أرجوكم.. لا تكبروا عن التفاهات. منقول
البعض منَّا عندما يكبر، تبدو له بعض الأمور الصغيرة واللَّطيفة التي مارسها صغيرًا نوعًا من التفاهة الَّتي لم يعد يراها، وقد يجد الحرَج منها، وربَّما يكون يتمنَّاها؛ ولكن يصدُّه حاجز الخوف والحياء في غير موضعه أحيانًا، ليمتدَّ إلى أقلِّ ما يستطيعه المرء من جهد: "الكلِمة الطيِّبة".
ومِن أعجب ما قد يراه بعضُنا تفاهة: "ملاطفة الوالِدَين"، وعندما أقول "ملاطفة" أو "مداعبة"، فأنا لا أقصِد قلَّة الاحتِرام أو الاستخفاف بهما، سواء بمناداتِهما باسمِهِما أو عدم اللَّباقة في الحديث، يزيد عن ذلك أو ينقص.
إنَّما أقصد الملاطفة التي تُدْخِل السرور على قلبيْهما، وتشعرهم بأهمِّيَّتهم ومكانتهم في نفوس أبنائهم، والَّتي تُحْسَب بالنيَّة الصَّالحة نوعًا من البرِّ بِهما، وحسبُنا في أعلى درجات البِرِّ: مدرسة أبي هُرَيْرة - رضِي الله تعالى عنْه وأرضاه.
عندما كنتُ في المرحلة المتوسِّطة، سألتْنا إحدى الأستاذات سؤالاً من حياتِنا اليومية: مَن منكنَّ تُقَبِّل أو تُعانق أمَّها مرَّة في اليوم؟ فلم تَجِد جوابًا، قالت: حسنًا، مرَّة في الأسبوع، في الشَّهر ... حتَّى وصلتْ أخيرًا في السَّنة.
فأتتْها الإجاباتُ بعد ذلك: أفعل ذلك في العيدين، والأمر لا يتعدَّى السَّلام على الرَّأس واليدين كنوْعٍ من الاحتِرام، وشاركها الرَّأي الكثيرات.
عندما يواجهُني موقفٌ عصيب فقط أتَّجه مباشرة إلى حضْن أمِّي، وبِحُكم معرفة البعض منَّا بالآخر، نعلم أنَّ بعضَنا قد يجِد الحرج في السَّلام - والله - حتَّى بالعيدَين.
ولا أذكر إن كان أحدٌ بالصَّفِّ تكلَّم بإيجابية في هذه المسألة إلاَّ القليلات.
لكُم أن تتخيَّلوا فتياتٍ في سنِّ الثَّانية أو الثالثة عشر، لا تستطيع إحداهُنَّ أن تتناقش فيه مع والدتِها بالشَّكل الذي تشعر أيُّ فتاة في مثل سنِّهنَّ الحاجة الماسَّة لصداقةِ الأمِّ، فضلاً عن أنْواع التَّواصُل البصري والحسِّي!
لا أدْري كيف ونحن أبناء المجتمع المسلِم المتراحِم، الَّذي طبَّق أسمى معاني الاهتِمام والرِّعاية بكل فرْدٍ في المجْتَمع؟! لا أدري!
وقدَّر الله - تعالى - أن يأتي يوْمٌ وأسأل فيه بعض الأخوات الصَّغيرات في جلسةٍ عامَّة نفس السُّؤال، فتأْتِيني الإجابة: بصراحة - يا "أبلة" - كبرنا.
وثانية: صعبة، ما تعوَّدْنا.
وثالثة بكل ثِقة: نعم الحمدُ لله.
ورابعة: عادي!
كيف عادي؟!
- يعني عادي!
- يعني ما تفرق "سلمتِ" "ما سلمت"!
- ما هكذا، لكن أحس "عادي".
فلم أفهم من كلمة "عادي" إلاَّ "عادي"، ولا أدري ما تقصد بـ "عادي"؟!
واستخلصتُ من حديثِهنَّ اللَّطيف أنَّ علاقاتِهنَّ بصديقاتِهنَّ، والحديث عن أحداثِهِنَّ ومُغامراتِهنَّ اليوميَّة المدرسيَّة، وأسرارهنَّ - أكثر ارتباطًا من أمَّهاتِهنَّ، ولم يعد الأمر يشكِّل فرقًا؛ فهو صورة متكرِّرة في أغلب البُيوت، وهو في رأيي طبيعي إذا لم يتجاوز الحدَّ، ويكون هناك تفريطٌ من الأم بِحيث لا تدري حقيقة عن المشاكل العامَّة والخاصَّة التي تواجه فتاتَها، ولا تَجد البنتُ في المقابل الشَّجاعة باستِشارة أمِّها.
لكنِّي ما زلت أتساءل عن سبب إحْجام بعض الفتيات عن التَّواصُل مع أمَّهاتِهِنَّ في هذه السِّنِّ المبكِّرة، هل يعود في الأصْل للأم ونوْعِية التَّربية التي وجدَتْها في صِغَرِها؟ أم يعود للإِهْمال وعدم المبالاة، وجعْل حاجات الأبناء ثانويَّةً في ظلِّ الانشِغال التَّامِّ بأمور أُخرى تراها أهم؟ أم بسبب التأثُّر بوسائل الإعلام، خاصَّة المشاهدة منها؟ أم يعود لمفهوم كبر المرء على هذه التصرُّفات الجميلة، والتي يراها نوعًا من التفاهة، أو البلاهة، أو سمّوها ما شئتم؟!
هل من الطبيعي أن تكون الفتاة متعلِّقة بصديقتِها لدرجة أنَّها تحلُّ محلَّ الأمِّ في الاستشارة والمكانة؟ أم هل من الطَّبيعي أن نكبر ونخشى حتَّى الجلوس بقرب والِدَينا، فضلاً عن السَّلام عليْهِم والتودُّد إليْهِم؟!
لا أدْري، فكل الَّذي أعرف أنَّ المَرْء مهْما كبر لا يزال في عين والدَيْهِ صغيرًا، يُفرحُهما قربُه منهما بالطَّريقة التي يريدون، ما دامت لا تقلِّل من احترامهما، هذا الَّذي سمعته منهم وأشعر أنَّ قلوب الأمَّهات والآباء تنطِق به، مهْما أبْدَوا من صلابة.
فإلى الوالدين أقول:
أوْلادكم فلذات أكبادِكم، ولا توجد قوَّة في الأرض تمنعكم من التقرُّب منهم وتلبية جميع حاجاتِهم، ومنها النفسيَّة والعاطفيَّة منذ وقت مبكر، حتَّى لا تروا ألْوان الانحِراف العاطفي الذي لن ترضوه مستقْبلاً فيهم، أو الجفاء السُّلوكي الَّذي لم تأملوه منهم.
فأرْجوكم، قوموا بواجبِكم في هذا، ولا أظنُّكم بحاجة لدرسٍ في هذه؛ فقَد أودعها الله - تعالى - في قلوبِكم بالفطرة، فقط اتَّبعوها ولا تزْهدوا فيها، وتزوَّدوا من العلم والمعرفة في ترْبِية أوْلادِكم، لاسيَّما المراهقة ومشاكلها.
إلى مَن يلجأ أوْلادكم إن لَم تكونوا أنتُم مِحْور اهتمامِهم، ومنبع مواساتهم، إلى من؟!
لماذا تحمِّلوهم فوق ما يُطيقون؟! وما أوْجَدَكم الله - تعالى - في عالمِهم إلاَّ لتكونوا آباءهم، مهْما كانت ظروف ماضيكم الَّتي لا ينبغي أن تمتدَّ إليْهم تبعاتُها.
وإلى الأبناء أقول:
أرْجوكم، لا تزْهدوا بكل أنواع البر الَّذي تملكون، وعضُّوا عليْها بالنَّواجذ، فلن تجدوا صدًّا من صدر رحيم، ولا ثنيًا من قلب كريم، وإن كان ماضي آبائِكم أخشن من الحصير، فليَكُنْ حاضرُكم بهم أنْعَم من ريش النعام، وأبْدِلوهم خيرًا منه، ولا ينتقل إليْكُم ماضيهم البئيس فتتوارثوه، فأرْجُوكم لا تكبروا على ما تروْنه تفاهات قبل أن يأتي يوْمٌ تتمنَّونَها فلا تجدونَها.
فالوالدان كنزٌ ثَمين، اسألوا عن قيمَتِهِما من حُرِمَهُما، وافعلوا الخير لتنْعموا من بعدِهِما بأطْيب الذِّكْريات.
: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا * رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا} [الإسراء: 23 - 25].
منح من مِحن:
عظيمة هي المِحن التي تخرج من باطنها المِنح، فتهدينا الأيَّام أناسًا هم بالحقيقة آباؤنا، وإن لم يكونوا كذلك، وأهلونا وإخواننا وأخواتُنا الَّذين لم تلدْهم أمَّهاتُنا، يفرحهم ما يفرحنا، ويؤلمهم ما يؤلمنا، وكل ذلك بالإسلام، وبالإسْلام فقط، فما أعظمَ دينَنا! وشكرًا لهم.;l lvi uhkrj hl;
المفضلات