الأزمنة في اللغة العربية
فريد الدين آيدن
موضوعنا بصدد الصّيغةِ الزّمنيّةِ الموضوعةِ للفعل. فالصيغة الزّمنـيّةُ لها دلالات مقرونة بأحد الأزمنة المطلقة؛ وهي الماضي والحال والإستقبال؛ كبناء الماضي على الفتح، واستهلال المضارع بأحد حروف المضارعة، ودخول السين وسوف على المستقبل. فإذا كانت هذه القرائن تدلُّ على المراتب الزمنية للفعل، فإنّ علاقة الفعل بالزمان أكثر شمولا من هذا التقسيم. إذ لا يخفى أنَّ للصّيِغةِ الواحدةِ من الفعل دلالاتٌ متعلقةٌ بأزمنةٍ مختلفةٍ على حسب ما يصطحب الفعل من كلمات أو تركيب. مثلاً فإن (اِنْتَهَى)، وهو فعلٌ ماضٍ، لكن قد يفيد في كلِّ مثالٍ من الأمثلة الآتيةِ الخمسةِ معنى لمراتب الزمان الغابر، يختلف ذلك المعنى في كلِّ واحدٍ منها عن الدلالاتِ الزمنيةِ في بقيةِ الأمثلةِ بسببِ الأدواتِ التي لَحِقَتْ بها وهي:
1ـ انتهى
2ـ قد انتهى
3ـ إذ انتهى
4ـ كان قد انتهى
5ـ لولاه لما انتهى
إنّ المرتبةَ الزمنيةَ التي يدلُّ عليها فعلُ (انتهَى) في كلِّ مثالٍ من الأمثلةِ المذكورةِ، تختلفُ عن بقيَّهِ المراتبِ الزّمنيةِ في الأمثلة الأخرى ، مع أن فعل (انتهى) قد وَرَدَ في كلٍّ من هذهِ الأمثلةِ على السواء. وأغربُ من هذا فإنَّ فعلَ (انتهى) ـ على سبيل المثال ـ في جملة : "إذا انتهى الأجل، إنتهى الوجل" يدلّ على مستقبلٍ مُعَلَّقٍ مع أنّه فعلٌ ماضٍ.
إنَّ التعبيرَ عن علاقةِ الفعلِ بالزّمان لأمرٌ هامٌّ لأنَّ الفعلَ يكثرُ استعمالُهُ في الحديث. وهو أحدُ العناصرِ الثلاثةِ التي يستهلُّ بها غالبُ كُتُبِ النَّحْوِ وتتشعَّبُ منها بقيّةُ أبوابِ القواعدِ، ولأنَّ الفعلَ مقرونٌ بزمانٍ مطلقا،ً بخلافِ الإسمِ والحرفِ، وأنّهُ تزدادُ أهميَّةُ علاقةِ الفعلِ بالزّمان خاصَّةً في ترجمة العقودِ والمواصفاتِ والتقاريرِ وأمثالِهَا من الوثائق ذاتِ الأثرِ في العلاقاتِ البشريةِ.
ثم إنّ للفعلِ ثلاثةُ معانٍ:
الأول منها طبيعيٌّ. وهو مفاد الفعل المجرد .كـ (غَفَرَ، ويَنْطِقُ، وذَهَبْنَا.)
الثاني منها عارضيٌّ. وهو ما يفيد معنى عند الزّيادةِ على حروفه الأصلية. مثل (اِسْتغْفَرَ، ويُقَاتِلُ، وتَعَجَّبْنَا.)
الثالث منها ضِمْنِيٌّ. وهو الذي يظهرُ معناهُ من خلالِ علاقتِهِ بالزّمان.
أما الزّمان، فقد يكون قريباً، أو بعيداً، أو مختلفاً جداً من حيث القرب أو البعد بالنسبة للفاعل أو للرّاوي. إذن فإنَّ علاقةَ الفعلِ بالزّمان في هذ الإطار تكشف لنا تَعَدُّدَ المراتب الزّمنيةِ بأنَّهَا أكثرُ من ثلاثةٍ. وقد يختلف هذا التّعَدُّدُ من لغةٍ إلى أخرى حسب طبيعتِهَا وانسجامِهَا مع اللّغاتِ المتطوّرةِ. فإنّ اللّغاتِ البسيطةَ قد لا تشتمل على مصطلحاتٍ علميةٍ ولا تدعو حاجةُ الناطقينَ بها إلى استعمالِ صِيَغٍ للمراتب الزّمنيَّةِ.
أما الزّمان في الأساس ـ من حيث علاقة الفعل به ـ فينقسم إلى بسيطٍ ومركَّبٍ. فالبسيطُ منهما أصلٌ، والمركَّبُ فرعٌ. لذا فإنَّ الأزمنةَ البسيطةَ مطلقةٌ عن القيودِ، أما المركَّبَةُ فإنَّها مقيَّدَةٌ.
الأزمنةُ البسيطةُ ثلاثةٌ وهي:
1ـ الماضي المطلقُ :
وهو الفعل الذي يُخْبِرُ المتكلِّمُ أو الرّاوي أنّه حدثَ في سابقٍ من الزّمان دونما أيِّ تقييدٍ لَهُ بوقتٍ مُعَيَّنٍ . مثل (أنْطَقَتْ، وَمَا عَطَفُوا، وَلاَ عَرَفُوا) في قول الشاعر:
وأنطقت الدّراهِمُ بَعْدَ صمتٍ * أُنَاساً بَعْدَ مَا كَانُوا سُكُوتًا
فَمَا عَطَفُوا عَلَى أَحَدٍ بِفَضـْلٍ * وَلاَ عَرَفُوا لِمَكْرُمَةٍ ثُبـُوتًا
(الإمام الشافعي، ديوان الشافعي ص 30 ، دار الجيل، بيراوت- 1974م )
فإنَّ الشاعرَ قد ذكر هذه الأفعالَ الماضيةَ الثلاثةَ دونما تحديدٍ لها بوقت مُعَيَّنٍ. بل أطلقها لشمولها البيانيِّ. وكأنَّ الشاعرَ قال: " كل من أصاب من الغِنَى، يبدأ ينطق بِجُرْأَةٍ بعد أن كان الحرمانُ يُرْغِمُهُ على الصمتِ فيما سَبَقَ" وهذا تعميمٌ يدلُّ على أن (أنْطَقَتْ، وَمَا عَطَفُوا، وَلاَ عَرَفُوا) أفعالٌ مستغرقةٌ في طيِّ الماضي، غيرُ محدودةٍ بجزءٍ منه.
والفعلُ المضارعُ الذي يأتي بعد (لم)،كذالك يدلُّ على الماضي المطلقِ، ولكن على سبيل النّفيِ. مثل (لم يَنَلْ) في قول الشاعر:
"كَمْ شُجَاعٍ لم يَنَلْ مِنْهَا الْمُنَى * وَجَبَانٍ نَالَ غَايَاتِ الأَمَلْ"
هذا، ومن الجديرِ بالإشارةِ؛ أنّ هذه المقولةَ قد جمعتْ بين صيغتي السّلبِ والإيجابِ للماضيِ المطلقِ. قد جائتْ صيغةُ السّلبِ في الصدر (لم يَنَلْ)، وصيغة الإيجابِ في العَجُزِ (نَالَ). فحاصلُ ما يدخلُ تحتَ هذا البابِ: أنَّ كلَّ صيغةٍ فعليةٍ خبريةً كانتْ أم إنشائيةً إذا كانت تُنْبِئُ عن حدثٍ فيما سَبَقَ دونَ أيِّ تحديدٍ بوقتٍ مُعَيَّنٍ فإنّه الماضي المطلق.
2ـ الحال المطلق
هو الفعلُ الذي يُخْبِرُ المتكلِّمُ عن حدوثِهِ في الحيِن الذي يتكلَّمُ دونما تحديدٍ به بوقتٍ مُعَيَّنٍ. كـ (يُنْبِئُ) في الْمَثَلِ السائر :"الصدقُ ينبئُ عَنْكَ لاَ الْوَعِيدُ. فـ (يُنْبِئُ) هنا فعلٌ مضارعٌ مطلَقٌ لا حدودَ لوقتهِ. إذ يُضْرَبُ المثلُ بهذه المقولةِ للجبانِ، يتوعَّدُ ثَّم لا يفعل. وذلك في الحين الذي يناسب، دون أيِّ قيدٍ بوقتٍ مُعَيَّنٍ. يجوز أن يكونَ الفعلُ على صيغةِ الماضي في تأويلِ المضارعِ كما في المثل السائر أيضاً: "مَنْ صَبَرِ ظَفَرَ" أيْ من يَصْبِرْ يَظْفَرْ، في الحين الذي يتمسّك بالصبر. فالظفر موكَلٌ بالصبر في كلِّ حالٍ دونما أيّ قيدٍ بزمانٍ مُعَيَّنٍ. وكذلك الفعلان الواردان في جملتي النفيِ والإثباتِ، كما في المثل التركي: "ما نهض أحدٌ غاضباً إلاَّ وجَلَسَ خَاسِراً" أي من لا يملك نفسه من النهوض غضباً على غيره، فإنه يخسر بذلك في حينه متى كان، على الإطلاق.
3 ـ المستقبل المطلق:
وهو الفعلُ المضارعُ الذي يستهلُّ بإحدىَ أداتَيِ الزّمان الآتي. وهما (السين وسوف) كـ(سَيَعْلَمُ) في قول المتنبي:
سَيَعْلَمُ الْجَمْعُ مِمَّنْ ضَمَّ مَجْلِسَنَا * بِأنَّنِي خَيْرُ مَنْ تَسْعَى بِهِ قَدَمُ
(أبو الطيب المتنبي ـ ديوان المتنبي ص ـ 332، دار بيروت ـ 1980 م )
ومِثْلُهُ "سَوْفَ ـ إِخَالُ ـ أَدْريِ" في قولِ زهير بن أبي سلمى:
وَمَا أَدْريِ وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْريِ * أَقَوْمٌ آلُ حِصْنٍ أَمْ نِسَاءُ.
الأزمنةُ الْمُرَكَّبَةُ:
فإنَّ المُتَوَقَّعَ في كِلْتَا المقولتين غيُر محدَّدٍ بزمانٍ. إنَّ هذه الصِّيَغَ لا قيدَ لَهَا كما مرَّ، وهي مُطْلَقَةٌ مُسْتَغْرَقَةٌ في مفهومِ الزَّمَانِ الْمُقْبِلِ بِتَمَامِهِ.
أما الأزمنةُ المركّبةُ : فهي على ثلاثةِ أقسامِ رئِيسَةٍ. وهي الماضي المقيّد، والحال المقيّد، والمستقبل المقيّد. وكلٌّ منها منقسمٌ إلى فروعٍ مختلفةٍ بقيودٍ خاصَّةٍ يتميَّزُ بها بعضُهَا عن البعض الآخر. وفي غالبها يأتي الفعلُ بعد القيدِ.
أمَّا قيودُ الفعلِ لتحديدِ علاقةِ الزّمانِ به، فكثيرةٌ؛ وغالبُهَا حروفٌ: كقَدْ، ولم، وإذا، وإنْ، وبينما... وبعضها أفعالٌ ناقصةٌ، مثل: كانَ وصارَ، وأصبحَ ...إلخ. وبعضها تعبيراتٌ بسيطةٌ: كأمسِ، وحيثُ، وإيّاَكَ، أو مُرَكَّبَةٌ: مثل (حُكِيَ أنّهُ)، و(رُوِيَ أنّهُ)، و(قيلَ أنّهُ)، و(قال)، و(حدّثني)، و(سَمِعْتُ يَقُولُ)، و(سَبَقَ أنْ) الخ. وهكذا تتفاوت المراتب الزّمنيّة للفعل بهذه القيود، فيكون بعضُها أقربَ زمناً إلى المتكلِّمِ أو أبعدَ إليهِ من بعضِهِ الآخَرِ. ويكون في أنواعٍ منها احتمالُ التّكرارِ دون الأخرى، كما إذا قلتَ: "كُنْتُ أَرَاهُ"؛ فهذا كلامٌ يُوهِمُ التّكرارَ على التّراخي والتّردّدِ، بخلافِ " قَد رَأَيْتُهُ"؛ إذ قولك: "كُنْتُ أَرَاهُ"، أي كنت أراه حيناً بعد حينٍ؛ بينما قولك: " قَدْ رَأَيْتُهُ"، يدلُّ على أن الفعل قد حدث مرةً واحدةً بصورةٍ جازمةٍ. وسيأتي شرح هذه الجوانب للفعل المقيّد المقترن بالزّمان الْمُرَكَّبِ إنْ شاء الله تعالى.
أمَّا الماضي المقيَّد:
فهو على أربعة أبواب:
1ـ الماضي القريب
2ـ الماضي الجازم
3ـ الماضي الرِّوائيّ
4ـ حكاية الماضي الرِّوائيّ
الباب الأوَّل من الماضي المقيَّد:
الماضي القريب:
وهي صيغةُ المخاطَبِ، والمخاطَبَةِ، والمُخاطَبَيْنِ، والمخاطَبِينَ، والمخاطَبَاتِ، والمتكلِّمِ، والمتكلِّمِينَ. إنَّ هذه الصيغ، أقربُ ما حدث من الأفعال بالنسبة للمتكلِّمِ بين المراتبِ الزّمنيّةِ للماضي. نحو: قُلْتَ، وأكْرَمْتِ ، وقرّبْتُما، وَانْسَحَبْتُمْ، وتَناجَيْتُنَّ، وتَمَسَّكْتُ، وَاسْتَغْفَرْنَا. كُلُّهَا جَازِمَةٌ. ولا يشترط في هذا الباب أن يكون الفعلُ على صيغة الماضي في كلِّ الأحوال. بل الفعلُ المضارعُ الذي يأتي بعد بَدَأَ، وأَخَذَ، وطَفِقَ، وجَعَلَ، وعَادَ، وصَارَ، وأَصَبَحَ، ومَازَالَ، وأَقَبَلَ، وأَنْشَأَ، وظَلَّ، وبَاتَ؛ نعم، الفعلُ المضارعُ الذي يأتي بعد هذهِ الأفعالِ، يدلُّ على الماضي القريب أيضاً ولكن يفيدُ التكرارَ والإمتدادَ نحو: "بَدَأَ يُلاَطِفُهُ"، و"أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ"، (الأعراف/150) و" وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ"، و"جعل يُغْريِهِ على خصمه"، و"عاد ينافسه على السلطة"، و"صار يشعر بالندم على ما فعل"، و"أصبح يستوحش منه" و"أقبل يُكَلِّمُهُ بهدوءٍ"، و" ظل يحاسبه على تصرفاته"، و"أنشأ يقول"، و"بات يستأنس به"
الباب الثاني من الماضي المقيَّد: الماضي الجازم:
هو الذي يفيدُ القطعَ ويدلُّ على حدثٍ في وقتٍ مُعَيَّنٍ من الزّمان الماضي.
أما ضَابِطُهُ: فأنْ يأتيَ الفعلُ الماضي في الكلامِ الموجَبِ بعدَ (قَدْ)؛ وفي الكلام السالِبِ بعد (ما) و(لا) النافيتين للجزم وللدلالة على حدوث الفعل مرةً واحدةً. نحو (سَمِعَ) في قوله تعالى: "قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا..." (المجادلة/1)
ونحو(مَا أُخْمِدَتْ)، و(لاَ ذَمَّنَا) في قول الشاعر:
وَمَا أُخْمِدَتْ نَارٌ لَنَا دُونَ طَارِقٍ * وَلاَ ذَمَّنَا فيِ النَّازِلِينَ نَزِيلُ.
(السموأل بن عاديا، ديوان الحماسةـ أبو تمام 1، 26)
أو أن يكون الفعلُ الماضي مقرونًا بقيدٍ من القيودِ الزّمنيّة وهي الظروفُ وأدواتُ الإستفهامِ كما إذا وَقَعَ بعد: إذْ، ولَمَّا، ومُذْ، ومُنْذُ، وحَتَّى؛ كذلك إذا وَقَعَ قبل: عَلَى، وفيِ، وفَوْقَ، وتَحْتَ، ومِنْ، وأَمَامَ، وخَلْفَ، وعَنْ يمين، وعن شمال، وقبل، وبعد، وإلى، وإذا به، وهو (للحالية) وأمس.
وهذه الأمثلة للماضي الجازم بهذه القيود. مثاله مقروناً بظروف تسبقه:
* "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً". ( البقرة/30)
* "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا". (يوسف/22)
* "ولقد نسيتُكَ مُذْ نسيتَ صداقتي * فأبيت أن ألقاك منذ هجرتنا"
ومثال الفعل الماضي مقرونًا بقيودٍ تأتي بعده: بعضها لإنتهاء الغاية، وبعضها للظّرفية:
* "دعا الطير حتى أقبلت من ضرية * دواعي دم مهراقه غير بارح"
(ديوان الحماسة لأبي تمام: 1-288)
* "جلس في المسجد للإعتكاف"
* "وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنْ الْخَلْقِ غَافِلِينَ" (المؤمنون/17)
* " وقف تحت الشجرة"
* " وقف عن شماله ثم جلس عن يمينه"
* " سافر إلى مكة المكرمة لأداء فريضة الحج، ثم رجع بعد شهر."
* " نهض وإذا به ضعف يبدو واضحاً."
* "أقبل وهو يبتسم"
* " وصل أمس"
***
ومثال الفعل الماضي بعد أدوات الإستفهام:
* "هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ" (البروج/17)
* " أَلَمْ تَرَى كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ" (الفيل/1)
* " أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ" (الواقعة/68)
إنَّ الفعلَ الماضيَ بكونه مقروناً بالقيودِ يدلّ على حدثٍ سابقِ الوقوعِ قطعاً إلاَّ ما جاء بعد أدواتِ الإستفهامِ؛ فإنّه جازمٌ حكماً لا حقيقةً، إلاَّ ما جاء في آيات الله البينات. وهو محمول على سابقِ الوقوعِ، ولا ينحصرُ مفهومُ الزّمانِ السابقِ في صيغةِ الفعلِ الماضي. بل يأتي الفعلُ المضارعُ بعد (لم) و(لَمَّا) النافيتين، فيفيدان القطعَ ووُقوعَ الْحَدَثِ في الماضي مع عدم التكرار؛ كما في قوله تعالى: " لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ ". (الإخلاص/3)
وللماضي الجازم مشابهةٌ بالماضي القريب من بعض الوجوه، وبينهما عمومٌ وخصوص.
الباب الثالث من الماضي المقيَّد:
الماضي الرِّوائيّ:
وهو أسلوبٌ للحكايةِ عن أمرٍ حَدَثَ؛ حقيقةً أو حكماً؛ وذلك في زمنٍ غيرِ قريبٍ. وضابطُهُ: أن يأتي الفعلُ على صيغةِ الماضي أو المضارعِ بعد (كَانَ)، وبعد (لَمَّا) الجزائية التي تسبقها (لولا) الشرطيةُ وبعد (ل) الجوابية وبعد (حتى) إذا سبقتها (ماكان) . كل ذلك في الكلام الإيجابي والسلبي على السواء. وهو زمانٌ سابقٌ استغرق فيه حدوثُ الفعلِ عبرَ مُدَّةٍ كقوله تعالى: "وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" (آل عمران، 159) وكقوله تعالى: "مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ" (الشورى/52)
وكقول الشاعر:
وَلَوْلاَ الْمُزْعِجَاتَ مِنَ اللَّيَالي * لَمَا تَرَكَ الْقِطَا طِيبَ الْمَنَامِ.
(أبو محمد عبد الله جمال الدين ابن هشام الأنصاري، قطر الندى وبل الصدى، 14)
وقد يتخلَّلُ حرفُ النفي بين (كان) وبين ما يَتَعَاقَبُهُ من فعلٍ. كقوله تعالى : "كَانُوا لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ" (المائدة، 79)
حكاية الماضي الرّوائيّ:
وهو أسلوبٌ للحكايةِ عن حكايةِ أمرٍ في زمانٍ سابقٍ. ضابطه: أن يأتي الفعل الماضي بعد (كَانَ قَدْ) كقولك "كُنْتُ قَدْ رَأَيُت زَيْداً". هذا في الكلام الخبريِّ. وأمَّا الكلام الإنشائيُّ، فإنّهُ ليس من العادة أن يأتي (قد) بعد (كان) أو قبله كما لو قلت : "مَا كُنْتُ قَدْ رَأَيْتُ" أو " هَلْ كُنْتَ قَدْ رَأَيْتَ زَيْداً؟". فإنّ هاتينِ الصّيغتينِ غيرُ مُعْتادةٍ عندهم. أمّا طريقة بناءِ هذا البابِ: أنْ يأتيَ الفعلُ الماضي بعد تركيبٍ استحدثه العربُ؛ وهو: "لم يسبقْ أنْ". كقولك: "لم يَسْبَقْ لي أنْ رأيْتُ زيداً"، و"مَا سَبَقَ لي أن رأيتُهُ"؛ و"هل سبَقَ لكَ أنْ رأيْتَهُ".
أما الحال المقيّد:
فهو بابٌ واحدٌ، وهو الحالُ السريعُ الذي يتحدّثُ فيه المتكلِّمُ عن أمرٍ لا يزال جارياً بالنسبة له، وإن كان قد مضى بالنسبة لغيرهِ، وضَابِطُ هذا البابِ: أن يكون الفعلُ المضارعُ مقروناً بقيدٍ يحدِّدُهُ لتلك اللحظات التي يتحدّثُ فيها المتكلِّمُ. كَصِيَغِ المخاطَبِ، والمخاطَبَةِ والمخاطَبَيْنِ والمخاطَبِينَ والمخاطَبَاتِ والمتكلِّمِ والمتكلمين من المضارع مع ذكر الضمائر المنفصلة قبلها؛ نحو أنْتَ تقول، وأنتِ تكتبين، وانتما تسمعان، وأنتم تشهدون، وأنْتُنَّ تصدقن ، وانا أنصحكم، ونحن نتعاون. أمَّا صِيَغُ الأمرِ، فإنَّهَا من المستقبل المطلق .
أما المستقبل المقيّد:
فهو على أربعة أبواب:
الباب الأول منه، المستقبل المعلّق:
وهو الفعل الذي يأتي جزاءً للشرط ويجوز أن يكون على صيغة الماضي والمضارع، ومِثَالُهُ من الماضي قول الشاعر:
إِذَا أَنْتَ أَكْرَمْتَ الْكَرِيمَ مَلَكْتَهُ * وَإِنْ أَنْتََ أَكْرَمْتَ اللَّئِيمَ تمرّدا.
أي إنْ تُكْرِمِ الكريمَ تَمْلِكْهُ، وإنْ تُكْرِمِ اللّئيمَ يَتَمَرَّدْ. وهذا تنبيهٌ لمن يُحسِنُ الظّنَّ بالناس ولا يُفَرِّقُ بينهم، فيوشك أن يناله شرٌّ من بعض من أحسن إليه. فإن الإكرام في هذا المثال مشترطٌ على وجهين، ومعلّقٌ على وقتين من المستقبل.
ومثاله من المضارع قوله تعالى: "إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ " (محمد/7)
الباب الثاني من المستقبل المقيد:
المستقبل الرِّوائيّ:
وهو الفعل الماضي الذي يأتي بعد (يَكُونُ قَدْ) وذلك جزاءً لفعلِ الشرطِ كقولك: "إذا سبقْتَهُ تكونُ قد أحرزْتَ النّصرَ"
الباب الثالث من المستقبل المقيّد:
المستقبل السّلْبيُّ الجازم:
وهو الفعل الذي يأتي بعد (لَنْ) كما في قوله تعالى: "لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ " (آل عمران/92)
الباب الرابع من المستقبل المقيّد:
حكاية المستقبل الرّوائيّ:
وهو الفعل الذي يأتي بعد (مَا كَانَ لِـ..) نحو قوله تعالى:" وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ ..." (الأنفال/33)hgH.lkm td hggym hguvfdm
المفضلات