملة بصرف النظر عن المرجعيات والفلسفات التي يستند إليها والتي تسندها وتدافع عنها مؤسسات موجودة. وحتى شرعية البرلمان في ذلك الوقت كانت تأتي من هدوئه مع المحتل الأجنبي وعدم منازعته ومناكفته.
* الحركة الإسلامية متهمة بأنها تظلم الغرب وتحمله مسئولية مشاكلنا وتتبنى منهج التفسير التآمري للتاريخ. فما الخطأ والصواب في هذه المقولة؟ وما علاقة ما حدث في البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان بذلك؟
** أتصور أن الحركة الإسلامية ليست ضد الغرب بوصفه غربًا أو شعوبًا ليسوا مسلمين, وإنما السبب أنه كان هناك عدوان من الغرب على شعوب العالم الإسلامي على مدى القرنين الماضيين بالهيمنة السياسة وبالغزو والاحتلال العسكري المسلح وبفرض التجزئة على بلادنا وبالتسرب الاقتصادي والسيطرة على هذه الشعوب... فضلاً عن دور الغرب في الجانب الفكري والحضاري الذي شاع في بلادنا ليبعد المسلم عن إسلامه بقدر الإمكان.. وهذا تاريخ وحاصل على مدى عقود عديدة ونحن واجهناه بحركات المقاومة المسلحة وبثورات وانتفاضات وغير ذلك.
لقد حدثت مواجهة تاريخية على مدى طويل لا يستطيع أحد أن ينكرها ولا في الغرب نفسه, والغرب إذا تعامل معنا على أساس من احترام استقلالنا, وأقام علاقات من التعاون والتبادل في المجال الاقتصادي والفكري على أساس من الإقرار بتميزنا الحضاري, وبأن لنا خصائصنا وتاريخنا.. لو حدث هذا ستسقط التهمة من تلقاء نفسها.
ونحن مستعدون أن ننسي الماضي بعد أن يصبح ماضيًا.. لكن وقائع الماضي لا تزال حية في فلسطين مثلاً.. كم كلفتنا هذه القضية؟ وكم أهدرت من طاقاتنا, وبددت من إمكانياتنا؟ نحن مستعدون أن ننسى الماضي بشرط ألا يتكرر في البوسنة والهرسك وكوسوفا والشيشان.
* هل نستطيع أن نقول إن الفكر القومي مات في العالم العربي؟
** الحركة الإسلامية أصبحت أكثر ذيوعًا على المستوى الشعبي من الحركات القومية.. ولقد كانت مشكلة الحركات القومية أنها وضعت نفسها في مقابلة ومواجهة الحركات الإسلامية وأقامت المفهوم القومي على أنه بديل عن المفهوم الإسلامي مفارق له, وأتصور أن روافد عديدة من الفكر القومي الآن تعيد النظر في هذه المسألة وتحاول أن تقترب من التوجه الإسلامي في شكله العام وتحاول أن تضع الإسلام بين عناصر توجهها الحضاري والفكري.. ومنهم من يبتعد عن أسس الفكر المادي والعلماني ليسير في هذا الاقتراب, إننا لا نرى في الثلاثينات مثلاً عراكًا بين الإسلام والعروبة.. بل لعله التوجه الإسلامي هو ما انبثقت عنه في مصر الفكرة العربية وتميزت به عن الحركة الوطنية القُطرية المصرية التي ظهرت في العشرينات.. وكان الإسلاميون هم الذين يشجعون التوجه العربي باعتباره توجهًا نحو وحدات إسلامية أعم وأشمل من النظرة التجزيئية القُطرية.. وما حدث في مصر في الثلاثينات حدث في بلدان المغرب قبل ذلك وبعد ذلك على ما هو معروف.
* المثقفون الإسلاميون متهمون بالسطحية والعمومية.. هل هذا اتهام ظالم أم قائم على دليل؟ وما هي انتقاداتكم للمستوى الفكري والثقافي في الحركة الإسلامية في مصر؟
** أتصور أن المثقفين الإسلاميين ليسوا سطحيين.. فهم يطالبون بتحقيق أهداف لازمة للحياة الاجتماعية والسياسية.. إنهم يطالبون بأن تكون المرجعية لأحكام الإسلام في تنظيم المجتمع وعلاقاته.. وهذه المطالب لا تتهم بالسطحية لأنها مطالب حقيقية تحتاجها الجماعة بالفعل, وافتقاد هذه المطالب يمس الجماعة, ويضعف من شوكتها, ويوهن من قوى التماسك فيها في مواجهتها للمشاكل والعقبات التي تتراءى في هذه المرحلة التاريخية من حيث المخاطر الخارجية التي تواجه بلادنا.. ومن حيث ما يتعين كفالته لتحقيق النهضة الاجتماعية.
ويكون وجه القول هنا في اتهامهم بالعمومية بأن هذه المقاصد العامة التي يتبنونها لم تتمثل في مجموعة من الأهداف التفصيلية والبرامج المحددة, وهذه نقطة أتصور أن الوضع الثقافي العام للمثقفين الإسلاميين في هذه المرحلة- وإن لم يحقق الأهداف المرجوة كلها في تبيان تفاصيل الأهداف المذكورة بعد- إلا أنه سار على الطريق لهذا الأمر. ومطالعة الإنتاج الفكري والثقافي للمفكرين الإسلاميين في العقدين الأخيرين يكشف هذا التوجه.. والذي يتعين ملاحظته أن هناك نقصًا واضحًا لا يزال قائمًا في إدراك ما يمكن أن نسميه [فقه الواقع].. فعلوم الواقع لم تندمج بعد في الإدراك الثقافي الإسلامي.. لم تصدر عنه بعد بالشكل المطلوب بالنسبة لعلوم الاجتماع فيما أتصور وفي مجال الاقتصاد السياسي, وفي مجال العلاقات الدولية. وأتصور أن هذه المجالات الثلاثة تحتاج إلى جهد كبير من المفكرين والباحثين لكي يدلوا بدلوهم فيها ولكي يستخرجوا من الواقع دلالاته ومشاكله وتحدياته, ووجوه العلاج المناسبة لكل ذلك من وجهة النظر الإسلامية وبمراعاة الصالح الإسلامي العام.. ففي مجال التاريخ مثلاً قد نكون درسنا التاريخ الإسلامي بشكل ما من الناحية السياسية ولكننا لم ندرسه بالشكل الكافي بعد من حيث المؤسسات الاجتماعية والتكوينات الاجتماعية التي سادت على مدى الحقب الماضية. لم ندرس الوظائف الاجتماعية التي قامت بها الكثير من المفاهيم والمؤسسات التي عرفناها في الفقه, درسناها من الناحية الفقهية, لكننا لم نتفهم وظائفها الاجتماعية من ناحية الواقع التاريخي. درسنا الأسرة من الناحية الفقهية.. ولكننا لم ندرس الوظيفة الاجتماعية التي قامت بها الأسرة أو تقوم بها.. سواء كانت الأسرة الصغيرة أو الأسرة الكبيرة.
والواقع درسناه من الناحية الفقهية ولم ندرسه بشكل كاف بعد من النواحي الاجتماعية, والوظائف التي قام بها لتيسير الخدمات الاجتماعية في التعليم والصحة والمرافق. درسنا الحسبة من الناحية الفقهية, ولم ندرس بشكل كاف الوظائف الاجتماعية التي قام بها هذا النظام.. سواء من جانب الدولة أو من جانب الأهالي. فمن ناحية الدولة فإن نظام الرقابة الذاتية داخل الدولة قام كله من النظام الحسبي, أو من خلال مفهوم الحسبة وديوان المظالم, أما من ناحية نشاط الأهالي في هذا الأمر فقد تمثل نشاط الحسبة لديهم فيما يماثل ما نعرفه الآن من أنشطة الجمعيات, والأحزاب والصحافة وغيرها.
* هل أصبح نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية قدراً لا يمكن التصدي له ومواجهته؟
** إذا كانت هناك هيمنة أمريكية على مقدرات عالم اليوم، تظل هناك إرادات وطنية قائمة، وستجد أوروبا ليست منصاعة تماماً لأمريكا ولها حدود معينة في هذا الشأن مثل فرنسا وألمانيا، نجد روسيا أيضاً ليست منصاعة على الرغم من أنها في حالة من الضعف الشديد، ستجد الصين تعمل بشكل مختلف وإيران وكوريا الشمالية، وهناك معارضة متنامية لسياسات الولايات المتحدة من غالبية دول أمريكا اللاتينية.
أي هناك مجالات معينة نستطيع بها أن نصون الجوهريات والأساسيات، وإذا زاد الضغط علينا عن حد معين لابد أن نقاوم، وأكبر مثل لهذا الفلسطينيون، فإذا حسبنا بالسياسة والاقتصاد وكل شيء، فإن قدرتهم على مواجهة الصهيونية وإسرائيل المؤيدة من الولايات المتحدة ضعيفة، ولكنهم يقاومون وقادرون على التعبير عن أنفسهم والتأثير في الساحة وإيلام خصمهم.
* يرى بعض المثقفين العرب أننا أمام رفض الأنظمة العربية لدعاوى الإصلاح فإننا يجب أن نعتمد على الضغط الأمريكي والغربي على هذه الأنظمة. كيف تنظرون إلى هذا الطرح؟
** إن أول شرط للديمقراطية هو أن تكون صناعة محلية صرفة، وأن تتشكل في ممارساتها وإجراءاتها ثم في تكوينها من المادة الوطنية دون غيرها. وهذا ما عليه الحال فيما نعرفه بما يسمى بلدان العالم الديمقراطي المتقدم. فلا نجد بلدا من تلك البلاد سمح لنفسه أن يستجلب من خارجه رقابة على شئونه الداخلية، وإن من يتكلم عن الرقابة الخارجية من مقلدي الغرب، فإن الأحرى أن يقلدوه في سمة الاعتماد على الذات وحدها في بناء نظم الداخل ومؤسساته.
ونحن عندما نستعين بالقوى الخارجية على أوضاعنا الداخلية إنما نكون قد أقررنا على أنفسنا بأننا غير قادرين على إدارة شئوننا الذاتية، ولا قادرين على حماية مصالحنا الداخلية في مواجهة من هم منا، فكيف نكون قادرين من ثم على حماية مصالحنا وأوطاننا في مواجهة قوى الخارج؟
إن المبدأ الساري في السياسات الدولية أن من لا يقدر لا يستحق، ونحن إذا أقررنا على أنفسنا بعدم القدرة على حماية أوطاننا من المستبدين الداخليين، فإن قوى العدوان الخارجي تفهم من ذلك أننا لسنا مستحقين لهذه الحماية. وأنا لا أعرف كيف نطلب المدد ممن وقفوا دائما مع المستبدين يؤازرونهم علينا، وكانت قوى العدوان الخارجي هي أصل كل ما عانينا منه على مدى القرنين الأخيرينp,hv lk` sk,hj lu hglsjahv hglpjvl 'hvr hgfavd
المفضلات