السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أما بعد:
النصرانية
التعريف :
هي الرسالة التي أنزلت على عيسى عليه السلام ، مكملة لرسالة موسى عليه الصلاة والسلام ، ومتممة لما جاء في التوراة من تعاليم ، موجهة إلى بني إسرائيل ، داعية إلى التوحيد والفضيلة والتسامح ، ولكنها جابهت مقاومة واضطهاداً شديداً ، فسرعان ما فقدت أصولها ، مما ساعد امتداد يد التحريف إليها ، فابتعدت كثيراُ عن أصولها الأولى لا متزاجها بمعتقدات وفلسفات وثنية .
التأسيس وأبرز الشخصيات :
مرت النصرانية بعدة مراحل وأطوار تاريخية مختلفة ، انتقلت فيها من رسالة منزلة من عند الله تعالى إلى ديانة محرفة ومبدلة ، تضافر على صنعها بعض الكهان ورجال السياسة ، ويمكن تقسيم هذه المراحل كالتالي :
· المرحلة الأولى :
النصرانية المنزلة من عند الله جاء بها عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام :
- هي رسالة أنزلها الله تعالى على عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام إلى بني إسرائيل بعد أن انحرفوا وزاغوا عن شريعة موسى عليه السلام ، وغلبت عليهم النزعات المادية . وافترقوا بسبب ذلك إلى فرق شتى ، فمنهم من يؤمن بأن غاية الإنسان هي الحياة الدنيا ، حيث لا يوم آخر ، ولا جنة ولا نار ، ومنهم من يعتقد أن الثواب والعقاب إنما يكونان في الدنيا فقط ، وأن الصالحين منهم يوم القيامة سيشتركون في ملك المسيح الذي يأتي لينقذ الناس ، ليصبحوا ملوك العالم وقضاته . كما شاع فيهم تقديم القرابين والنذور للهيكل رجاء الحصول على المغفرة ، وفشا الاعتقاد بأن رضا الرهبان ودعاءهم يضمن لهم الغفران . لذا فسدت عقيدتهم وأخلاقهم ، فكانت رسالته ودعوته عليه الصلاة والسلام داعية إلى توحيد الله تعالى حيث لا رب غيره ولا معبود سواه ، وأنه لا واسطة بين المخلوق والخالق سوى عمل الإنسان نفسه ، وهي رسالة قائمة على الدعوة للزهد في الدنيا ، والإيمان باليوم الآخر وأحواله ، ولذا فإن عيسى عليه الصلاة والسلام كان موحداً على دين الإسلام ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين .
- المبلغ : عيسى ابن مريم عليه السلام ، أمه البتول مريم ابنة عمران أحد عظماء بني إسرائيل ، نذرتها أمها أن تحمل بها لخدمة المسجد ، وكفلها زكريا أحد أنبياء بني إسرائيل وزوج خالتها ، فكانت عابدة قانتة لله تعالى ، حملت به من غير زوج بقدرة الله تعالى ، وولدته عليه السلام في مدينة بيت لحم بفلسطين ، وأنطقه الله تعالى في المهد دليلاً على براءة أمه من بهتان بني إسرائيل لها بالزنا ، فجاء ميلاده حدثاً عجيباً على هذا النحو ليلقي بذلك درساً على بني إسرائيل الذين غرقوا في الماديات ، وفي ربط الأسباب بالمسببات ، ليعلموا بأن الله تعالى على كل شيء قدير .
- بعث عيسى عليه السلام نبياً إلى بني إسرائيل ، مؤيداً من الله تعالى بعدد من المعجزات الدالة على نبوته ، فكان يخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله . ويبرئ الأكمه والأبرص ويحيى الموتى بإذن الله .
-كما كان يخبر الناس بما يأكلون وما يدخرون في بيوتهم بإذن الله .
-وقد أيده الله هو وحوارييه بمائدة من السماء أنزلها عليهم لتكون عيداً لأولهم وآخرهم .
- تآمر اليهود على قتله برئاسة الحبر الأكبر ( كايافاس ) وأثاروا عليه الحاكم الروماني لفلسطين ( بيلاطس ) لكنه تجاهلهم أولاً ، ثم لما كذبوا عليه وتقولوا على عيسى عليه السلام بأنه يدعو نفسه مسيحاً ملكاً ، ويرفض دفع الجزية للقيصر ، دفع ذلك الحاكم إلى إصدار أمراً بالقبض عليه ، وإصدار حكم الإعدام ضده عليه السلام .
- اختفى عيسى وأصحابه عن أعين الجند ، إلا أن أحد أصحابه دل الجند الرومان على مكانه ، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه الصلاة والسلام وصورته عليه ، ويقال إنه يهوذا الإسخريوطي وقيل غيره ، فنفذ حكم الصلب فيه بدلاً من عيسى عليه الصلاة السلام حيث رفعه الله إليه ، على أنه سينزل قبل قيام الساعة ليحكم بالإسلام ، ويقتل الخنزير ، ويكسر الصليب ، ثم يموت كما دلت على ذلك النصوص من الكتاب والسنة الصحيحة .
- آمن بدعوة المسيح عليه السلام الكثير ولكنه اصطفى منهم اثني عشر حوارياً كما هم مذكورون في إنجيل متى .
- وهناك الرسل السبعون الذين يقال بأن المسيح عليه السلام اختارهم ليعلموا النصرانية في القرى المجاورة .
· المرحلة الثانية :
- ويسميها مؤرخو الكنيسة بالعصر الرسولي ، وينقسم هذا العصر إلى قسمين :
التبشير وبداية الانحراف ، والاضطهاد الذي يستمر حتى بداية العهد الذهبي للنصارى .
· التبشير وبداية الانحراف
· بعدما رفع المسيح عليه السلام ، واشتد الإيذاء والتنكيل بأتباعه وحوارييه بوجه خاص ؛ حيث قتل يعقوب بن زيدي أخو يوحنا الصياد فكان أول من قتل من الحواريين ، وسجن بطرس ، وعذب سائر الرسل ، وحدثت فتنة عظيمة لأتباع المسيح عليه الصلاة والسلام حتى كادت النصرانية أن تفنى .
وفي ظل هذه الأجواء المضطربة أعلن شاول الطرسوسي اليهوذي الفريسي ، صاحب الثقافات الواسعة بالمدارس الفلسفية والحضارات في عصره ، وتلميذ أشهر علماء اليهود في زمانه عمالائيل ، أعلن شاول الذي كان يذيق أتباع المسيح سوء العذاب ، إيمانه بالمسيح بعد زعمه رؤيته عند عودته من دمشق ، مؤنباً له على اضطهاده لأتباعه ، آمر له بنشر تعاليمه بين الأمم ، فاستخف الطرب النصارى ، في الوقت الذي لم يصدقه بعضهم ، إلا أن برنابا الحواري دافع عنه وقدمه إلى الحواريين فقبلوه ، وبما يمتلكه من حدة ذكاء وقوة حيلة ووفرة نشاط استطاع أن يأخذ مكاناً مرموقاً بين الحواريين وتسمى بـ بولس .
- انطلق الحواريون للتبشير بين الأمم اليهودية في البلدان المجاورة ، التي سبق أن تعرفت على دعوة المسيح عليه السلام أثناء زيارتها لبيت المقدس في عيد العنصرة ، وتذكر كتب التاريخ النصراني بأن متى ذهب إلى الحبشة ، وقتل هناك بعد أن أسس أول مدرسة لاهوتية وكنيسة فيها بتوجيه من بطرس الذي أسس كنيسة روما وقتل في عهد نيرون عام 62م .
- أما بولس فذهب إلى روما وأفسس وأثينا وأنطاكية ، وأسس فيها كنائس نصرانية نظير كنيسة أورشليم ورسم لهم أساقفه . وفي أحد جولاته في أنطاكية صحبه برنابا فوجدا خلافاً حاداً بين أتباع الكنيسة حول إكراه الأمميين على اتباع شريعة التوراة فعادا إلى بيت المقدس لعرض الأمر على الحواريين لحسم الخلاف بينهم .
· بداية الانحراف :
- فيما بين عام 51-55م عقد أول مجمع يجمع بين الحواريين - مجمع أورشليم - تحت رئاسة يعقوب بن يوسف النجار المقتول رجماً سنة 62م ليناقش دعوى استثناء الأمميين ، وفيه تقرر - إعمالاً لأعظم المصلحتين - استثناء غير اليهود من الالتزام بشريعة التوراة إن كان ذلك هو الدافع لانخلاعهم من ربقة الوثنية ، على أنها خطوة أولى يلزم بعدها بشريعة التوراة . كما تقرر فيه تحريم الزنا ، وأكل المنخنقة ، والدم ، وما ذبح للأوثان ، بينما أبيحت فيه الخمر ولحم الخنزير والربا ، مع أنها محرمة في التوراة .
- عاد بولس بصحبة برنابا إلى أنطاكية مرة أخرى ، وبعد صحبة غير قصيرة انفصلا وحدث بينهما مشادة عظيمة نتيجة لإعلان بولس نسخ أحكام التوراة وقوله أنها : " كانت لعنة تخلصنا منها إلى الأبد " و " أن المسيح جاء ليبدل عهداً قديماً بعهد جديد " ولا ستعارته من فلاسفة اليونان فكرة اتصال الإله بالأرض عن طريق الكلمة ، أو ابن الإله ، أو الروح القدس ، وترتيبه على ذلك القول بعقيدة الصلب والفداء ، وقيامة المسيح وصعوده إلى السماء ، ليجلس على يمين الرب ليحاسب الناس في يوم الحشر . وهكذا كرر بولس نفس الأمر مع بطرس الذي هاجمه وانفصل عنه مما أثار الناس ضده ، لذا كتب بولس رسالة إلى أهل غلاطية ضمنها عقيدته ومبادئه ، و من ثم واصل جولاته بصحبة تلاميذه إلى أوروبا وآسيا الصغرى ليلقى حتفه أخيراً في روما في عهد نيرون سنة 65م .
- قد استمرت المقاومة الشديدة لأفكار بولس عبر القرون الثلاثة الأولى : ففي القرن الثاني الميلادي تصدى هيولتس ، وإيبيي فايتس ، وأوريجين لها ، وأنكروا أن بولس كان رسولا ، وظهر بولس الشمشاطي في القرن الثالث ، وتبعه فرقته البوليسية إلا أنها كانت محدودة التأثير . وهكذا بدأ الانفصال عن شريعة التوراة ، وبذرت التثليث والوثنية في النصرانية ، أما باقي الحواريين والرسل فإنهم قتلوا على يد الوثنيين في البلدان التي ذهبوا إليها للتبشير فيها .
· الاضطهاد :
- عانت الدعوة النصرانية أشد المعاناة من سلسلة الاضطهادات والتنكيل على أيدي اليهود الذين كانت لهم السيطرة الدينية ، ومن الرومان الذين كانت لهم السيطرة والحكم ، ولذلك فإن نصيب النصارى في فلسطين ومصر كان أشد من غيرهم ، حيث اتخذ التعذيب والقتل أشكالاً عديدة ، ما بين الحمل على الخشب ، والنشر بالمناشير ، إلى التمشيط ما بين اللحم والعظم ، والإحراق بالنار .
- من أعنف الاضطهادات وأشدها :
1- اضطهاد نيرون سنة 64م الذي قتل فيه بطرس وبولس .
2- واضطهاد دمتيانوس سنة 90م وفيه كتب يوحنا إنجيله في أفسس باللغة اليونانية .
3- واضطهاد تراجان سنة 106م وفيه أمر الإمبراطور بإبادة النصارى وحرق كتبهم ، فحدثت مذابح مروعة قتل فيها يعقوب البار أسقف أورشليم .
4- ومن أشدها قسوة وأعنفها اضطهاد الإمبراطور دقلديانوس 284م الذي صمم على أن لا يكف عن قتل النصارى حتى تصل الدماء إلى ركبة فرسه ، وقد نفذ تصميمه ، وهدم الكنائس وأحرق الكتب ، وأذاقهم من العذاب صنوفاً وألوناً ، مما دفع النصارى من أقباط مصر إلى اتخاذ يوم 29 أغسطس 284ن بداية لتقويمهم تخليداً لذكرى ضحاياهم .
- وهكذا استمر الاضطهاد يتصاعد إلى أن استسلم الامبراطور جالير لفكرة التسامح مع النصارى لكنه مات بعدها ، ليعتلي قسطنطين عرش الإمبراطورية .
- سعى قسطنطين بما لأبيه من علاقات حسنة ، فأعلن مرسوم ميلان الذي يقضي بمنحهم الحرية في الدعوة والترخيص لديانتهم ومساواتها بغيرها من ديانات الإمبراطورية الرومانية ، وشيد لهم الكنائس ، وبذلك انتهت أسوأ مراحل التاريخ النصراني قسوة ، التي ضاع فيها إنجيل عيسى عليه السلام ، وقتل الحواريين والرسل ، وبدأ الانحراف والانسلاخ عن شريعة التوراة ، ليبدأ النصارى عهداً جديداً من تأليه المسيح عليه الصلاة والسلام وظهور اسم المسيحية .
· نشأة الرهبانية والديرية وتأثير الفلسفة على النصرانية :
- في خلال هذه المرحلة ظهرت الرهبانية في النصرانية في مصر أولاً على يد القديس بولس الطبي 241-356م والقديس أنطوان المعاصر له ، إلا أن الديرية - حركة بناء الأديرة - نشأت أيضاً في صعيد مصر عام 315-320م أنشأها القديس باخوم ، ومنها انتشرت في الشام وآسيا الصغرى . وفي نفس الوقت دخلت غرب أوروبا على يد القديس كاسليان 370-420م ومارتن التوري 316-387م ، كما ظهر مجموعة من الآباء المتأثرين بمدرسة الإسكندرية الفلسفية ( الأفلاطونية الحديثة ) وبالفلسفة الغنوصية ، مثل كليمنت الإسكندري 150-215م أوريجانوس 185-245م وغيرهم .
· العهد الذهبي للنصارى :
- يطلق مؤرخو الكنيسة اسم العهد الذهبي للنصارى ابتداء من تربع الإمبراطور قسطنطين على عرش الإمبراطورية الرومانية عام 312م لتبدأ مرحلة جديدة من مراحل تاريخ النصرانية .
ويمكن تقسيم ذلك العهد إلى مرحلتين رئيسيتين :
· مرحلة جمع النصارى على عقيدة واحدة ( عصر المجامع أو عهد الخلافات والمناقشات ) :
- ما إن أعلن قسطنطين إعلان ميلان حتى قرب النصارى وأسند إليهم الوظائف الكبيرة في بلاط قصره ، وأظهر لهم التسامح ، وبنى لهم الكنائس ، وزعمت أمه هيلينا اكتشاف الصليب المقدس ، الذي اتخذه شعاراً لدولته بجانب شعارها الوثني ،فنشطت الدعوة إلى النصرانية ، ودخل الكثير من الوثنيين وأصحاب الفلسفات في النصرانية ، مما كان له أثره البالغ في ظهور الكثير من العقائد والآراء المتضاربة ، والأناجيل المتناقضة ، حيث ظهر أكثر من خمسين إنجيلاً ، وكل فرقة تدعي أن إنجيلها هو الصحيح وترفض الأناجيل الأخرى .
- وفي وسط هذه العقائد المختلفة والفرق المتضاربة ما بين من يؤله المسيح وأمه ( الريمتين ) أو من يؤله المسيح فقط . أو يدعي وجود ثلاثة آلهة : إله صالح وإله طالح ، وآخر عدل بينهما ( مقالة مرقيون ) . أعلن آريوس أحد قساوسة كنيسة الإسكندرية صرخته المدوية بأن المسيح عليه السلام ليس أزلياً، وإنما هو مخلوق من الأب ، وأن الابن ليس مساوياً للأب في الجوهر ، فالتف حوله الأنصار وكثر أتباعه في شرق الإمبراطورية حتى ساد مذهبه التوحيدي كنائس مصر والإسكندرية وأسيوط وفلسطين ومقدونيا والقسطنطينية وأنطاكية وبابل ، مما أثار بطريرك الإسكندرية بطرس ضده ولعنه وطرده من الكنيسة ، وكذلك فعل خلفه البطريرك إسكندر ، ثم الشماس إثناسيوس ، وضماناً لاستقرار الدولة أمر الإمبراطور قسطنطين عام 325م بعقد اجتماع عام يجمع كل أصحاب هذه الآراء للاتفاق على عقيدة واحدة يجمع الناس حولها ، فاجتمع في نقية 2048 أسقفاً منهم 338 يقولون بألوهية المسيح ، وانتهى ذلك المجمع بانحياز الإمبراطور إلى القول بألوهية المسيح ولينفض على القرارات التالية :
1- لعن آريوس الذي يقول بالتوحيد ونفيه وحرق كتبه ، ووضع قانون الإيمان النيقاوي ( الأثناسيوسي ) الذي ينص على ألوهية المسيح .
2- وضع عشرين قانوناً لتنظيم أمور الكنيسة والأحكام الخاصة بالأكليريوس .
3- الاعتراف بأربعة أناجيل فقط : ( متى ، لوقا ، مرقس ، يوحنا ) وبعض رسائل العهد الجديد والقديم ، وحرق باقي الأناجيل لخلافها عقيدة المجمع .
- للتغلب على عوامل انهيار وتفكك الإمبراطورية أنشأ قسطنطين مدينة روما الجديدة عام 324م في بيزنطة القديمة باليونان على نفس تصميم روما العديمة ، وأنشأ بها كنيسة كبيرة ( أجيا صوفيا ) ورسم لهم بطريركاً مساوياً لبطاركة الإسكندرية وأنطاكية في المرتبة على أن الإمبراطور هو الرئيس الأعلى للكنيسة . وعرفت فيما بعد بالقسطنطينية ، ولذلك أطلق عليها بلاد الروم ، وعلى كنيستها كنيسة الروم الشرقية أو كنسية الروم الأرثوذكس .
- تمهيداً لانتقال العاصمة إلى روما الجديدة ( القسطنطينية ) اجتمع قسطنطين بآريوس حيث يدين أهل القسطنطينية والجزء الشرقي من الإمبراطورية بعقيدته ، وإحساساً منه بالحاجة إلى استرضاء سكان هذا القسم أعلن الإمبراطور موافقته لآريوس على عقيدته ، وعقد مجمع صور سنة 334 م ليعلي من عقيدة آريوس ، ويلغي قرارات مجمع نيقية ، ويقرر العفو عن آريوس وأتباعه . ولعن أثناسيوس ونفيه ، وهكذا انتشرت تعاليم آريوس أكثر بمساعدة الإمبراطور قسطنطين .
· مرحلة لانفصال السياسي :
- قسم قسطنطين الإمبراطورية قبل وفاته عام 337م على أبنائه الثلاثة : فأخذ قسطنطين الثاني الغرب ، وقسطنطيوس الشرق ، وأخذ قنسطانس الجزء الأوسط من شمال إفريقيا ، وعمد كل منهم إلى تأييد المذهب السائد في بلاده لترسيخ حكمه . فاتجه قسطنطيوس إلى تشجيع المذهب الآريوسي ، بينما شجع أخوه قسطنطين الثاني المذهب الأثناسيوسي مما أصل الخلاف بين الشرق اليوناني والغرب اللاتيني .
- توحدت الإمبراطورية تحت حكم قسطنطيوس عام 353-361م بعد وفاة قسطنطين الثاني ، ومقتل قنسطانس ، ووجد الفرصة سانحة لفرض مذهبه الأريوسي على جميع أجزاء الإمبراطورية شرقاً وغرباً .
- لم يلبث الأمر طويلاً حتى اعتلى فلؤديوس عرش الإمبراطورية 379-395م الذي اجتهد في إلغاء المذهب الآريوسي والتنكيل بأصحابه ، والانتصار للمذهب الأثناسيوسي .
- ولذلك ظهرت في عهده دعوات تنكر الأقانيم الثلاثة ولاهوت الروح القدس ، فقرر عقد مجمع القسطنطينية الأول 382م ، وفيه فرض الإمبراطور العقوبات المشددة على أتباع المذهب الآريوسي . كما تقرر فيه أن روح القدس هو روح الله وحياته ، وأنه من اللاهوت الإلهي ، وتم زيادته في قانون الإيمان النيقاوي ، ولعن من أنكره مثل مكدنيوس ، وذلك بالإضافة إلى عدة قوانين تنظيمية وإدارية تتعلق بنظام الكنيسة وسياستها .
· نشأة البابوية :
- على إثر تقسيم الإمبراطورية إلى شرقية وغربية ، ونتيجة لضعف الإمبراطورية الغربية تم الفصل بين سلطان الدولة والكنيسة ، بعكس الأمر في الإمبراطورية الشرقية حيث رسخ الإمبراطور قسطنطين مبدأ القيصرية البابوية ، ومن هنا زادت سلطات أسقف روما وتحول كرسيه إلى بابوية لها السيادة العليا على الكنيسة في بلدان العالم المسيحي الغربي ( روما - قرطاجة ) . وقد لعب البابا داماسوس الأول 366-384م دوراً هاماً في إبراز مكانة كرسي روما الأسقفي - سيادة البابوية - ، وفي عهده تم ترجمة الإنجيل إلى اللغة اللاتينية ، ثم تابعه خلفه البابا سيري كيوس 384-399م في تأليف المراسم البابوية .
· بداية الصراع والتنافس على الزعامة الدينية بين الكنيستين :
- ظهر الصراع والتنافس بين كنيسة روما بما تدعي لها من ميراث ديني ، وبين كنيسة القسطنطينية عاصمة الدولة ومركز أباطرتها في مجمع أفسس الأول عام 431م حيث نادى نسطور أسقف القسطنطينية بانفصال طبيعة اللاهوت عن الناسوت في السيد المسيح عليه السلام ، وبالتالي فإن اللاهوت لم يولد ولم يصلب ، ولم يقم مع الناسوت ، وأن المسيح يحمل الطبيعتين منفصلتين : اللاهوتية والناسوتية ، وأنه ليس إلها ، وأمه لا يجوز تسميتها بوالدة الإله ، وقد حضر المجمع مائتان من الأساقفة بدعوة من الإمبراطور ثؤديوس الصغير ، الذي انتهى بلعن نسطور ونفيه ، والنص في قانون الإيمان بأن مريم العذراء والدة الإله .
- وبثت دعوى أرطاخي باتحاد الطبعتين في السيد المسيح عقد له أسقف القسطنطينية فلافيانوس مجمعاً محلياً وقرر فيه قطعه من الكنيسة ولعنه ، لكن الإمبراطور ثاؤديوس الصغير قبل التماس أرضاخي ، وقرر إعادة محاكمته ، ودعا لانعقاد مجمع أفسس الثاني عام 449م برئاسة بطريرك الإسكندرية ديسقورس لينتهي بقرار براءته مما نسب إليه .
· انفصال الكنيسة مذهبياً :
- لم يعترف أسقف روما ليو الأول بقرارات مجمع أفسس الثاني 449م وسعى الإمبراطور مركيانوس لعقد مجمع آخر للنظر في قرارات ذلك المجمع ، فوافق الإمبراطور على عقد المجمع في القسطنطينية ، ثم في كلدونية 451م لمناقشة مقالة بابا الإسكندرية ديسقورس : من أن للمسيح طبيعتين في طبيعة واحدة ( المذهب الطبيعي - المونوفيزتية ) ، ليتقرر لعن ديسقورس وكل من شايعه ونفيه ، وتقرير أن للمسيح طبيعتين منفصلتين . فكان ذلك دافعاً أن لا تعترف الكنيسة المصرية بهذا المجمع ولا بالذي يليه من المجامع . ومنذ ذلك التاريخ انفصلت الكنيسة مستقلة تحت اسم الكنيسة المرقسية - الأرثوذكسية - أو القبطية تحت رئاسة بطريرك الإسكندرية ، وانفصلت معها كنيسة الحبشة وغيرها ، لييدأ الانفصال المذهبي عن الغربية . بينما اعترفت كنيسة أورشليم الأرثوذكسية بقرارات مجمع كلدونية وصارت بطريركية مستقلة تحت رئاسة البطريرك يوفيناليوس .
· نشأة الكنيسة اليعقوبية :
- واجه الإمبراطور جستنيان 527-565م صعوبة بالغة في تحقيق طموحه بتوحيد مذهبي الإمبراطورية لتتحقق له سلطة الإمبراطورية والبابوية معاً . بعد انتصاره في إيطاليا ودخل جيوش روما حاول إرضاء زوجته بفرض مذهب الطبيعة الواحدة ( المونوفيزتية ) على البابا فجليوس الذي رفض ذلك بشدة ، مما عرضه إلى القبض عليه وترحيله إلى القسطنطينية ، ليعقد مجمع القسطنطينية الخامس سنة 553م الذي انتهى بتقرير مذهب الطبيعة الواحدة ، ولعن أصحاب فكرة تناسخ الأرواح ، وتقرير أن عيسى عليه السلام كان شخصية حقيقة وليست بخيالية .
- ومن آثار هذا المجمع استقلال أصحاب مذهب الطبيعة الواحدة إقامة كنسية الرهامما زاد في عداء البابوية للإمبراطورية الشرقية .
· نشأة الكنيسة المارونية :
- في عام 678-681م عمل الإمبراطور قسطنطين الرابع على استرضاء البابا أجاثون بعدما فقد المراكز الرئيسية لمذهب الطبيعة الواحدة في مصر والشام لفتح المسلمين لهما ، فتم عقد مجمع القسطنطينية الثالث عام 680م للفصل في قول يوحنا مارون من أن للمسيح طبيعتين ومشيئة واحدة . وفيه تقرر أن للمسيح طبيعتين ومشسئتين ، ولعن وطرد من يقول بالطبيعة الواحدة أو بالمشيئة الواحدة ، ولذلك انفصلت طائفة المارونية ولحقت بسابقتها من الكنائس المنفصلة .
· انفصال الكنيسة إدارياً :
- جاء هذا الانفصال بعد النزاع والصراع الطويل ابتداء من الإمبراطور ليو الثالث 726م الذي أصدر مرسوماً يحرم فيه عبادة الأيقونات ، ويقضي بإزالة التماثيل والصور الدينية والصلبان من الكنائس والأديرة والبيوت على أنها ضرب من الوثنية ، متأثراً بدعوة المسلمين لإزالة هذه التماثيل التي بالكنائس في داخل الدولة الإسلامية .
- تصدى لهذه الدعوة البابا جريجوري الثاني ، ثم خلفه البابا جريجوري الثالث ليصدر الإمبراطور قراراً بحرمان الكراسي الأسقفية في صقلية وجنوب إيطاليا من سلطة البابا الدينية والقضائية وجعلها تحت سلطان بطريرك القسطنطينية . واستمر الوضع على ذلك إلى أن جاء الإمبراطور قسطنطين الخامس 741-775م ، وازدادت الثورات اشتعالاً ضد دعاة اللاأيقونية ، فعقد مجمعاً ، ولم يحضره سوى ثلاثمائة وأربعين أسقفاً تحت رئاسة بطريرك القسطنطينية ليقضي بتحريم تصوير المسيح في أي شكل ، وكذلك تحريم عبادة صور القديسين ، وتحريم طلب الشفاعة من مريم ، لأن كل هذا من ضروب الوثنية .
- ولكن هذه القرارات لم تدم طويلاً حيث أمرت الإمبراطورة الأيقونية إبرين التي خلفت زوجها الإمبراطور ليو الخزري بعقد مجمع نيقية عام 787م بعد تعيينها للبطريرك خرسيوس المتحمس للأيقونية بطريركاً على القسطنطينية ، وانتهى المجمع على تقديس صور المسيح ووالدته والقديسين ،ووضع الصور في الكنائس والأديرة والبيوت والطرقات بزعم أن النظر إليهم يدعو للتفكير فيها .
- في عمان 869م أثار بطريرك القسطنطينية فوسيوس مسألة الروح القدس من الأب وحده فعارضه - كالعادة - بطريرك روما وقال إن انبثاق الروح القدس من الأب والابن معاً ، وعقد لذلك مجمع القسطنطينية الرابع 869م ( مجمع الغرب اللاتيني ) الذي تقرر فيه أن الروح القدس منبثقة من الأب والابن معاً ، وأن جميع النصارى في العالم خاضعون لمراسيم بابا روما ، وأن من يريد معرفة ما يتعلق بالنصرانية وعقائدها عليه برفع دعواه إلى بابا روما . ولذلك تم لعن وعزل فوسيوس وحرمانه وأتباعه ، إلا أن فسيوس استطاع أن يعود إلى مركزه مرة أخرى . وفي عام 879م عقد المجمع الشرقي اليوناني ( القسطنطينية الخامس ) ليلغي قرارات المجمع السابق ، ويعلن أن الروح والقدس منبثقة من الأب وحده ويدعو إلى عدم الاعتراف إلا بالمجامع السبعة التي آخرها مجمع نيقية 787م .
- وهكذا تم الانفصال المذهبي للكنيسة الشرقية تحت مسمى الكنيسة الشرقية والأرثوذكسية ، أو كنيسة الروم الأرثوذكس برئاسة بطريرك القسطنطينية ومذهباً بأن الروح القدس منبثقة من الأب وحده ، على أن الكنيسة الغربية أيضاً تميزت باسم الكنيسة البطرسية الكاثوليكية ، ويزعم أن لبابا روما سيادة على كنائس الإمبراطورية وأنها أم الكنائس ومعلمتهن ، وتميزت بالقول بأن الروح القدس منبثقة عن الأب والابن معاً . ولم يتم الانفصال النهائي - الإداري - إلا في عام ( 1054م ) ، وبذلك انتهى عهد المجامع المسكونية ،وحلت محلها المؤتمرات الإقليمية أو سلطات البابا المعصوم لتستكمل مسيرة الإنحراف والتغيير في رسالة عيسى عليه السلام .
- ومن أبرز سمات هذه المرحلة الأخيرة - القرون الوسطى - الفساد ، ومحاربة العلم والعلماء والتنكيل بهم والاضطهاد لهم ، وتقرير أن البابا معصوم له حق الغفران ، مما دفع إلى قيام العديد من الحركات الداعية لإصلاح فساد الكنيسة ، وفي وسط هذا الجو الثائر ضد رجال الكنيسة انعقد مؤتمر تزنت عام 1542-1563م لبحث مبادئ مارتن لوثر التي تؤيدها الحكومة والشعب الألماني ،وانتهى إلى عدم آراء الثائرين أصحاب دعوة الإصلاح الديني . ومن هنا انشقت كنيسة جديدة هي كنيسة البروتستانت ليستقر فارب النصرانية بين أمواج المجامع التي عصفت بتاريخها على ثلاث كنائس رئيسية لها النفوذ في العالم إلى اليوم ، ولكل منها نحلة وعقيدة مستقلة ، وهي : الأرثوذكس ، الكاثوليك ، البروتستانت ، بالإضافة إلى الكنائس المحدودة مثل : المارونية ، والنسطورية ، واليعقوبية ، وطائفة الموحدين ، وغيرهم .
يتبعhgkwvhkdi
المفضلات